البحث في الموقع

كلمة الحياة

تفسير كتاب مقدّس

"يا ربّ، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك ؟"
(يو 6: 68)
يُعطى تفسيرٌ لنصوص من الكتاب المقدَّس في مركزنا الرُّوحيِّ في زوق مكايل، يوم الثلاثاء من كلِّ أسبوع السَّاعة العاشرة والنِّصف صباحاً، مع الأب ابراهيم سعد.

يمكنكم زيارة قناة YouTube الخاصة بجماعتنا حيث تجدون محاضرات شرح لقراءاتٍ من الكتاب المقدَّس على الرابط التالي:

Link: www.youtube.com/channel/UCNkSg8_ItqffwphbUekKqyA
7/12/2021 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح الثاني والعشرون مكافأة الربّ للمؤمنين المخلِصِين
https://youtu.be/FLqKrVNEkzc

تفسير الكتاب المقدّس
سِفر الرّؤيا
الإصحاح الثاني والعشرون
الأب ابراهيم سعد

7/12/2021

"وَأراني نَهرًا صافيًا مِن ماءِ حياةٍ لامِعًا كَبَلُّورٍ، خارجًا مِن عَرش الله والخروف. في وَسَطِ سوقِها وعلى النَّهر مِن هنا ومِن هناك، شَجَرةُ حياةٍ تَصنَع اثنَتَي عَشرَة ثَمرةً، وتُعطي كُلَّ شَهرٍ ثَمرَها، ووَرَقُ الشَّجرةِ لِشِفاء الأُمَم. ولا تكون لَعنةٌ ما في ما بَعد. وعَرشُ الله والخروفِ يكون فيها، وعَبيدُه يَخدِمونه. وَهُم سَيَنظرون وَجهَه، واسْمُه على جِباهِهم. ولا يكون لَيلٌ هناك، ولا يحتاجون إلى سِراجٍ أو نورِ شَمسٍ، لأنَّ الرّبَّ الإلهَ يُنيرُ عليهم، وَهُم سَيَملكون إلى أبد الآبدين. ثُمّ قال لي: «هذه الأقوالُ أمينةٌ وصادقةٌ. والرّبُّ إلهُ الأنبياءِ القِدّيسِين أرسَلَ مَلاكهُ لِيُريَ عَبيدَهُ ما يَنبغي أن يكون سَريعًا». «ها أنا آتي سَريعًا. طوبى لِمَن يَحفظُ أقوالَ نُبُوَّةِ هذا الكِتاب». وأنا يوحنّا الَّذي كان يَنظُر ويَسمَعُ هذا. وَحِين سَمِعتُ ونَظَرتُ، خَرَرتُ لأسجُدَ أمام رِجلَي الملاك الَّذي كان يُريني هذا. فَقال لي: «انظُر لا تَفعَل! لأنّي عَبدٌ معكَ ومع إخوَتِكَ الأنبياء، والَّذِين يَحفَظون أقوالَ هذا الكِتاب. اسجُدْ لله!». وقال لي: «لا تَختِمْ على أقوال نُبُوَّةِ هذا الكِتاب، لأنَّ الوقتَ قَريبٌ. مَن يَظلِم فَليَظلِم بَعد. ومَن هوَ نَجِسٌ فَليَتَنجَّسْ بَعد. ومَن هُو بارٌّ فَليَتَبرَّرْ بَعد. ومَن هُوَ مُقدَّسٌ فَليَتقدَّسْ بَعد». «وها أنا آتي سَريعًا وأُجرَتي مَعي لأُجازيَ كُلَّ واحدٍ كما يكون عَمَلُه. أنا الألِفُ والياءُ، البِدايةُ والنِّهايةُ، الأوَّلُ والآخِرُ». طوبى لِلَّذِين يَصنَعون وَصاياهُ لِكَي يكون سُلطانُهم على شَجَرة الحَياةِ، ويَدخُلوا مِن الأبواب إلى المَدينة، لأنَّ خارجًا الكِلابَ والسَّحَرةَ والزُّناةَ والقَتَلةَ وعَبَدَةَ الأوثان، وكُلَّ مَن يُحِبُّ ويَصنَع كَذِبًا. «أنا يسوعُ، أَرسَلتُ ملاكي لأشهَدَ لَكُم بِهذه الأُمور عن الكنائِس. أنا أصلُ وذُرِّيَّةُ داود. كَوكَبُ الصُّبحِ المُنير». والرّوح والعَروس يقولان: «تَعال!». ومَن يَسمَع فَليَقُل: «تَعال!». ومَن يَعطَشْ فَليَأتِ. ومَن يُرِدْ فَليَأخُذْ ماءَ حياةٍ مجَّانًا. لأنّي أشهَدُ لِكُلِّ مَن يَسمَعُ أقوالَ نُبُوَّةِ هذا الكِتاب: إنْ كان أحدٌ يَزيدُ على هذا، يَزيدُ اللهُ عَلَيه الضَّرباتِ المَكتوبةَ في هذا الكِتاب. وإن كان أحدٌ يَحذِفُ مِن أقوالِ كِتابِ هذه النُّبُوَّةِ، يَحذِفُ اللهُ نَصيبَهُ مِن سِفرِ الحياةِ، ومِنَ المَدينةِ المُقدَّسةِ، ومِنَ المَكتوبِ في هذا الكِتاب. يقولُ الشّاهِدُ بِهذا: «نَعَم! أنا آتي سَريعًا». آمين. تَعالَ أيُّها الرّبُّ يسوعُ. نِعمَةُ رَبِّنا يسوع المسيحِ مع جميعكم. آمين."

نحن الآن أمام المشهد الأخير من الأيقونة الّتي رسمَها يوحنّا، كاتب سِفر الرّؤيا. في هذا الإصحاح، نلاحظ أنّ يوحنّا، قد ذَكَر اسمَه، في حين أنّه لم يَذكره لا في الإنجيل الّذي كتَبَه ولا في الرّسائل الّتي دوَّنَها، ذلك لأنّ الهدف من كتابَتِه للإنجيل وللرَّسائل، كان الإضاءة على الربّ، فيُؤمِنَ السّامعون بالربّ نتيجةَ قبولهم بشارة يوحنّا الرّسول. في الإنجيل الخاصّ به، عرَّف يوحنّا الرَّسول عن ذاته بالقَول: "التِّلميذ الّذي كان يسوع يُحبّه" (يو 21: 7)، وأيضًا مِن خلال عبارة "الّذي عاين شَهِدَ، وشهادتَه حَقٌّ، وهو يَعلَم أنّه يقول الحقَّ لِتُؤمِنوا أنتُم" (يو 19: 35)، مِن دون أن يَذكر اسمَه؛ وفي الرَّسائل، قال "الّذي كان مِن البَدء، الّذي سمعناه، الّذي رأيناه بعيوننا، الّذي شَاهَدناه، ولَمَسَته أيدينا، مِن جهة كلمةِ الحياة" (1 يو1: 1)، مِن دون أن يذكر اسمَه. أمّا في هذا الإصحاح، فنلاحظ أنّ يوحنّا الرَّسول قد أصرَّ على ذِكر اسمِه، وقد ذَكَرَه عدَّة مَرَّاتٍ، لأنّه في هذا الإصحاح قد كَشَف كلَّ شيءٍ، وبالتّالي مِن خلال ذِكرِه لِاسمِه، أراد الرَّسول أن يؤكِّد على شهادتِه الحقيقيّة للربّ، والتأكيد على أنّه أوَّلُ مَن نَقَل هذه الصُّورة للمؤمِنِين.
"وَأراني نَهرًا صافيًا مِن ماءِ حياةٍ لامِعًا كَبَلُّورٍ، خارجًا مِن عَرش الله والخروف": إنّ هذا النّهرَ ليس نهرُ ماءٍ طبيعيّ، بل هو نهرُ ماءِ حياةٍ أبديّة، يَرمُز إلى العطاء النِّهائيّ والكامِل للحياة الأبديّة. إنّ هذا النَّهرَ، بِحَسب قَول الرَّسول، هو نهرٌ لامعٌ كالبِّلور أي أنّه صافٍ جدًّا. إنّ النَّهرَ الموجود في الطّبيعة، عادةً يكون نهرًا جاريًا، وبالتّالي لا تكون مياهُه صافيةً كالبِّلور، كما يُخبرنا الرَّسول في هذا الإصحاح، وبالتّالي، هذا النَّهرُ هو نَهرٌ مُختلِفٌ عن الأنَهار الّتي نَعرِفها في عالَمِنا. ثُمَّ يُخبرنا الرَّسول أنّ هذا النَّهر لا يَخرجُ مِن نَبعٍ، بل مِن عرشِ الله والخروف. إنّ العَرش البشريّ لا يجلس عليه إلّا الـمَلِك فقط، وابنُ الـمَلِك يبقى أميرًا إلى يوم وفاة أبيه، وبالتّالي لا يمكنه الجلوس على العرش قَبْل ذلك الحِين. في البروتوكول الـمَلكيّ، تُعلَن وفاةُ الـمَلِك الحالي تَزامُنًا مع الإعلان عن اسمِ الـمَلك الجديد. إذًا، العرشُ الـمَلكيّ لا يكون أبدًا فارغًا، ولا يستطيع الجلوس عليه إلّا مَلِكٌ واحدٌ فقط. في هذا النَّص مِن سِفر الرّؤيا، يخبرنا يوحنّا الرَّسول عن عرشٍ واحدٍ يجلس عليه الـمَلك أي الله الآب، والخروف أي المسيح، في آنٍ معًا؛ وذلك إشارةٌ إلى وحدانيّة الله، والمساواة في الألوهة بين الله الآب والله الابن.
"في وَسَطِ سوقِها وعلى النَّهر مِن هنا ومِن هناك، شَجَرةُ حياةٍ تَصنَع اثنَتَي عَشرَة ثَمرةً، وتُعطي كُلَّ شَهرٍ ثَمرَها، ووَرَقُ الشَّجرةِ لِشِفاء الأُمَم": هنا نتذكَّر سِفر التَّكوين الّذي أخبَرَنا عن وجود ملاكَين يقومان بحراسة شجرةِ الحياة، كي لا يأكل مِنها آدم. إنّ الله لم يمنع آدمَ عن تناولِ ثَمرِ هذه الشَّجرة كقِصاصٍ له لأنّه أكَلَ مِن شجرة معرفة الخير والشَّر، بل مَنعَه الله عن تناول ثَمر شجرة الحياة، رَحمةً به، إذ سَقَط في الخطيئة: فالله مَنع آدم عن تَناول ثَمر شجرة الحياة كي لا يبقى هذا الأخير حيًّا إلى الأبد، في خطيئته، إذ إنّ الله أراد أن يتوب آدم عن خطيئته ويعود إلى الله، قَبْل أن يأكل مِن ثَمَر شجرةِ الحياة فيَحيا إلى الأبد مع الله. في هذا الإصحاح، يدعونا يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، إلى الأكل من ثِمار هذه الشَّجرة، لأنّه في اليوم الأخير ستُبطَل الخطيئة، ولن يعود للشَّيطان وجودٌ. كلُّ شيءٍ سيُبطَل في اليَوم الأخير، إلّا عطاء الربّ ونورُه والحياة الأبديّة. إنّ شجرةَ الحياة هذه، بِحَسبِ قَول الرَّسول، تُعطي اثنَتَي عشَرةَ ثمرة. إنّ الرَّقم "اثنَي عشر" يرمز إلى الشّموليّة، إلى الكُلِّية، وبالتّالي أراد كاتبُ هذا السِّفر أن يُخبِرنا من خلال ذِكرِه هذا الرَّقم، أنّ هذه الشَّجرة تُعطي ثمرًا مِن كلّ الأنواع، ممّا يجعل الإنسانَ غيرَ محتاجٍ لأيِّ شيءٍ في الملكوت. لقد رأى بعض الـمُفسِّرين، أنّ الرَّقم "اثنَي عشر" في هذا النَّصّ، يرمز إلى الرُّسل الاثنَي عشر الّذين نَقلوا بُشرى الإنجيل إلى أقاصي المسكونة، فآمَن بِفضلِ بشارتهم الكثيرون وأخلَصوا للإنجيل؛ وبالتّالي، فإنّ المقصود بعبارة "اثنَتَي عشرة ثمرة"، بِحَسب تفسير هؤلاء، هو الثَّمرة الّتي نالها المؤمِنون نتيجة إيمانهم بالربّ حين قَبِلوا بشارة الإنجيل مِن الرُّسل الاثنَي عشر. ثمَّ يتابع الرَّسول كلامَه، فيُخبرنا أنّ هذه الشَّجرة تُعطي ثمرةً كلَّ شهرٍ. إنّ السَّنة تتألَّف من اثنَي عشَر شهرًا، وبالتَّالي، أراد الكاتب أن يُخبرنا أنّ هذه الشَّجرة تُعطي ثِمارًا على مدار السَّنة مِن دون تَوقُّف، وبالتّالي فإنَّ ثَمرها لا يَنضُب ولا يَنقُص، وبالتّالي هذه الشَّجرة هي في عطاءٍ مستمرٍّ لا ينقطع. ثُمّ يُخبرنا الرَّسول أنّ ورقَ هذه الشَّجرة هو لِشفاء الأُمَم. وهنا نتذكَّر سِفر التَّكوين الّذي يُخبرنا أنّ آدم قد لَجأ إلى ورقِ الشَّجر ليَستُرَ عَورتَه بعد الخطيئة. أمّا في هذا الإصحاح، فإنّ يوحنّا الرَّسول يُخبرنا أنّ أوراق هذه الشَّجرة هي أوراقٌ لِشفاء الأُمَم، أي أنّها أوراقٌ خلاصيّة، وبالتَّالي لَم تُعد أوراقُ هذه الشَّجرة رَمزًا للخطيئة إنّما للخلاص. في هذا الإصحاح، نلاحظ أنَّ كلَّ ما أخبرنا به الرَّسول في الإصحاحات الماضية قد تَبدّل وتَغيَّر.
"ولا تكون لَعنةٌ ما في ما بَعد. وعَرشُ الله والخروفِ يكون فيها، وعَبيدُه يَخدِمونه. وَهُم سَيَنظرون وَجهَه، واسْمُه على جِباهِهم": في القديم، كانت اللَّعنات والويلات تُقال على الّذِين لا يطيعون كلمة الله، أي على الّذِين لا يحفظونها، بارتكابهم الخطيئة. في اليوم الأخير، ستَزول الخطيئة، وبالتّالي ستَزول معها اللَّعنات، ولن يعود هناك مِن وجود إلّا للبَرَكات فقط. يقول لنا يوحنّا الرَّسول إنّه مِن عرش الله والخروف يَنبع نَهرُ ماءٍ حيٍّ. وهنا نتذكَّر الآية الّتي وردَتْ في الإصحاح السّابق من سِفر الرُّؤيا: "ثُمَّ قال لي: «قد تَمَّ! أنا هو الألِفُ وَالياءُ، البِدايةُ والنِّهايةُ. أنا أُعطي العَطشان مِن يَنبوع ماءِ الحياةِ مجَّانًا. مَن يَغلِبْ يَرثُ كُلَّ شيءٍ، وأكونُ له إلهًا وهو يكونُ لي ابْنًا"(21: 6). أن نكون أبناءً لله، هذا يعني أنّنا وَارِثون له. فالابن يَرث أباه، والابن لا يعود لا عبدًا ولا أجيرًا. للأسف، نحن لا نزال نتصرَّف مع الله على أنّنا عبيدٌ له، وهذه العبوديّة تَخلق في داخلِنا خوفًا مِن غَضب السَّيد أي مِن غضبِ الله، لذا، نلاحظ أنّ طاعتَنا له، في هذه المرحلة، مَبنيّةٌ على الخوف، إذ إنّنا نَنتَظر غياب السَّيِّد، حتّى نُعلِنَ تمرُّدَنا عليه. إنّ هَدَف الأجير هو إرضاءُ سيِّده لأنّ السِّيِّد يُعطيه أَجره، وبالتّالي مَصلحةُ الأجير تكمن في طاعة سيِّده خوفًا مِن خسارة عملِه، لذلك يقوم الأجيرُ بما يُمليه عليه السَّيِّد ليس حبًّا به، إنّما خوفًا مِن فقدان الأَجِر. إنّ العلاقة الوحيدة السَّليمة الّتي تقود إلى العلاقة الكاملة بين الأب وابنِه هي علاقة الـحُبّ: فالابن يقوم بما يُرضي أبيه لأنّه يسعى إلى المحافظة على علاقة الـمَحبّة، لا خوفًا من الأب ولا بسبب وجود مَصلحةٍ معيّنةٍ تَجمَعُهما. لذلك، عندما نقرأ في العهد القديم: "بَدءُ الحِكمة مخافةُ الربّ" (أمثال 9: 10)، فهذا لا يعني الخوفُ من الله، بل تعني أنّ أعلى مستوى الحِكمة هو حين يُصبح الإنسان خائفًا مِن خَراب علاقته مع الله. إذًا، على المؤمِن أن يسعى إلى المحافظة على العلاقة السَّليمة الّتي تجمعه بالله: علاقة الأُبوَّة الّتي منحه إيّاها الله، وعلاقة البُنوَّة الّتي قِبلَها من الله؛ وفي هذه العلاقة لا وجود لِلَّعنات، إذ إنّ عرشَ الله والخروف يكون فيها. في العهد القديم، قال الله لموسى: "لا تَقدِرُ أنْ تَرى وَجهي، لأنّ الإنسانَ لا يَراني ويَعيش"(خر 33: 20). وهنا نتذكَّر أيضًا قَول بولس الرَّسول: "فإنّنا نَنظُرُ الآن في مِرآةٍ، في لُغزٍ، لكِنْ حِينَئذٍ وَجهًا لِوَجهٍ. الآن أعرِفُ بَعض الـمَعرِفَة، لكِن حِينَئذٍ سأعرِفُ كَما عُرِفتُ."(1 كور 13: 12)، وهذا يعني أنّه في اليوم الأخير، سنَرى وَجهَ الله كامِلاً: هذه هي النِّعمة الّتي نَنتظرها، وهذا هو رجاؤنا الحقيقيّ. إنّ اسمَ الله سيَكون على جِباه المؤمِنِين، أي أنّه في اليوم الأخير لن يعود هناك مِن وجود لِاسمِ الوَحش، ولا لِاسمِ التِّنين اللّذَين كلَّمَنا عنهما سابقًا يوحنّا الرَّسول. في اليوم الأخير، لن يعود هناك مِن وجود لِمَلِكٍ إلّا الـمَلِك الحقيقيّ، ولن يعود هناك مِن وجود لأبٍ سوى للأب الحقيقيّ ألا وهو الله، ولن يعود هناك مِن وجود لإله إلّا الإله الحقيقيّ، ولن يعود هناك مِن وجود لمخلِّصٍ إلّا المخلِّص الحقيقيّ، وبالتّالي لن يعود باستطاعة المؤمِن أن يَقرع أبوابَ آلهةٍ أخرى بحثًا عن مخلِّصٍ آخَر له. وهنا، نَتذكَّر المرأة النَّازفة الدَّم، هذه المرأة الّتي لا تستطيع إنجاب الإطفال بسبب نَزفِها، أي أنّها لا تستطيع أن تُعطي الحياة، وقَدْ انفقَتْ أموالها على الأطبّاء مِن أجل الحصول على الشِّفاء، ولكن لم يتمكَّن أحدٌ مِنهم مِن شِفائها، فلجأت إلى الربّ يسوع طالبةً الشِّفاء، فنالَت مُرادَها حين لَمَسَت هُدبَ ثوبه، أي الطرف السُّفلي مِن ثَوبه. وبالتّالي، في اليوم الأخير لن يعود هناك مِن طبيبٍ قادرٍ على شفاء المؤمِنِين إلّا الربّ يسوع. إذًا، في هذا الإصحاح، يُخبرنا الرَّسول يوحنّا، عن الخلاص الحقيقيّ.
"ولا يكون لَيلٌ هناك، ولا يحتاجون إلى سِراجٍ أو نورِ شَمسٍ، لأنَّ الرّبَّ الإلهَ يُنيرُ عليهم، وَهُم سَيَملكون إلى أبد الآبدين": في اليوم الأخير، لن يعود هناك مِن وجودٍ للَّيلٍ وبالتّالي لا وجودَ لِنهارٍ مَصدَرُه الشَّمس. وهذا ما أخبرَنا به الرَّسول في الإصحاح السّابق، إذ قال لنا إنّ الشَّمس والأرض ستَزولان. في اليوم الأخير، سيَكون هناك نهارٌ دائمٌ، مَصدرُه نورُ الربّ. وهنا نتساءل: كيف سيَملك المؤمِنون، ما دام الربُّ الـمَلِكُ حاضرًا، وبالتّالي العرشُ ليس فارغًا؟ إنّ المقصود بعبارة "سيَملِكون معه"، هو أنَّه في اليوم الأخير، سيَشتَرك المؤمنون مع الربّ في الـمُلوكيّة الأبديّة. وهذا ما نقصدُه بعبارة "الكهنوت الملوكيّ" الّذي يناله جميع المؤمِنين فَنَحنُ كمؤمِنِين نَشترك مع الربّ يسوع في التَّقدمة الحقيقيّة لله. في اليَوم الأخير، سيَجلس المؤمنون إلى مائدة العُرس، وسيَأكلون مِن ثمَرِها الكثير والدّائم، ولن يُقدِّموا شيئًا مِن بَعد، لأنّ المائدةَ ممدودةٌ إلى الأبد.
"ثُمّ قال لي: «هذه الأقوالُ أمينةٌ وصادقةٌ. والرّبُّ إلهُ الأنبياء القِدّيسِين أرسَلَ مَلاكَهُ لِيُريَ عَبيدَهُ ما يَنبغي أن يكون سَريعًا». «ها أنا آتي سَريعًا. طوبى لِمَن يَحفَظُ أقوالَ نُبُوَّةِ هذا الكِتاب»". إنّ عِبارَة "أمينةٌ وصادقةٌ" تُذكِّرنا بالإصحاحات الماضية مِن سِفر الرُّؤيا، الّتي فيها ركَّز الكاتب على "الشَّاهد الأمين والصَّادق". وبالتّالي، أراد كاتب سِفر الرُّؤيا أن يُخبرنا أنّ أقواله صادقةٌ إذ إنّها مختومةٌ بِخَتمٍ من الله والخروف. إنّ عبارة "سريعًا" تعني أنّه ما عاد باستطاعة المؤمِن القيام بأيّ شيءٍ سِوى انتظار مَجيء اليوم الأخير. وهنا أتذكَّر قِصَّة راهبٍ، هو مُعَلِّم كبيرٌ في رَهبنَتِه، سُئل يومًا مِن قِبَل تلاميذه، عمّا سيَفعله إذ عَلِم أنّ اليوم الأخير سيأتي قريبًا جدًّا؛ فتفاجأ التّلاميذ بِجَوابه حين قال لهم إنّه يستمرُّ بالعمل الّذي يقوم به، إذ ما مِن شيءٍ آخَرَ يستطيع القيام به، لأنّه مستعدٌّ للِقاء الربّ. وهذا ما علينا نحن أيضًا القيام به: أن نكون في استعدادٍ دائمٍ للقاء الربّ. إنّ عبارة "سَريعًا" قد تكرّرت عدَّةَ مَرّاتٍ في هذا الإصحاح، وفيها تكمن الصُّعوبة، إذ بَعد مرور ألفَي سنة تقربيًا على كتابة سِفر الرُّؤيا، لم يأتِ الربُّ بَعد، ممّا يدفعنا إلى التساؤل حول معنى كلمة "سريعًا". إخوتي، هناك فَرقٌ بين عبارَتين: "يَتباطأ" و"يتأنّى": إنّ الله لا يَتباطأ ولكنّه يتأنّى. أن يتأنَّى الله في قدومِه، فَهذا يعني أنّ هناك هَدفًا مِن تَباطُئِه في المجيء. إنّ كلمة "آتي سَريعًا" تَحمِل في طيّاتها الحبّ والشَّوق الكبيرَين. وإليكم مِثالاً توضيحيًا على ما أقول: عندما يتكلَّم الحبيب مع محبوبِه، يقول له: "أنا آتٍ إليكَ سريعًا"، فيَرُدُّ عليه المحبوب قائلاً: ها قد مَرَّت مدَّةٌ طويلةٌ مِن الزَّمن ولم تَصِل بعد. وبالتّالي، فإنّ المقصود بكلمة "سريعًا" هنا ليس الوقت الزَّمني، إنّما كميّة الطّاقة أو كميّة الشَّوق في داخل الإنسان، اللّذَين يدفعانه إلى الوصول سريعًا إلى المحبوب. إذًا، ما هو مقصودٌ بكلمة "سريعًا" هو هذا العُشق، هذا التّوق للقدومِ سريعًا للقاء المحبوب؛ أمّا موضوع الوقت فهو مرتبطٌ بتأنِّي الله في الـمَجيء، إذ إنّه هو الّذي يُقرِّر متى يَحين الوقت. هنا نتذكَّر أيضًا قَول الرَّسول يوحنّا، في الإصحاح الأوّل مِن هذا السِّفر، "طوبى للّذي يقرأ وللَّذِين يسمعون أقوال النُبُوَّة، ويحفَظون ما هو مكتوبٌ فيها، لأنَّ الوقتَ قريبٌ"(رؤيا 1: 3)، وهذا الكلام يُشير إلى وجود قارئٍ لهذا السِّفر، وعلى وجود سامِعِين. في هذا الإصحاح، يقول لنا يوحنّا الرَّسول "طوبى لِمَن يحفظ أقوالَ هذا الكتاب"، وبالتّالي ليس المطلوب فقط أن يسمع المؤمِنُ أقوالَ هذا الكِتاب، إنّما أيضًا أن يحفظها. إنّ عبارة "يَحفظ"، لا تَعني تسميع هذه الأقوالَ غَيبًا، إنّما تعني جَعل هذه الكلمة محفوظةً مِن دون تشويش، أي مِن دون فساد، أي مِن دون تغيير في مضمونِها، وبالتّالي إنّ عبارة "حِفظ كلمة الله" تَعني المحافظة عليها كما هي. إنّ كلمة الله قادرةٌ على حِفظِ الإنسان مِن دون عيبٍ إذا حَفِظَها هذا الأخير مِن دون تشويش أي مِن دون عيب. إذًا، هناك حِفظٌ متبادلٌ بين الإنسان وكلمة الله.
"وأنا يوحنّا الَّذي كان يَنظُر ويَسمَعُ هذا. وَحِين سَمِعتُ ونَظَرتُ، خَرَرتُ لأسجُدَ أمام رِجلَي الملاك الَّذي كان يُريني هذا. فَقال لي: «انظُر لا تَفعَل! لأنّي عَبدٌ (خادمٌ) مَعكَ ومع إخوتِكَ الأنبياء، والَّذِين يَحفَظون أقوال هذا الكِتاب. اسجُدْ للهِ!»". هنا نلاحظ أنّ يوحنّا الرَّسول، نتيجة حماسَتِه، قد أخطأ بسجوده لملاك. هناك نَوعين من السّجود: السّجود التَّكريمي أو الإكراميّ، والسّجود العِباديّ. إنّ الرّكوع العِباديّ هو لله فقط. في هذا النَّص، قام يوحنّا الرَّسول بسجودٍ عباديّ في غير محلِّه، مِن خلال السّجود للملاك؛ لذلك سارَعه الملاك بالطَّلب إليه أن يتوقَّف عن ذلك لأنّه على مِثالِه مجرَّد خادمٍ لله. نحن المؤمنون خُدَّامٌ لله مِن خلال حِفظنا لِنُبُوءة هذا الكِتاب، وإيصال هذه البشرى السّارة إلى الآخَرين: هذه هي التَّعزية الّتي يُقدِّمها يوحنَّا الرَّسول للسّامِعين لأقوال هذا الكِتاب.
"وقال لي: «لا تَختِمْ على أقوال نُبُوَّةِ هذا الكِتاب، لأنّ الوَقتَ قَريبٌ. مَن يَظلِم فَليَظلِم بَعدُ. ومَن هوَ نَجِسٌ فَليَتَنجَّسْ بَعد. ومَن هُو بارٌّ فَليَتَبرَّرْ بَعد. ومَن هُوَ مُقدَّسٌ فَليَتقَدَّسْ بَعد». إذًا، إنّ النِّهاية قد أصبحَتْ قريبةً، ولكنّها لم تأتِ بعد، لذلك طلبَ الملاك إلى يوحنّا الرَّسول ألا يَختِم على أقوال هذا الكِتاب. أعطى الملاك يوحنَّا الرَّسول فِعلَين سَلبيَّين هما الظّلم والنَّجاسة، ثمّ قابَلَهما بفِعلَين إيجابيّيَن هما البرارة والقداسة. لنتمكَّن مِن فَهم ما قاله الملاك ليوحنّا الرَّسول، إليكم هذا الـمَثل التوضيحيّ: إن كان لامرأةٍ ولدَان: الأوّل مجتهدٌ والآخَر كسولٌ؛ فإنّها عند رؤيتها للأوّل، ستُبادِره بالقول: "أحسَنتَ يا بُنَيّ، تابع درسَك!" والمقصود بذلك أنّه سينال مكافأة تعبه في أثناء الامتحان لأنّه سينجح فيه؛ أمّا عند رؤيتها للثّاني، ستُسارِعه بالقول:"تابِع اللَّعب!"، وهنا ليس المقصود تشجيعه على متابعة اللَّعب، إنّما المقصود هو أنّه سينال مكافأة لِعبه في أثناء الامتحان لأنّه سَيَرسب فيه. إذًا، حين قال الملاك ليوحنّا: "مَن يَظلِم فَليَظلِم بَعدُ. ومَن هوَ نَجِسٌ فَليَتَنجَّسْ بَعد. ومَن هُو بارٌّ فَليَتَبرَّرْ بَعد. ومَن هُوَ مُقدَّسٌ فَليَتقَدَّسْ بَعد»، لم يكن المقصود بهذا الكلام أنّ الله يُشرِّع الظّلم والنَّجاسة، بل كان المقصود بِذَلك إرسال تَنبيهٍ وتحذيرٍ لكلِّ إنسانٍ ظالمٍ ونَجِسٍ، مفاده أنّه سينال في اليوم الأخير نتيجة عملِه الشِّرير. وهنا، نتذكَّر قَول العهد القديم لنا: "ولكِنِّي أُقَسِّي قَلبَ فِرعَون"(خروج7: 3)، وهذا لا يعني أنّ الله قسَّى قلبه، بل يعني أنّ فِرعون كان صاحبَ قلبٍ قاسٍ، لِدرجةٍ أنّ الله تَرَكه لقساوة قلبه، فيكون ذلك سببًا لِسحقه من دون رحمة، لأنَّه سمَح للشَّيطان أن يُسيطِر على قلبه. قال الملاك ليوحنّا إنّ الوقتَ أصبحَ قريبًا جدًّا ليوم مَجيء الربّ، لذا فَليَبقَ الشِّرير على شرِّه والقدِّيس على برارته، إذ سينال كلٌّ منهما ثمرَ عملِه على هذه الأرض. إنّ الوقت قريبٌ يعني أنّ الوقت الآن لا يَسمَح للإنسان بتَغيير حالته الّتي هو فيها. وهذا أيضًا ما قاله بولس الرَّسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس بما معناه لِيَبقَ العازِب عازبًا، وليبقَ المتزِّوج متزوِّجًا لأنّ الوقتَ قريب.
«وها أنا آتي سَريعًا وأُجرَتي مَعي لأُجازيَ كُلَّ واحدٍ كما يكون عَمَلُه. أنا الألِفُ والياءُ، البِدايَةُ والنِّهايَةُ، الأوَّلُ والآخِرُ». إنّ الأُجرة هنا لا تعني أنّ الملاك سينالُ أُجرةً على ما يقوم به، بل تعني أنّه سيقوم بتوزيع المال الّذي ناله مِن الربّ على المؤمِنين كلٌّ بِحَسب عملِه على هذه الأرض. وكي نتمكَّن من فَهم هذا الكلام، إليكم هذا المثَل التَّوضيحي: إذا قام أحدُ أصحاب القُطعان الكبيرة بتوكيل رُعاةٍ للاهتمام برعاية قطيعه، فإنّنا ولا شكّ عند المساء، سَنَرى صاحب القطيع يُعطي الأَجر لكلّ راعٍ يَعمل لديه، كلُّ بِحَسبَ تعبِه. إنّ رؤية القطيع لصاحبه يبعث في نفسه الطمأنينة لأنّه سيُدرِك أنّه سَيَكون بمنأى عن الوحوش الضارية، إذ سيَبيتُ في حظيرةِ صاحبه. إنّ عبارة "وها أنا آتي سَريعًا وأُجرَتي مَعي لأُجازيَ كُلَّ واحدٍ كما يكون عَمَلُه"، تعني أنّ الملاك الـمُرسَل مِن عند الله سيُعطي كلَّ إنسانٍ مكافأةً على عملِه في اليوم الأخير: فيَنال الظالمُ جزاءَ ظُلمِه والقدِّيسُ أَجرَ قداسته. إنّ هذه العبارات الثلاثة "أنا الألف والياء، البِداية والنِّهاية، الأوّل والآخِر"، تُشير إلى أمرٍ واحدٍ وهو الألوهيّة، الأزليّة، السَّرمديّة، الأبديّة.

"طوبى لِلَّذِينَ يَصنَعون وَصاياهُ لِكَي يكون سُلطانُهم على شَجَرةِ الحَياةِ، ويَدخُلوا مِن الأبوابِ إلى المَدينة، لأنَّ خارجًا الكِلابَ والسَّحَرةَ والزُّناةَ والقَتَلةَ وعَبَدَةَ الأوثان، وكُلَّ مَن يُحِبُّ ويَصنَع كَذِبًا." إنّ كلمة "طوبى" تعني "هنيئًا"، وفي اليونانيّة تعني "المغبوط". إنّ عبارة "يصنعون وصاياه"، تعني أنّه لا يكفي أن يكون المؤمِن حافظًا لوصايا الله إذ يجب عليه أيضًا أن يَعمل بها. إنّ الله وَحده له سُلطانٌ على شجرة الحياة، فكيف يستطيع الإنسان أن يملِكَ هذا السُّلطان عليها أيضًا؟ بالطَّبع، للمؤمِن سُلطانٌ على شَجرةِ الحياة، لأنّه ابنٌ لله، وبالتّالي هو وَريثٌ لله، لذا يَحقُّ له في اليوم الأخير أن يتصرَّف بما وَرِثَه مِن الله. هنا نتذكَّر قَول الربّ يسوع لتلاميذه: «الحَقَّ أقولُ لَكُم: إنَّكُم أنتُم الَّذِينَ تَبِعتُموني، في التَّجديد، متى جلسَ ابنُ الإنسان على كُرسِيِّ مَجدِهِ، تَجلِسونَ أنتُم أيضًا على اثنَي عَشَرَ كُرسِيًّا تَدينونَ أسباطَ إسرائيلَ الاثنَي عَشَرَ"(مت 19: 28). إنّ هذه المدينة المقدَّسة الّتي يتكلَّم عليها يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح، لديها عدَّة أبواب لا بابٌ واحد. في الإصحاحات الماضية، قال لنا يوحنّا الرَّسول إنّ لهذه المدينة المقدَّسة اثنَي عشر بابًا. في إنجيل يوحنّا، نقرأ على لسان يسوع الكلام التَّالي: "أنا هُوَ البابُ. إنْ دَخلَ بي أحدٌ فَيَخلُصُ ويَدخُلُ ويَخرجُ ويَجِدُ مَرعًى."(يو 10: 9). إذًا، لا يستطيع المؤمِن الدُّخول إلى الملكوت من أبوابٍ أخرى، غَير تلك الّتي تَدلّ على أنَّ يسوع هو الباب، وهذه الأبواب هي بشارةُ الرّسل الاثنَي عشَر. كانت عِبارة "الكِلاب" تُستَعمل في العهد القديم للإشارة إلى الوثنيِّين، أي الأُمَم الوثنيّة. وهنا نتذكَّر قَول يسوع لتلاميذه: "لا تُعطُوا القُدْسَ لِلكِلاب، ولا تَطرَحوا دُرَرَكُم قُدَّام الخَنازيرِ، لِئلّا تَدوسَها بِأرجُلِها وتَلتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُم."(مت 7: 6). حين جاءت إلى يسوع، قالَتْ المرأة الكِنعانيّة للربّ: «نَعَم، يا سَيِّدُ! والكِلابُ أيضًا تأكُل مِن الفُتاتِ الَّذي يَسقطُ مِن مائدةِ أربابِها!». (متى 15: 27)، فأجابها الربّ قائلاً: «يا امرأةُ، عَظيمٌ إيمانُكِ! لِيَكُن لَكِ كما تُريدين» (متى 15: 28). في نصِّ لعازر والغنيّ، يُخبرنا الإنجيليّ لوقا أنّ الكلاب كانت تلحس قروح لِعازر المطروح على باب الغنيّ. إنّ اسمَ "لِعازَر" يعني "الله مُؤازِري"، "الله عونٌ لي"، الله هو الوحيد الّذي أتعلَّق به. وفي هذا الـمَثل، يُخبرنا الإنجيليّ لوقا أيضًا أنّه كان لهذا الغنيّ خمسةُ إخوةٍ، والرَّقم خمسة يُشير إلى التَّوراة، ممّا يعني أنّ هذا الرَّجُل الغنيّ كان إنسانًا يهوديًا، وبالتّالي كان يعتبر نفسَه كسائر اليهود ابنًا لله. كان لعازر الفقير متَّكلاً على ربِّه ويريد أن يكون ابنًا لله، ولكنّه لم يَجِد مَن يهتمّ به، فيُدرك أنّه حقًا ابنًا لله؛ ولكنَّ النَّص يُخبرنا أنَّ الكِلاب، الّتي ترمز إلى الوثنيِّين، كانت تلحس قروحه، وذلك يعني أنّ الوثنيِّين كانوا يُحاولون جَذبه إليهم مِن جديد لإبعاده عن الله. إنّ السَّحرة هُم عَبدةُ الشَّيطان، أي أنّهم خُدَّامه؛ والزُّناة هُم الّذِين يتعاملون مع عَبَدة الشَّيطان ويتواجدون في محافلهم الوثنيّة. إنّ "القَتلَة وعَبدةُ الأوثان" ما هُم إلّا عباراتٌ توضيحيّة لِما تَمَّ ذِكره سابقًا. إنّ عبارة "منَ يُحِبّ ويَصنَع كَذِبًا"، قد خضعَتْ لتفسيراتٍ كثيرة: فاعتقد البعض أنّ ما قصَده يوحنَّا الرَّسول بهذه العِبارة هو الإشارة إلى جميع الّذين يُحبُّون الكَذِب ويَصنعونه في حياتهم، في حين أنَّني شخصيًّا أعتقد أنّ ما قصَده يوحنّا الرَّسول بهذه العبارة هو الإشارة إلى كلّ مَن يدَّعي الـحُبّ، ولكنَّه في الحقيقة يَفعل عكس ما يدَّعي. إنّ عبارة "الكَذِب" الّتي استعمَلَها يوحنَّا في هذا الإصحاح تُذكِّرنا بما قالَه لنا الرَّسول نفسه في رسالته الأولى: "إنْ قالَ أحدٌ: «إنِّي أُحِبُّ الله» وأَبغَضَ أخاهُ، فَهُوَ كاذِبٌ. لأنَّ مَن لا يُحِبُّ أخاهُ الَّذي أبصَرَهُ، كَيفَ يَقدِرُ أنْ يُحِبَّ الله الَّذي لَمْ يُبصِرهُ؟"(1 يو 4: 20). إنّ صِفة الكاذب قد أطلَقَها يسوع في إنجيل يوحنّا على الشَّيطان، قائلاً فيه إنّه "كَذَّابٌ وأبُو الكَذَّابِ"(يوحنا 8: 44). إنّ عبارة "الكَذِب"، لا تعني أمرًا خاطِئًا يقوم به الإنسان، بل تعني الوَهِم: فالأمرُ الخاطئ له مضمونٌ، أمّا الوَهم فَهوَ فارغٌ مِن أيِّ مضمون. إنّ الشَّيطان لا يقول للمؤمِن أمرًا خاطئًا، بل يقول له أمرًا يُشبه الحقيقة، مِن حيث الشَّكل، ولكنّه فارغٌ مِن أيِّ مضمونٍ، فيَتعلَّق الإنسان بالفَراغ معتقدًا أنّ هذا الفَراغ هو الحقيقة. في بداية سِفر التَّكوين، قالَتْ الحيّة لِآدم وحوَّاء، مُستَخدِمةً المنطق: «أَحَقًّا قالَ الله لا تأكُلا مِن كُلِّ شَجَرِ الجَنَّةِ؟» (تك 3: 1)، ثمّ قامَتْ الحيّةُ بَعدَ سماعِها جواب حوَّاء بإعطائها تفسيرًا يبدو للوَهلة الأولى مُقنِعًا: «لَن تَموتا! بل الله عالِمٌ أنَّه يَومَ تأكلانِ مِنهُ تَنفَتِحُ أعيُنُكما وتَكونانِ كاللهِ عارفَينِ الخَيرَ والشَّرَّ» (تك 3: 4-5). وبالتّالي، ما قامَت به الحيّة هو إقناعُ آدم وحوَّاء بأنّ الله قد مَنعهما عن أَكلِ ثمرِ هذه الشَّجرة كي لا يُصبِحا آلِهةٍ مِثلَه. إنّ الحيّة تمكَّنَتْ مِن إقناع آدم وحوَّاء بِتَفسيرها الخاطئ لكلام الله، في حين أنّ الله لم يقصد أبدًا ما قالَتْه الحيّة، بل ما قصدَه بكلامه هو تنبيهُ آدم وحوَّاء إلى عدم إقامة علاقة في الوقت نفسه بين الخير والشَّر، لأنّ ذلك سيؤدِّي بهما إلى الموت. فَكَلِمة "معرفة" في الكتاب المقدَّس، تعني إقامة علاقة. ونحن اليوم للأسف، نتبنّى تفسير الحيّة، في شَرحِنا لهذا النَّص مِن سِفر التَّكوين، بَدل أن نتبنَّى ما قَصَده الله مِن خلال قَوله هذا الكلام لآدم وحوَّاء. عندما خالفَ آدم وحوَّاء كلام الله، كانت النتيجةُ أنّهما سَقطا في الخطيئة. عند سقوطِهما في الخطيئة، أراد الله حمايتَهما مِن العيش طيلة الحياة الأبديّة في الخطيئة، فمَنَعهما مِن تناول ثَمر شجرة الحياة. إذًا، منذ بداية الكِتاب المقدَّس، أظهَر الله رحمته لآدم وحوَّاء، فأظهرَ لنا مِن خلال تصرُّفه هذا، أنّه مِن غير الممكن على الّذي يُحِبّ ألّا يرحَم مَن يُحِبّ، والدَّليل على أنّ الله أَحَبَّ آدم هو أنّه أشرَكَه في الخَلق، وطلَب إليه تسميّة المخلوقات، ومَن يسمِّي شيئًا يكون له سُلطةٌ عليه. قَبْل الخطيئة، كان الله قد أعطى آدمَ سيادةً على الفِردوس، ولكنَّ آدَم خَسِر تلك السِّيادة على الفردوس بخطيئته، لذا قال له الله: "ملعونةٌ الأرض بسببِكَ"(تك 3: 17). وفي هذا الإصحاح مِن سِفر الرُّؤيا، قال الملاك ليوحنّا الرَّسول إنّه لن تكون لعنةٌ فيما بعد، أي في اليوم الأخير. إذًا، كلُّ ما قام به آدم الأوّل، كان ذو نتيجةٍ مأساويّةٍ على البشريّة، أمّا "آدم الأخير"، لا "آدَم الثّاني"، أي يسوع، فقَدْ كانت نتيجة عملِه ملكوتيّةً على البشريّة، إذ صحَّح ما قام به آدم الأوّل. إنّ آدم الأوّل لم يُطِع الله، بل أطاع إبليس؛ أمّا يسوع، فلم يُطِع إبليس بل أطاع الله، فأدَّت به تلك الطاعة لله إلى الموت على الصَّليب. حين صَعِدَ إلى الجسمانيّة، قال الربّ لأبيه السَّماويّ: «يا أبَتاهُ، إنْ شِئتَ أن تُجيز عنِّي هذه الكأسَ. ولكِن لِتَكُن لا إرادتي بل إرادتُكَ» (لو 22: 42). إنّ هذا الكلام لا يُعبِّر عن خوف الربّ مِن الموت، بل يُعبِّر عن خوف الربّ مِن أن يُصبِح في نَظرِ أبيه خاطئًا، إذ إنّ أَجرَ الخطيئة هو الموت. إذًا، لم يكن الربُّ يرغب في الوقوف أمام أبيه وَقفةَ المتَّهم، إذ إنّه بلا عيب، والدَّليل هو ما قاله الله الآب في ابنه يسوع يوم المعموديّة ويوم التَّجليّ على الجبل: "هذا هو ابني الحبيب الّذي به سُرِرت"(متى 3: 17). إنّ الربَّ يسوع قد حقَّق مَسرَّة الله، بمعنى أنّه كان إنسانًا بلا عيب، أي بلا خطيئة، ولم يَعترِض على أيّ شيء يريده الله، فكان طائعًا على الدَّوام لأبيه السَّماويّ. كان الربّ يَعلَم بوجود مؤامَرةٍ تُحاكُ ضدَّه، ولكنَّه على الرُّغم من ذلك صرخ إلى أبيه السَّماويّ مِن أعلى صليبه طالبًا الغفران لصالبيه، قائلاً: «يا أبَتاه، اغفِرْ لَهُم، لأنَّهُم لا يَعلَمونَ ماذا يَفعَلونَ»(لوقا 23: 34)، مع عِلمه أنّهم كانوا يَدرون ماذا يَفعلون. إخوتي، إنّ الربَّ لم يتنازَل عن طاعته لأبيه السّماويّ، حتّى حين قادته تلك الطاعة إلى السَّير في طريق الصّليب، كما أنّه لم يتنازل عن حبِّه للبشريّة الّذي شكَّل وَحدةً بينه وبين الآب، والدَّليل هو أنّه لم يرضَ أن تُلصَق تُهمَة القتَلة بصالبيه حين يقف هؤلاء أمام عرشِ الله للدَّينونة. إخوتي، نحن ندري ماذا فَعَل القتَلة بيَسوع، ولكنَّنا لا نَدري ماذا فَعل يسوع بهم، إذ إنّنا لا نستطيع أن نُدرِك عظمة حُبّ الربّ للبشريّة. إنّ الربَّ طَلبَ إلينا أن نغفر لإخوتنا سَبعِين مرّة سَبعَ مرّات في اليوم الواحد، وهُنا نطرح السّؤال: هل مَن يستطيع تحقيق كلمة الله هذه؟ في هذا الإصحاح، ظَهرَت قُدرة الله على العطاء المجانيّ في الحُبّ، للّذِين يَقبلون به.
«أنا يسوع، أَرسَلتُ ملاكي لأَشهَدَ لَكُم بِهذه الأُمور عن الكنائِس. أنا أصلُ وذُرِّيَّةُ داود. كَوكَبُ الصُّبحِ المُنير». والرّوح والعَروس يقولان: «تَعال!». ومَن يَسمَع فَليَقُل: «تَعال!». ومَن يَعطَشْ فَليأتِ. ومَن يُرِدْ فَليَأخُذْ ماءَ حياةٍ مجَّانًا. إنّ عبارة "الكنائس" تعني الكنيسة، أي جماعة المؤمِنِين بالربّ، غير أنّ يوحنّا الرَّسول أراد مِن خِلال هذه العبارة التّذكير بالكنائس السَّبع الّتي طَلب إليه الربّ إرسال رسائل إليها في بداية هذا السِّفر. إنّ الرَّقم "سبعة" يرمز إلى الكمال، وبالتّالي قَصد الرَّسول يوحنّا مِن خلال هذه الكنائس السَّبع، الإشارة إلى الكنيسة بأسرِها. إنّ الأصل هو الـمَصدر، أي الكائن قَبْل كُلِّ ذُريّة؛ والذُريّة تَعني النَّسل. وهُنا يُطرَح السُّؤال: كيف يستطيع الربُّ يسوع أن يكون هو أَصلُ داود وفي الوقت نفسه مِن نسل داود؟ إنّ هذه العبارة "أنا أصلُ وذُرِّيَّةُ داود"، تشير إلى أُلوهيّة يسوع وإنسانيّته في آنٍ معًا: فَهو كإلهٍ كائنٌ قَبْل داود، وكإنسانٍ هو مِن نسل داود. حين كان اليهود يُجادلونه، قال الربّ لهم: "كَيفَ يَقولونَ إنَّ المسيح ابنُ داود؟ وداود نَفسُه يَقول في كِتاب الـمَزامير: قال الرّبُّ لِرَبِّي: اجلِسْ عن يَمِينِي" (لوقا 20: 41-42). إنّ كلام يسوع هذا في إنجيل لوقا يفسِّر لنا قَول الربِّ في هذا الإصحاح حين قال عن نفسِه:" أنا الألف والياء، البِداية والنِّهاية، الأوّل والآخِر"، وهذا يعني بكلامٍ آخَر، أنّ الربّ يسوع هو الـمُمسِك بتاريخ البشريّة بأسرِها. في اليوم الأخير، لن تكون الشَّمسُ الكوكبَ المنير، كما أنّ القمر والنُّجوم ستَفقُدُ كلَّ ضوئها، لأنّ الربَّ يسوع سيُصبح في الملكوت هو "الكوكب المنيرُ" وحده على الجماعة المؤمِنة به، لأنّه هو النُّور غير المخلوق. إنّ عبارة "الرُّوح" تَعني الرّوح القدُس، وعبارة "العروس" تعني الكنيسة الّتي اختارها يسوع، فَهي ستكون بانتظار مجيئه الثاني وستصرخ إليه قائلةً له: "تعال!". عندما نتلو صلاة الأبانا، غالبًا ما نُصلِّيها طالبِين إلى الله البقاء في سمائه تاركًا أمرَ إدارة شؤون الأرض لنا. عندما نُصلِّي صلاة الأبانا بهذه الطريقة، فإنّنا نُشابِه الشَّيطان الّذي طلب إلى الربّ في الصَّحراء، أن يسجد له كي يُعطيه جميع ممالِك الأرض، فرَفض الربُّ ذلك. إنّ خوفي كبيرٌ مِن أن تُصبِح الكنيسة مُشابهةً لأورشليم القديمة الّتي تحوَّلت إلى عدوَّةٍ لله، في حين أنّ المطلوب منها هو أن تكون أورشليم الجديدة. وهنا نتذكَّر قَول الربّ لإرميا، حين طَلب إليه الانطلاق للبشارة: «لا تَقُل إنِّي وَلَدٌ، لأنَّك إلى كُلِّ مَن أُرسِلُكَ إلَيه تَذهبُ وتَتكلَّمُ بِكُلِّ ما آمُركَ بِه. لا تَخَفْ مِن وُجوهِهم، لأنِّي أنا معكَ لأُنقِذَكَ، يَقول الرّبُّ» (إرميا 1: 7-8)، وأضاف الربُّ قائلاً له: "اُنظُر! قد وَكَّلتُكَ هذا اليَوم على الشُّعوب وعلى الـمَمالِك، لِتَقلعَ وتَهدِم وتُهلِكَ وتَنقُضَ وتَبني وتَغرِسَ» (إرميا 1: 10). ثمّ يُضيف الربُّ قائلاً له: "هأنذا قد جَعلتُكَ اليَوم مَدينَةً حَصينَةً وعَمودَ حَديدٍ وأسوارَ نُحاسٍ على كُلِّ الأرضِ، لِمُلوكِ يَهُوذا ولِرُؤسائها ولِكَهنَتِها ولِشَعب الأرضِ. فَيُحارِبونكَ ولا يَقدِرون علَيكَ، لأنِّي أنا مَعكَ، يَقول الرّبُّ، لأُنقِذَكَ» (إرميا 1: 18-19). إنّ إرميا قد حَمَل كلمة الله في مدينة أورشليم، لذلك أصبح "مَدينة الله"؛ ومَن حولَه، أي شعبَ أورشليم قد تحوَّلوا إلى أعداءٍ لله إذ يُحاصِرون "مدينة الله" أي إرميا، نَبيّ الله. إخوتي، أخافُ أن تُصبح كنيسةَ الله أشبَه بشَعب أورشليم، تُحاصِر الّذين يَنقلون إليها كلمةَ الله، وهُم قلائلُ في أيّامِنا. وهنا نتذكَّر قَول الربِّ لتلاميذه: "إنّ الحِصاد كثيرٌ، ولكنَّ الفَعَلة قليلون"(لوقا 10:2). حين نقرأ هذا الإصحاح مِن سِفر الرُّؤيا، نَشعُر بالفرح حين نُدرِك ما الّذي سننالُه في اليَوم الأخير، ولكن انتبهوا إخوتي، إذ إنّ هذه المكافآت لن ينالها إلّا المؤمنون الحقيقيّون بالربّ، لا الّذين وُلِدوا مسيحيّين. نحن اليَوم، نَعيش حياتَنا المسيحيّة على رجاء أن تَتحقَّق الكنيسة الّتي يُريدها الربّ يسوع مِن خِلال أعمالنا مع الآخَرين. وبالتّالي، حين نُشارك في ذبيحة الإفخارستَّيا، نعيش حالةَ الملكوت الحقيقيّ مِن خلال تناولِنا جسدَ الربِّ ودَمِه، كما نعيش حالةَ الانتظار والرَّجاء بأن يتحقَّق ملكوت الله كامِلاً، حين نكون مُخلِصين لكلمة الربّ الّتي نسمعها في القدَّاس الإلهيّ. إنّ الّذي يسمع كلمة الله ويحفظها، هو مِن عِداد الكنيسة الّتي تصرخ إلى الربّ قائلةً له: "تعال!". إنّ الربّ هو الّذي يُعطينا الماءَ الحيّ.
"لأنّي أشهَدُ لِكُلِّ مَن يَسمَعُ أقوال نُبُوَّةِ هذا الكِتاب: إنْ كان أحدٌ يَزيد على هذا، يَزيدُ الله علَيه الضَّرباتِ المَكتوبة في هذا الكِتاب. وإنْ كان أحدٌ يَحذِفُ مِن أقوال كِتاب هذه النُّبُوَّة، يَحذِفُ الله نَصيبَه مِن سِفر الحياةِ، ومِن المَدينة المُقدَّسة، ومِنَ المَكتوب في هذا الكِتاب. يَقول الشّاهِدُ بِهذا: «نَعَم! أنا آتي سَريعًا». آمين. تَعال أيُّها الرّبُّ يسوع. نِعمَةُ رَبِّنا يسوع المسيحِ مع جميعكُم. آمين."

إنّ شهادة يوحنّا الرَّسول هذه هي شهادة صادقةٌ، لذا على الّذي يسمع هذه الشَّهادة ألّا يزيد عليها شيئًا أو يُنقِص منها شيئًا، بل أن يَحفَظها. إنّ المقصود هنا بعبارة "الكِتاب" هو كتابُ سِفر الحياة. إنّ المقصود بعبارة "الشّاهد" هو الشَاهد الأمين والصَّادق أي الربّ يسوع، إذ إنّه هو الّذي يُخبر كنيسته الـمُخلِصة له، أنّه آتٍ سريعًا، فتكتمل فَرحتها بِلِقائه في الملكوت.
في الختام، أنصحكم إخوتي بالبَدء بقراءة سِفر الرّؤيا ابتداءً من الإصحاحَين 21 و22، قَبْل البدء بقراءته من الإصحاح الأوَّل، فتُدرِكوا من بداية من هذا السِّفر، مكافأة الّذي يَتبَع الربّ بإخلاص في اليوم الأخير، فتَصبرون على شدائدكم، وتجاهدون في هذه الحياة، وتُحسِنون التصرَّف في أوقات الـمِحن، وتُحسِنون كيفيّة الإصغاء لكلمة الله، فَتحفظون نفوسكم مِن كلّ إغراءات الشّرير وإرهابه، آمين.
ملاحظة: دُوِّنت مِن قَبِلِنا بِتصرُّف.
30/11/2021 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح الواحد والعشرون أرضٌ جديدةٌ وسماءٌ جديدةٌ
https://youtu.be/jnkWKVUjnhc

تفسير الكتاب المقدَّس
سفر الرّؤيا
الإصحاح الواحد والعشرون
الأب ابراهيم سعد

30/11/2021

"ثُمَّ رأيتُ سماءً جديدةً وأرضًا جديدةً، لأنّ السَّماءَ الأُولى والأرضَ الأُولى مَضتا، والبحرُ لا يوجَد في ما بَعد. وأنا يوحنَّا رأيتُ المدينةَ المُقدَّسةَ أورشَليمَ الجديدةَ نازلةً مِن السَّماء مِن عِند الله مُهيَّأةً كعَروسٍ مُزيَّنةٍ لِرَجُلها. وسَمِعتُ صَوتًا عظيمًا مِن السَّماء قائلًا: «هوذا مَسكَنُ الله مع النَّاس، وَهو سَيَسكُن معهم، وَهُم يكونون له شَعبًا، واللهُ نَفْسُه يكون معهم إلهًا لهم. وسَيَمسَحُ اللهُ كُلَّ دَمعةٍ مِن عُيونِهم، والموتُ لا يكونُ في ما بَعدُ، ولا يكونُ حُزنٌ ولا صُراخٌ ولا وَجعٌ في ما بَعد، لأنَّ الأُمورَ الأُولى قد مَضَتْ». وقال الجالسُ على العَرشِ: «ها أنا أصنَعُ كُلَّ شيءٍ جديدًا!». وقال لي: «اكْتُبْ: فإنَّ هذه الأقوالَ صادِقةٌ وأَمينةٌ». ثُمَّ قال لي: «قد تَمَّ! أنا هو الألِفُ وَالياءُ، البِدايةُ والنِّهايةُ. أنا أُعطي العَطشانَ مِن يَنبوعِ ماءِ الحياةِ مجَّانًا. مَن يَغلِبْ يَرِثُ كُلَّ شيءٍ، وأكونُ له إلهًا وهو يكونُ لي ابْنًا. وأمّا الخائفون وَغَيرُ المؤمِنِينَ والرَّجِسونَ والقاتِلونَ والزُّناةُ وَالسَّحَرةُ وعَبَدَةُ الأوثانِ وجَميعُ الكذبة، فَنَصيبهم في البُحَيرةِ المُتَّقدةِ بِنارٍ وكِبريتٍ، الَّذي هو الموتُ الثَّاني». ثُمَّ جاء إليَّ واحدٌ مِن السَّبعةِ الملائكةِ الَّذِينَ مَعهم السَّبعَةُ الجاماتِ المَملوَّةِ مِن السَّبعِ الضَّرباتِ الأخيرةِ، وتَكلَّم معي قائلًا: «هَلُمَّ فَأُريكَ العَروسَ امرأةَ الخَروف». وذَهبَ بي بِالرُّوح إلى جبلٍ عظيمٍ عالٍ، وأراني المدينةَ العظيمةَ أُورشَليمَ المُقدَّسةَ نازلةً مِن السَّماء مِن عندِ اللهِ، لها مَجدُ الله، ولَمعانُها شِبهُ أكرم حَجرٍ كحَجرِ يَشْبٍ بَلُّورِيٍّ. وكان لها سُورٌ عظيمٌ وعالٍ، وكان لها اثْنا عَشَرَ بابًا، وعلى الأبوابِ اثْنا عَشَرَ ملاكًا، وأَسماءٌ مَكتوبةٌ هي أَسماءُ أسباطِ بَني إسرائيل الاثْنَي عَشَرَ. مِن الشَّرقِ ثلاثةُ أبوابٍ، وَمِنَ الشِّمال ثلاثةُ أبوابٍ، وَمِن الجَنوبِ ثلاثةُ أبوابٍ، وَمِنَ الغَربِ ثلاثةُ أبوابٍ. وَسُورُ المدينةِ كان له اثْنا عَشَرَ أساسًا، وَعليها أَسماءُ رُسُلِ الخَروف الاِثنَي عَشَرَ. والَّذي كان يَتكلَّمُ معي كان معه قَصَبَةٌ مِن ذَهبٍ لِكَي يَقيسَ المدينةَ وأبوابها وَسُورَها. والمدينَةُ كانت مَوضوعةً مُربَّعةً، طولُها بِقَدرِ العَرضِ. فَقاسَ المدينةَ بالقَصَبَةِ مَسافةَ اثنَي عَشَرَ ألفَ غَلوَةٍ. الطّولُ والعَرضُ والارتفاعُ مُتَساويةٌ. وقَاسَ سُورَها: مِئةً وأَربَعًا وأربَعِين ذِراعًا، ذِراعَ إنسانٍ أي الملاك. وكانَ بِناءُ سُورِها مِن يَشْبٍ، وَالمدينةُ ذَهبٌ نَقيٌّ شِبهُ زُجاجٍ نَقيٍّ. وَأساساتُ سُورِ المدينةِ مُزَيَّنةٌ بِكُلِّ حجرٍ كريمٍ. الأساسُ الأوّلُ يَشْبٌ. الثَّاني ياقوتٌ أزرقُ. الثَّالثُ عَقيقٌ أبْيَضُ. الرَّابعُ زُمرُّدٌ ذُبابيٌّ، الخامسُ جَزعٌ عَقيقيٌّ. السَّادسُ عَقيقٌ أحمرُ. السَّابعُ زَبَرجَدٌ. الثَّامنُ زُمرُّدٌ سِلْقِيٌّ. التَّاسعُ ياقوتٌ أَصفَرُ. العاشِر عَقيقٌ أخضَرُ. الحادي عَشَرَ أَسْمانجُونيٌّ. الثَّاني عَشَرَ جَمَشْتٌ. وَلِلاثْنَي عَشَرَ بابًا اثنَتا عَشَرَةَ لؤلؤةً، كُلُّ واحدٍ مِنَ الأبواب كانَ مِن لؤلؤةٍ واحدةٍ. وَسُوقُ المدينةِ ذَهبٌ نَقيٌّ كزُجاجٍ شَفّافٍ. وَلَم أَرَ فيها هَيكلًا، لأنّ الرّبّ الله القادر على كُلِّ شيءٍ، هو والخَروفُ هَيكَلُها. والمدينةُ لا تَحتاجُ إلى الشَّمسِ ولا إلى القَمر لِيُضيئا فيها، لأنَّ مَجدَ اللهِ قد أنارها، والخَروفُ سِراجُها. وتَمْشي شُعوبُ المُخَلَّصِينَ بِنُورِها، ومُلوكُ الأرضِ يَجيئونَ بِمَجدِهم وكَرامَتِهم إليها. وأبوابُها لَن تُغلَقَ نهارًا، لأنَّ ليلًا لا يكون هناك. ويَجيئُون بِمَجدِ الأُممِ وكَرامَتِهم إليها. ولَنْ يَدخُلها شَيءٌ دَنِسٌ ولا ما يَصنَعُ رَجِسًا وكَذِبًا، إلَّا المَكتوبِين في سِفرِ حياةِ الخَروف."

إنّ النِّهاية السَّعيدة والفَرحَ الآتي قد تجلَّيا في هذا الإصحاح، بَعد كلّ ما أخبَرنا به يوحنّا الرَّسول في الإصحاحات السَّابقة عمّا سيُعاني منه المؤمنون قبل مَجيء الربّ.
في هذا الإصحاح، يُخبرنا يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، عن حدوثِ خَلقٍ جديدٍ: فالسَّماء الأولى والأرض الأُولى قد زالَتا، وأصبح مكانهما أرضٌ جديدةٌ وسماءٌ جديدةٌ. ليس المقصود هنا بعبارة "جديدة" المعنى الحرفيّ للكلمة، بل ما هو مقصودٌ هو تقديم صورةٍ مُشَّعة للمؤمِنِين عن الملكوت من خلال إستخدام صُوَرٍ عن أغلى أنواع الجواهر. في هذا الإصحاح، يخبرنا كاتب هذا السِّفر عن المدينة المقدَّسة، أورشليم الجديدة، الّتي ليست مِن صُنعِ البشر أي اليهود أو الـمَلك داود، بل هي من صُنعِ الله، إذ إنّها، بِحَسب قَول الكاتب "نازلةٌ من السَّماء، من عِند الله، مُهيَّأة كعروسٍ مُزيَّنة لِرَجُلِها"(رؤيا 21: 2). من خلال هذا العبارة، يبدو لنا أنّ هناك نوعٌ من زواجٍ جديدٍ بين المسيح والكنيسة الظَّافرة أي الـمُنتَصِرة، المؤلَّفة من المؤمِنِين والـمُخَلَّصِين والشُّهداء. في هذا الإطار، نتذكَّر كلام بولس الرَّسول عن سِرّ الزّواج، إذ يقول لنا إنّ الزَّواج الأرضيّ بين الرَّجل والمرأة هو صورةٌ عن زواجِ المسيح والكنيسة. في هذا الإصحاح، نجد أنّ الكنيسة قد وَصلَت إلى كمالها، إذ أصبَحت بلا عيبٍ، وبالتّالي لم تَعدُ محتاجةً إلى غَسْلٍ جديدٍ بالكلمة، على حسب ما قال بولس الرَّسول في رسالته إلى أهل أفسس: "الإصحاح 5".
"وسَمِعتُ صَوتًا عظيمًا مِن السَّماءِ قائلًا: «هُوَذا مَسكَنُ الله مع النَّاسِ، وَهو سَيَسكنُ معهم، وَهُم يكونون له شَعبًا، واللهُ نَفْسُه يكون مَعهم إلهًا لهم. وَسَيَمسَح اللهُ كُلَّ دَمْعةٍ مِن عُيونِهم، والموتُ لا يكون في ما بَعد، ولا يكون حُزنٌ ولا صُراخٌ ولا وَجعٌ في ما بَعد، لأنَّ الأُمورَ الأُولى قد مَضَتْ»". إنّ هذه المدينة المقدَّسة هي صورةٌ عن الملكوت إذ سيَسكن فيها الله مع شعبه. إنّ عبارة "سيَمْسَح الله كلَّ دَمعةٍ من عيونهم"، تُذكِّرنا بما أخبَرنا به كاتب هذا السِّفر عن اضطهاداتٍ وأوجاعٍ وآلامٍ وموتٍ سيتعرَّض لها المؤمنون بالربّ. في المجيء الثَّاني، سيأتي الربّ ليَمسح الدُّموع من عيون المؤمِنِين به، أي أنّه لن يعود هناك من موت، فالدُّموع مرتبطةٌ بالموت. في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا كاتب سِفر الرُّؤيا، صورةً مشِّعةً عن الملكوت تَجعلُ المؤمنِين عند سماعهم هذا الكلام يتساءلون متى سيتحقَّق هذا، فإنّهم من أجل ذلك قد احتَملوا كلّ ما تعرَّضوا له، وصَبروا وجاهدوا لاجتياز المراحل الصَّعبة الّتي عانوا منها على هذه الأرض. نحن اليوم، مِن أكثر النَّاس الّذِين يستطيعون فَهمَ سِفر الرّويا بشكلٍ صحيح نتيجة ما نعاني منه من أزماتٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ في وَطنِنا.
"وقال الجالسُ على العَرشِ: «ها أنا أصنَعُ كُلَّ شيءٍ جديدًا!». وقال لي: «اكْتُبْ: فإنَّ هذه الأقوال صادقةٌ وأَمينَةٌ». في العِبرانيّة، إنّ كلمة "يوشِيب" تعني الجالس على العرش أو الـمُتَعرِّش وهي تُشير إلى الـمَلك، وهي ذات أهميّةٍ كبرى في العهد القديم. إنّ الربَّ سيَصنَع كلَّ شيءٍ جديدًا، وهذا يعني أنَّ القديم قد زال ولم يعد له من وجود. إنّ عبارة "فإنّ هذه الأقوالَ صادقةٌ وأمينةٌ"، تُذكِّرنا بالإصحاحات الأولى من هذا السِّفر، حين كلَّمنا يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، على الشَّاهد الأمين والقَول الصّادق. وفي هذا الإصحاح، يخبُرنا أنّ ما ذَكره في الإصحاحات الأولى قد تحقَّق الآن بِمَجيء المسيح، أي بحلول الملكوت.
"مَنْ يَغلِبْ يَرِثُ كُلَّ شيءٍ، وأكون له إلهًا وهو يكون لي ابْنًا": إنّ عبارة "مَن يغلب" قد ذُكِرَت سَبعَ مرّاتٍ في بداية هذا السِّفر، ولكن في المرَّة السَّابعة قد تمَّتْ إضافةُ عبارةٍ أخرى إليها، وهي "مَن يغلب كما غلبتُ أنا"، والمقصود هنا بعبارة "أنا" هو المسيح يسوع. إنّ الربَّ يسوع قد غلبَ بالشَّهادة أي بالموت على الصّليب، بعبارةٍ أخرى بالإخلاص الكامل لمشيئة الله، حتّى لو قاده ذلك الإخلاص إلى الموت. في هذا الإصحاح، يقول لنا كاتب هذا السِّفر، إنّ مَن يغلب كما غَلب المسيح، سيَكون نصيبَه الجلوس مع الربّ في الملكوت، فَهو سيَرِثُ كلَّ شيءٍ، أي الملكوت. إنّ الابنَ هو الّذي يرثُ أباه، لا العبدُ ولا الأجيرُ. في المعموديّة، يُصبح المؤمِن ابنًا لله بالتَّبنيّ، وبالتّالي وَريثًا للملكوت. ها إنّ وعودَ الله لأبنائه، تتحقَّق في هذا الإصحاح، إذ يُخبرنا الكاتب أنّ مَن يغلب كما غلب المسيح سيُصبح وَريثًا للملكوت، إذ إنّه ابنًا لله. في ظلِّ عيشِ المؤمنِين تحت الاضطهاد والشِّدة، وعدم قدرتِهم على رؤية النِّهاية السَّعيدة الّتي ينتظرونها، يأتي كاتب سِفر الرّؤيا ليُعطي المؤمِنِين مِن خلال كلامه في هذا الإصحاح تَعزيةً إذ يَحثُّهم على الصَّبر والجِهاد أكثر لتخطِّي الصُّعوبات، لأنّهم سيَكونون من أبناء الملكوت، وبالتّالي هو يسعى إلى تشديدهم ودعوتِهم إلى الثَّبات في إيمانهم أي إلى عدم الخوف وعدم الإنجرار وراء إغراءات الشّرير وترهيباته، لأنّهم سيُصبحون من عداد أبناء هذه المدينة المقدَّسة، المحصَّنة ضدّ كلّ قوى الشَّر.
"وأَمَّا الخائفونَ وَغَيرُ المؤمِنِين والرَّجِسون والقاتِلون والزُّناةُ والسَّحَرةُ وعَبَدَةُ الأوثانِ وجميعُ الكَذَبَة، فَنَصيبُهم في البُحَيرة المُتَّقِدةِ بِنارٍ وكِبريتٍ، الَّذي هو الموتُ الثَّاني»". إنّ هذا الكلام يوجِّهه كاتبُ هذا السِّفر إلى كلّ المؤمنِين الّذِين ما زالوا مُتَردِّدين وخائفِين من تهديدات الشِّرير لهم. إنّ عبارة "الكَذَبة" لا تعني الإنسان الكاذب، بل تعني "النّبيَّ الكذَّاب" الّذي كلَّمنا عليه في السَّابق، أي كلّ مَن مع الوحش، الّذي يهدف إلى تضليلنا عن الإيمان الصَّحيح إذ يُقدِّم لنا تعاليم مخالفة لتعاليم الربّ، ويُوهِمنا بأنّها التّعاليم الصَّحيحة، أي تعاليم الربّ. إخوتي، إنّ القداسة مؤسَّسةٌ على الفهم الصَّحيح لإيماننا بالربّ، لا على الخُرافات والاجتهاداتِ الشَّخصيّة حول الإيمان الصَّحيح. في هذا الإصحاح، يُخبرنا كاتب هذا السِّفر، أنّ مَن سيكون تابعًا لعبادة الأوثان، أي لأهوائه وخطاياه، بمعنى آخَر تابعًا للشَّرير، نَصيبُه سيكون الموت الثَّاني؛ أمّا مَن سيَثبُت في إخلاصه للربّ، فإنّ الربَّ يسوع سيَمسح كلّ دَمعةٍ من عينِه في الملكوت، أي أنّه سيَنال القيامة الثّانية؛ إذ إنَّ القيامة الثّانية قد تمَّتْ بموت المسيح على الصَّليب وقيامته.

"ثُمَّ جاء إليَّ واحدٌ مِن السَّبعَةِ الملائكةِ الَّذِين مَعهُم السَّبعَةُ الجاماتِ المَملوَّةِ مِنَ السَّبعِ الضَّرباتِ الأخيرةِ، وتَكلَّمَ معي قائلًا: «هَلُمَّ فأُرِيكَ العَروسَ امرأةَ الخَروف». وَذَهبَ بي بِالرُّوح إلى جبلٍ عظيمٍ عالٍ، وأراني المدينةَ العظيمةَ أُورشَليمَ المُقدَّسةَ نازلةً مِنَ السَّماء مِن عندِ اللهِ، لها مَجدُ الله، ولَمعانُها شِبهُ أكرمِ حَجرٍ كحَجرِ يَشْبٍ بَلُّوريٍّ. وكان لها سُورٌ عظيمٌ وعالٍ، وكانَ لها اثْنا عَشَر بابًا، وعلى الأبوابِ اثْنا عَشَر ملاكًا، وأَسْماءٌ مَكتوبةٌ هي أسْماءُ أسْباطِ بَنِي إسرائيلَ الاِثنَي عَشَرَ": طيلة سِفر الرُّؤيا، قد تكرَّر الرَّقم سبعة، وكلّ ما وَصلنا إليه ظَنَنّا أنّ النِّهاية قد حانَتْ، ولكنّنا كُنّا نُفاجَأ في كلّ مرَّة أنّها لم تأتِ بعد، إذ يَظهر أمامنا أمرٌ مغلقٌ. أمّا في هذا الإصحاح، فيَبدو أنّ الأمور قد وَصَلت إلى نهايتها، وما عاد مِن شيءٍ مُقفَلٌ أمامنا، فالعروس أي الكنيسة الـمُخلِصة للمسيح والأمينة له، تَتزَّوج من جديدٍ المسيح، أي الحَمَل الـمَذبوح والمنتَصِر في آنٍ معًا. إنّ عبارة "الخروف" في سِفر الرُّؤيا تَرتدي وَجهَين: الوجه الأوّل هو الحَمل المذبوح، الّذي مِن خلاله أراد الكاتب التَّركيز على لاهوت الصَّليب، أمّا الوجه الآخَر فهو الخروف الظّافر أي المنتَصِر، وهذا الوجه يُشير إلى لاهوت القيامة. لذلك، إخوتي، في عيد الفِصح، لا تَفصل الكنيسة ليتورجيًّا وأسراريًّا بين موت المسيح وقيامته، لأنّ الإنجيل نفسَه لا يَفصل بَينهما، إذ نقرأ على سبيل الـمِثال، في إنجيل متّى أنّ الدُّنيا قد تزلزلَت بموت المسيح على الصَّليب وتفتَّحَت القبور وقام الأموات مِنها. هذه هي أورشليم الجديدة، أورشليم المقدَّسة، الّتي كلَّمنا عليها يوحنّا، في سِفر الرُّؤيا، فكاتب هذا السِّفر أظهرَ لنا قيامة الربّ من خلال علامات الموت، لأنّه يُخبرنا أنّه عند ظهوره لتُوما الرَّسول، طلب الربّ إلى هذا الأخير رؤيةَ آثار المسامير، دليلَ الصَّلب. إذًا، الموت والقيامة هما وَجهَان لعُملةٍ واحدة هي الملكوت. وبالتّالي، على المؤمن أن يتسلَّح بموت الربّ وقيامته، كي يتمكَّن من متابعة مسيرته على هذه الأرض، فيَتمكَّن مِن تفضيل الموت على إنكاره للمسيح، بمعنى آخَر على المؤمِن الشَّهادة للمسيح على الرُّغم من تَعرُّضه لكافة أنواع الاضطهادات، فيبقى أمينًا للربّ وثابتًا في إيمانه به حتّى اليوم الأخير، فيُصبح المؤمِن في ذلك اليوم عروسَ المسيح، أي "امرأة الخروف" على حسب تعبير الكاتب في هذا النَّص. في هذا الإطار، نتذكَّر من جديد كلام بولس الرَّسول عن الزّواج حين يقول لنا إنّه لا يوجد في الكنيسة إلّا سرُّ زواجٍ واحدٍ هو زواجُ الكنيسة والمسيح، وفي هذا الإطار يدعو بولس الرَّسول الرَّجل إلى أن يُحبَّ امرأته كما أحبَّ المسيح الكنيسة، وأن تحترم المرأة رَجُلَها وتُحبَّه كما أحبَّت الكنيسةُ المسيحَ. إذًا، في الكنيسة، هناك سرُّ زواجٍ واحد هو بين المسيح وكنيسته، وكلّ الّذين يحتفلون بسرِّ الزَّواج، لا يحتفلون بسرِّ زواجٍ بين رَجُلٍ وامرأته، فالرَّجل والمرأة مع بعضهما، يُصبحان عروسًا واحدةً للعريس الّذي هو المسيح، فالرَّجُل والمرأة معًا يُمثِّلان الكنيسة. في سرّ الزَّواج، عند دخول الرَّجل والمرأة إلى الكنيسة يُصبحان "جسدًا واحدًا"، وهذا لا يعني الاتِّحاد من خلال العلاقة الجسديّة بل يعني أنّهما معًا يُمثِّلان الكنيسة الجامعة، عروسَ المسيح. في سرّ الزّواج، يختار الرَّجُل والمرأة أن يُتابعا مسيرتهما الأرضيّة ساعِين في كلّ يوم إلى التغلُّب على الصُّعوبات كما غلبَ المسيحُ الشِّريرَ، من خلال عيشِهما الحبّ والتضحيّة والخدمة والجهاد، في نطاق الحياة الزَّوجيّة الّتي اختاراها. وهنا، أودُّ أن ألفُتَ انتباهِكما إلى أمرٍ مُهمٍّ وهو أنّ حبَّنا البشريّ لبعضِنا البعض غالبًا ما يكون مرتبطًا بمزاجِ كلِّ واحدٍ منّا وبأهوائه وبالظّروف الّتي يعيشها؛ غيرَ أنّ حُبَّ المسيح لكنيسته هو غير مرتبطٍ بشيء، لذا لا يستطيع شيءٌ أن يَفُكَّ هذا الحُبّ ولا حتّى خطيئة الكنيسة. إنّ المسيح يَغسِلُ في كلّ يومٍ كنيستَه من خطيئتها، بواسطة كلمتِه المقدَّسة، فتَعود عروسًا نقيّةً بلا عيب، فيتزوَّجها الربُّ من جديد. انظروا معي إخوتي، إلى عظمة رَحمةِ الربّ إلى كنيسته في يوم مَجيئه الثّاني! ففي مَجيئه الثَّاني، سيبحث الربّ عن عروسه، أي عن الكنيسة الّتي بَقيَت على إخلاصها له حتّى يوم مَجيئه. إنّ عبارة "ذَهَب بي بالرُّوح"، هي عبارةٌ قد استخدمَها النبيّ حزقيال في سِفره، وهي تُشير إلى عَمَلِ الله، وبما أنّ الرُّؤيا هنا هي عملٌ إلهيّ، أعاد كاتب هذا السِّفر، يوحنّا، استخدام عبارة النبيّ حِزقيال.

"والَّذي كان يَتكَلَّمُ معي كان معه قَصَبَةٌ مِن ذَهبٍ لِكَي يَقيسَ المدينةَ وأبوابَها وَسُورَها. والمَدينةُ كانَتْ مَوضوعةً مُربَّعةً، طُولُهَا بِقَدر العَرضِ. فَقاسَ المَدينةَ بِالقَصَبَةِ مَسافَة اثْنَي عَشَرَ ألفَ غَلوَةٍ. الطّولُ والعَرضُ والارتفاعُ مُتَساويةٌ. وقَاس سُورَها: مئةً وأَربَعًا وأربَعِين ذِراعًا، ذِراعَ إنسانٍ أي الملاك. وكان بِناءُ سُورِها مِن يَشْبٍ، والمَدينةُ ذَهبٌ نَقيٌّ شِبهُ زُجاجٍ نَقيٍّ. وأساساتُ سُورِ المَدينةِ مُزَيَّنةٌ بِكُلِّ حجرٍ كريمٍ. الأساسُ الأوَّلُ يَشْبٌ. الثَّاني ياقوتٌ أَزرقُ. الثَّالثُ عَقيقٌ أبْيَضُ. الرَّابعُ زُمرُّدٌ ذُبابيٌّ، الخامِسُ جَزَعٌ عَقيقيٌّ. السَّادسُ عَقيقٌ أحمَرُ. السَّابعُ زَبَرْجَدٌ. الثَّامنُ زُمرُّدٌ سِلْقِيٌّ. التَّاسعُ ياقوتٌ أصفَر. العاشِرُ عَقيقٌ أَخضَرُ. الحادي عَشَرَ أَسْمانْجونيٌّ. الثَّاني عَشَرَ جَمَشْتٌ. وَلِلاثْنَي عَشَرَ بابًا اثْنَتا عَشَرَةَ لؤلؤةً، كُلُّ واحدٍ مِن الأبوابِ كان مِن لؤلؤةٍ واحدةٍ. وَسُوقُ المَدينةِ ذَهبٌ نَقيٌّ كزُجاجٍ شَفَّافٍ". إنّ الّذي كان يُكلِّم الرَّسول يوحنّا كان يُمسِك في يده قَصَبَةً، وبها قاسَ المدينة المقدَّسة فإذا بها مرَّبعة. إنّ عبارة "الطّولُ وَالعَرضُ والارتفاعُ مُتَساويةٌ" تعني أنّ هذه المدينة هي مدينةٌ كاملةٌ متكاملةٌ مِن كلّ النَّواحي. إنّ سُورَ هذه المدينة هو مئةٌ وأربعةٌ وأربعينَ ذراعًا، وهذا الرَّقم هو نتيجةُ عمليّةِ ضَرب الرَّقم اثنَي عشر بالرَّقم ذاتِه. إنّ الرَّقم اثنَي عشر هو رَقمٌ يُشير إلى الكمال. وبالتّالي، مِن خلال هذا الكلام، أراد الكاتب أن يقول لنا إنَّ هذه المدينة المقدَّسة هي مدينةٌ كاملةٌ غير ناقصة، وفِيها لا يعود الإنسانُ بحاجةٍ إلى أيّ شيء. إنّ سردَ الكاتب لِكُلِّ هذه الأنواع من الأحجار الكريمة هو بِهَدف إخبارنا عن عظمة هذه المدينة المقدَّسة ومجدِها ونورِها.
"ولَمْ أَرَ فيها هَيكلًا، لأنَّ الرّبّ اللهَ القادرَ على كُلِّ شيءٍ، هُوَ والخَروفُ هَيكلُها. والمَدينةُ لا تَحتاج إلى الشَّمسِ ولا إلى القَمر لِيُضيئا فيها، لأنَّ مَجدَ اللهِ قد أنارها، والخَروفُ سِراجُها.": إنّ هذه المدينة المقدَّسة لا يوجد فيها هيكلاً يهوديًّا أو هيكلاً وثَنِيًا أو أي هيكلٍ آخَر مِن صناعة بشريّة؛ فالله والخروف هما يشكِّلان هيكلَها. وهنا، نرى الوَحدة الموجودة بين الآب والابن، هذه الوحدة الكاملة الّـتي نراها في كامل عظمتِها وبهائها في الملكوت. إنّ هذه المدينة المقدَّسة لم تَعد بحاجةٍ لا إلى الشَّمس ولا إلى القمر ليُضيئا فيها لأنّ نور الربّ هو الّذي يُشرق فيها. هنا نتذكَّر نصَّ الخَلق في سِفر التَّكوين، الموجود في الإصحاح الأوَّل، إذ أخبَرنا أنّ الشَّمس والقمر قد وُجِدا في اليوم الرَّابع، وبالتّالي ما أراد سِفر التَّكوين إخبارنا به هو أنّه قَبْل وجود الشَّمس والقمر، كان هناك نورٌ هو نورُ الربّ. وهنا ما يؤكِّد عليه كاتب هذا السِّفر، إذ يقول لنا إنّه في المدينة المقدَّسة، أي في الملكوت، لن يعود هناك من وجود لأيِّ نورٍ آخَر سوى نور الربّ. هذا النَّور قد أشار إليه أيضًا الإنجيليّون في مشاهد إنجيليّة مختلفة وأهمَّها ما حدث على جبلِ التجلِّي، إذ قد أشعَّ نور الربِّ وظهرَ إلى العلن أمام التّلاميذ.
"وتَمشي شُعوب المُخَلَّصِين بِنُورِها، ومُلوكُ الأرض يَجيئون بِمَجدِهم وكَرامَتهم إليها. وأبوابُها لَن تُغلَقَ نهارًا، لأنَّ لَيلًا لا يكون هناك. ويَجيئون بِمَجدِ الأُمَم وكَرامَتِهم إليها. ولَنْ يَدخُلَها شَيءٌ دَنِسٌ ولا ما يَصْنَعُ رَجِسًا وكَذِبًا، إلَّا المَكتوبِين في سِفرِ حياةِ الخَروف": في هذه المدينة المقدَّسة، لا وجود لِلَّيل إذ إنّ نور الربّ يُضيئُها على الدَّوام؛ والإنسان الّذي يعيش فيها لا يحتاج إلى شيءٍ. إنّ المقاييس المعتمدة في هذه الدُّنيا من لَيلٍ ونهار قد أُبطِلَتْ، لأنّ الشَّمس الأُولى والأرض الأولى المسؤولتَين عن تَعاقُب النَّهار واللَّيل قد زالَتا. في هذه المدينة المقدَّسة، ستَبقى كلّ الأبواب مفتوحةً ولن تُغلَق أبدًا. إنّ كاتب سفر الرّؤيا لم يَستخدم عبارة "سِفر الحياة" بل استَخدم عبارةَ "سِفر حياة الخروف"، أي أنّ الأسماء المكتوبة في هذا السِّفر، هي أسماء الّذين ثَبتُوا في إيمانهم بالخروف الـمَذبوح والـمُنتصِر أي يسوع المسيح. هنا نتذكَّر كلام الربِّ في الإنجيل، إذ يُعرِّف عن نفسه لنا بالقول:"أنا هو الرَّاعي الصَّالح" (يو 10: 11)، "أنا هُوَ البَابُ. إنْ دَخَلَ بي أحدٌ فَيَخلُصُ ويَدخُلُ ويَخرُجُ ويَجِدُ مَرعًى" (يو 10: 9)، "أنا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي." (يو 14: 6). وبالتّالي، لا يمكن لأحدٍ أن يدخل إلى ملكوت الله إلّا عن طريق الخروف، أي عن طريق الإيمان بالربّ يسوع المصلوب والقائم والآتي. هذه الكلمات الثلاثة مُجتَمعةً، تُشكِّل ركائز إيمانِنا ورجائِنا، وهي سببُ فرحِنا الدّائم.
وهنا يُطرَح السُّؤال: من اليوم حتّى مجيء الربّ الثّاني، ما هو المطلوب مِنّا حتّى نتمكَّن من معاينة هذه الصَّورة البَهيّة الّتي أخبَرنا بها كاتب هذا السِّفر؟ ما هو مطلوبٌ مِنّا هو الصَّبر والثّبات والإخلاص للربّ. وبالتّالي، مهما واجَهْنا في هذه الحياة مِن صعوبات، علينا أن نتمسَّك بكلمة الله كي نتمكَّن من الوصول إلى هذه النِّهاية السَّعيدة الّتي رسمَها لنا كاتب سِفر الرُّؤيا عن الملكوت. إذا عانَينا في هذه الحياة من الفَقر، علينا أن نتذكَّر قَول الربّ لنا: "طوبى للفقراء بالرّوح" (متى 5: 3). وإذا عانَينا مِن الشِّدَة، علينا أن نتذكَّر كلمة الربّ:" طوبى للمُضطَهَدين"(متى 5: 10)؛ وإذا عانَينا من الحزن، فلنتذكَّر قَول الربّ: "طوبى للباكين الآن لأنّهم سيَفرحون" (لوقا 6: 21)، "طوبى لكم إذا عيَّروكم" (متى 5: 11)،"طوبى للودعاء"(متى 5: 5)... كلُّ هذه التطويبات الّتي أعلَنَها الربّ على جبل التطويبات ينالها المؤمِن إذا بَقِيَ على الإيمان والإخلاص للربّ.
لذلك إخوتي، إنّ هذا الإصحاح من سِفر الرّؤيا، الإصحاح 21، برأيي المتواضِع، يجب قراءته إضافةً إلى الإصحاح 22، قَبْل البدء بقراءة سِفر الرُّؤيا، كي نتمكَّن من الحصول على التعزية والرَّجاء، والفرح الّذي ينتظرنا في الملكوت قَبْل الدُّخول في سِفر الرّؤيا الّذي يُكلّمنا في إصحاحاته الأولى على الاضطهادات والشَّدائد الّتي سيُعاني منها كلّ مَن يؤمن بالربّ. فعند معرفتِنا ماذا ينتظِرنا في الملكوت، سنتحلَّى بالشَجاعة والصَّبر والقوَّة لمواجهة كلّ الشَّدائد الّتي تواجهنا في هذه الحياة بسبب إيماننا بالربّ. فإذا كانت صورة الملكوت الّتي قدَّمها لنا يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، نُصبَ عيونِنا فإنّنا حتمًا سنَتَمكَّن من احتمال الشَّدائد، والثَّبات على إخلاصِنا للربّ. إنّ صورة الملكوت الّتي قدَّمها لنا كاتبُ سفر الرّؤيا يجب أن تبقى نُصبَ عيونِنا، كي يبقى لدينا هذه التّعزية وهذا الفرح، وهذا الجهد، وهذا الصَّبر، وهذا الثَّبات. إنّ أهمّ شيطان يواجهنا الآن في ظلّ هذه الظروف الّتي نعيشها هو الشكّ في إيماننا، أي إعادة النَّظر بإيماننا، فنَطرح السُّؤال على ذواتنا: ماذا قدِّم لنا الربَّ في ظلّ ما نواجهه من صعوباتٍ في هذه الحياة؟ لماذا هو لا يزالُ ساكتًا عن أعمالهم الشِّريرة؟ إنّ الأسئلة نفسَها، يعالجها سِفر الرُّؤيا، ويطرحها المؤمِنون الّذِين كُتِب لأجلِهم سِفر الرُّؤيا، إذ يَصرخون إلى الربّ قائلِين: إلى متى يا ربّ؟ متى ستَنتَقم لنا يا ربّ؟ إذًا، إنّ الزَّمن الّذي نعيشه على هذه الأرض هو زمنُ اضطهادٍ لا ينتهي إلّا في الملكوت، بهذه الصُّورة البَهيّة الّتي يقدِّمها لنا هذا الإصحاح. وبالتّالي، مَن يَصبر إلى المنتهى يَخلُص. وهنا أقول لكم، إنْ تعرَّضتم للجوع، انظروا إلى الجِياع من حولِكم. إذا تعرَّضُتم للآلام، انظروا إلى المتألِّمين من حولِكم. عندها ستكتَشِفون أنّكم لستُم الوحيدين الّذِين يعانون من الصُّعوبات في هذه الحياة. لذا، اسعَوا كي تتميَّزوا عن الباقين في عيشِكم للصُّعوبات الّتي تعترض حياتكم بالصَّبر والثَّبات على الإخلاص للربّ، في حين أنَّ قسمًا من المؤمِنِين قد وقعوا في فخّ الشِّرير، فارتدّوا عن إيمانهم وخافوا من تهديدات الشَّرير وخضعوا لإغراءاته واستَسلموا له وانسحبوا مِن مسيرتهم مع الربّ. وتذكَّروا على الدَّوام، أنّ مَن يغلب كما غلبَ الربّ سَيَرِث معه في الملكوت. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت من قِبَلنا بتصرُّف.
24/11/2021 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح العشرون الإخلاص والالتزام بالربّ بالرغم من قوى الشرّ
https://youtu.be/NVbxvjZtdTk

تفسير الكتاب المقدَّس
سفر الرُّؤيا
الإصحاح العشرون
الأب ابراهيم سعد

24/11/2021

"ورأيتُ ملاكًا نازلًا مِن السَّماء معه مِفتاحُ الهاوية، وسِلسِلةٌ عظيمةٌ على يده. فقَبضَ على التِّنِّين، الحيَّةِ القديمةِ، الَّذي هو إبليسُ والشَّيطانُ، وقَيَّده ألفَ سَنةٍ، وطرَحَه في الهاوية وأغلق عليه، وخَتَم عليه لكي لا يُضِلَّ الأُمَم في ما بَعد، حتَّى تَتِمَّ الألفُ السَّنَةِ. وبَعد ذلك لا بُدَّ من أن يُحَلَّ زمانًا يَسِيرًا. ورأيتُ عروشًا فَجَلسوا عليها، وأُعطوا حُكمًا. ورأيتُ نفوسَ الّذِين قُتِلوا مِن أجل شهادة يسوع ومِن أجل كَلِمة الله، والّذِين لَم يَسجُدوا للوَحشِ ولا لِصورته، ولَم يَقبلوا السِّمَة على جباهِهم وعلى أيدِيهم، فعاشوا ومَلكوا مع المسيح ألفَ سَنةٍ. وأمّا بَقيَّة الأموات فلَمْ تَعِشْ حتَّى تَتِمَّ الألفُ السَّنَة. هذه هي القيامة الأولى. مبارَكٌ ومُقدَّسٌ مَن له نَصيبٌ في القيامة الأولى. هؤلاء لَيسَ للموت الثَّاني سُلطانٌ عليهم، بل سَيَكونون كَهَنةً لله والمسيح، وَسَيَملِكون معه ألفَ سَنَةٍ. ثُمَّ متى تَمَّتِ الألفُ السَّنَةِ يُحَلُّ الشَّيطانُ مِن سِجنِه، ويَخرج لِيُضِلَّ الأُمم الّذِين في أربعِ زوايا الأرضِ: جوجَ وماجوج، لِيَجمعَهم للحرب، الَّذِين عددُهم مِثلُ رَملِ البَحر. فصَعِدوا على عَرضِ الأرضِ، وأحاطوا بِمُعسكرِ القدِّيسِين وبالمدينة المحبوبة، فنَزلَتْ نارٌ مِن عند الله مِن السَّماء وأكَلَتهم. وإبليسُ الّذي كان يُضِلُّهم طُرِحَ في بُحَيرة النّار والكِبريت، حيثُ الوَحشُ والنَّبيُّ الكذَّابُ. وسَيُعَذَّبون نهارًا وليلًا إلى أبد الآبدِين. ثُمَّ رأيتُ عَرشًا عظيمًا أبيَضَ، والجالِسَ عليه، الّذي مِن وَجهِه هربَتِ الأرضُ والسَّماءُ، ولَم يُوجَد لهما مَوضِعٌ! ورأيتُ الأمواتَ صِغارًا وكِبارًا واقفِين أمام الله، وانفتَحَتْ أسفارٌ، وانفتَح سِفرٌ آخَرُ هو سِفرُ الحياة، وَدِينَ الأمواتُ مِمَّا هو مكتوبٌ في الأسفار بِحَسبِ أعمالهم. وسَلَّمَ البَحرُ الأمواتَ الّذِين فيه، وسَلَّمَ الموتُ والهاويةُ الأمواتَ الّذِين فيهما. ودِينَ كلُّ واحدٍ بِحَسب أعماله. وطُرِحَ الموت والهاوية في بُحَيرة النَّار. هذا هو الموت الثَّاني. وكلُّ مَن لَم يُوجَد مكتوبًا في سِفر الحياة طُرِحَ في بُحَيرة النَّار".

في هذا الإصحاح، نجد أنّ المشهد الأخير الّذي أخبَرنا به يوحنّا الرَّسول، طيلة هذا السِّفر، ينجلي أمام عيوننا. كما يبدو لنا واضحًا في هذا الإصحاح أنّ هذا السِّفر الّذي كان مختومًا بإحكامٍ، سيَتمُّ فَتحُه أخيرًا. إنّ هذا النَّصَ صعبٌ، إذ إنّ المشكلة فيه تكمن في كَثرة المفسِّرين الحديثِين له، لأنّهم يُنزِلون عليه نَظراتِهم إلى الواقع العالَمي اليوم. وإليكم مَثلاً يُوَضِّح ما أقوله لكم: إنّ عبارة "جوجَ وماجوج"، الّتي استعملها الكاتب في هذا الإصحاح، قد ذُكِرت في العهد القديم، تحديدًا في سِفر حزقيال الإصحاح 38، وقد قَصَد بها النَّبيُّ الشُّعوبَ الّتي ستأتي من الشَّرق الأقصى، أي من البَعيد. إنّ بعض المفسِّرين قد رأوا أنّ ما قصدَه يوحنّا، كاتب سِفر الرُّؤيا، في استخدامه هذه العبارة هو الصِّين، في حين رأى آخَرون أنّ المقصود بها هو روسيا وسيبيريا، إذ يعتقدون أنّ هذه الشَّعوب ستأتي من البَعيد لِتَشنّ حروبًا في الشّرق وتحتّل بلاده. إذا اعتمَدنا على تحليلات هؤلاء المفسِّرين، فإنّنا، ولا شكّ، سنَقع في الفخّ، لأنّ الحرب الّتي قصدَها يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، هي الحرب الرّوحيّة الّتي يواجهها كلّ مؤمنٍ، خصوصًا في نهاية الأزمنة، الّتي لا نَعرف متى ستكون. ما يُخبرنا به الرَّسول يوحنّا في هذا الإصحاح، هو أنّ قَبْل مَجيء المسيح، سيكون هناك نوعٌ من "طَفرةٍ" للشَّيطان، أي أنّ الشَّيطان سيَظهر بقوّةٍ من جديدٍ في العالَم وسيَجعل الإنسان يَمرُّ بما يُشبه "يقظة الموت" فيشعر هذا الأخير على إثَرِها بأنّه إنسانٌ نشيطٌ لا يُعاني من أيّ شيء، وأنّه سيُصبح قويًّا حين يَقبَل بما يعرِضه الشَّيطان عليه.
"ورأيتُ ملاكًا نازلًا مِن السَّماء معه مِفتاحُ الهاوية، وسِلسِلَةٌ عظيمةٌ على يدِه. فقَبضَ على التِّنِّين، الحيَّةِ القديمةِ، الّذي هو إبليسُ والشَّيطانُ، وقَيَّدَه ألفَ سَنَةٍ، وطَرَحَه في الهاوية وأغلَق عليه، وخَتَمَ عليه لكي لا يُضِلَّ الأُمم في ما بَعد، حتَّى تَتِمَّ الألفُ السَّنةِ. وبَعد ذلك لا بُدَّ من أن يُحَلَّ زمانًا يَسِيرًا". مِن خلال هذا الكلام، يبدو لنا واضحًا أنّ الحرب الأساسيّة ليست مع النَّاس، أي مع الشُّعوب، بل هي مع الّذي يقود هذه المجوعات من النَّاس أو مِن الشَّعوب، ألا وهو الشَّيطان أو التِّنين أو الحيّة القديمة؛ وكُلّ هذه الأسماء تستعمل في الكتاب المقدَّس للدَّلالة على الشَّيطان. في القيامة الأولى، تَمَّ تقييد الشَّيطان وطرحِه في الهاوية والخَتم عليه، لأنَّه في القيامة الأولى انتصرَ الربُّ على الشَّيطان بقيامته من بين الأموات، وهذا الانتصار سيَدوم ألفَ سنة. إنّ المقصود هنا بعبارة "ألفَ سنة" ليس عددًا محدّدًا من السِّنينِ، بل هو يرمز إلى عددٍ كبيرٍ من السِّنين لا تنتهي إلّا بالمجيء الثّاني للمسيح. بين قيامة المسيح، أي القيامة الأولى، ويوم مجيء المسيح، أي القيامة الثّانية، يُحدِّثنا كاتب هذا السِّفر في هذا الإصحاح عن قيامةٍ أولى وعن موتٍ ثانٍ. إنّ الّذين قَبِلوا القيامة الأولى وعاشوا على أساس الإيمان بالقائم من بين الأموات، قد عاشوا حياتهم الأرضيّة مُتَمسِّكين بالكلمة، مُتَمسِّكين بشهادة يسوع، لذا لن يُصيبهم الموت الثّاني، وبالتّالي سيَحصُلون على القيامة الثّانية. إنّ كاتب هذا السِّفر لم يَذكر لنا الموت الأوّل، لأنّ هذا الموت هو موتٌ طبيعيٌّ: فَكُلّ إنسانٍ على هذ الأرض سيَموت، إمّا استشهادًا أو اعترافًا بالمسيح، كما أنّه سيتعرّض للموت بشكلٍ يوميّ في حياته الأرضيّة نتيجةَ إخلاصِه ليسوع المسيح. بعد القيامة الأولى، هناك موتٌ ثانٍ، وهذا يعني أنّه إذا رَفَضَ الإنسان قيامة الربّ، وحارَبَ المسيح والمؤمِنِين به، فنَصيبُه سيكون الموت الثّاني، وهو بالتّالي لن يحصل على القيامة الثَّانية؛ أمّا إذا كان الإنسان مؤمِنًا ومُخلِصًا لِيَسوع المسيح ولِشهادة الربّ في هذه الحياة، حين يموت موتَه الأوّل، سيتمكَّن من التغلُّب على الموت الثّاني وسينال القيامة الثّانية. هذه هي التَّعزية والرَّجاء اللّذَين يُقدِّمهما كاتب هذا السِّفر للمؤمِنِين.
"ورأيتُ نفوسَ الّذِين قُتِلوا مِن أجل شهادةِ يسوعَ ومِن أجل كَلِمة الله، والَّذِين لَم يَسجُدوا للوَحشِ ولا لِصورتِه، ولَم يَقبلوا السِّمَةَ على جِباهِهم وعلى أيْدِيهم، فعَاشوا ومَلَكوا مع المسيح ألفَ سَنَةٍ. وأمَّا بَقيَّةُ الأموات فلَمْ تَعِشْ حتَّى تَتِمَّ الألفُ السَّنَةِ. هذه هي القيامةُ الأولى". إنّ المقصود بعبارة "الوحش وصورته" هو عبادة الإمبراطور وعبادة الأوثان. وبالتّالي، المؤمِنون الّذين لم يَقعوا في فخّ عبادة الأصنام، فإنّهم ولو قُتِلوا على هذه الأرض سيَكونون شهداء، لأنّهم قُتِلوا من أجل كلمة الله ومن أجل شهادتهم ليسوع المسيح؛ وإذا لم يُقتَلوا، أي إذا عاشوا حياتهم في الإخلاص لكلمة الله، فإنّ موتهم الأوّل سيكون ضمانةً لقيامتهم الثّانية، وضمانةً لعدم موتهم الثّاني. إنّ المقصود بعبارة "عاشوا ومَلكوا مع المسيح ألفَ سَنَة"، هو أنّ المؤمِنِين الّذين عرَفهم التَّاريخ، وكانوا مُخلِصين ليَسوع المسيح، سيَموتون إلى يوم مَجيء المسيح الثّاني، أمّا عند مجيئه فسيَحصلون على القيامة الثّانية ولن يُدركهم الموت الثّاني. إنّ المقصود بعبارة "أمّا بَقيّة الأموات فَلم تَعِش حتّى تتمَّ الألفُ سنة" هو القيامة الأولى الّتي تحقَّقت بموت المسيح وقيامته.
"مُبارَكٌ ومُقدَّسٌ مَن له نَصيبٌ في القيامة الأولى. هؤلاء لَيسَ للموتِ الثَّاني سُلطانٌ عليهم، بل سَيَكونون كَهنةً لله والمسيح، وسَيَملِكون معه ألفَ سَنَةٍ". مَن لهم نَصيبٌ في القيامة الأولى هُم المؤمِنون بيسوع المسيح، أي هؤلاء الّذين لم يرتدّوا عن الإيمان الصَّحيح. وهنا نتذكَّر كلام بولس الرّسول عن يوم الارتداد. إنّ المؤمِنِين الّذين لم يرتدّوا عن الإيمان الصَّحيح والّذين لم تَغرُّهم مُغريات الشَّيطان ومَن يحكم باسمه، والّذين لم يخافوا من تهديدات الشَّيطان ومَن يحكم بِاسمه، هؤلاء سيكون لهم نَصيبُ القيامة الأولى، أي أنّه لن يكون للموت الثّاني مِن سلطانٍ عليهم. هؤلاء المؤمِنون سيُصبحون كهنةً لله وللمسيح في الملكوت، لأنّ المسيح سيَجلس على العرش، وكلّ الّذين سيخدمونه هُم كهنةٌ أي خُدَّامٌ له، وسيَملِكون معه "ألفَ سنة"، أي الحُكم الّذي لا ينتهي إلّا بالـمَجيء الثّاني للمسيح.

"ثُمَّ متى تَمَّتِ الألفُ السَّنَةِ يُحَلُّ الشَّيطانُ مِن سِجنِه، ويَخرج لِيُضِلَّ الأُمم الَّذِين فِي أربَعِ زوايا الأرض: جوجَ وماجوجَ، لِيَجمعَهم للحرب، الَّذِين عددُهم مِثلُ رَملِ البَحرِ. فصَعِدوا على عَرضِ الأرض، وأحاطوا بِمُعسكَر القدِّيسِين وبالمَدينة المَحبوبةِ، فنَزلَتْ نارٌ مِن عند الله مِن السَّماءِ وأكَلَتهم. وإبليسُ الَّذي كان يُضِلُّهم طُرِحَ في بُحَيرةِ النَّار والكِبريت، حيثُ الوَحشُ والنَّبيُّ الكَذَّاب. وسَيُعَذَّبون نهارًا وليلًا إلى أبد الآبدِينَ". هنا يُكلَّمنا كاتب هذا السِّفر على فترةِ ما قَبْل المجيء الثّاني للمسيح، وفيها سَيُحَلّ الشَّيطان من سِجنه. وهنا نَطرَح السَّؤال: لماذا سيَتِمّ حَلُّ الشَّيطان من سجنه، بعد أن كان ممسوكًا؟ إنّ حَلَّ الشَّيطان مِن قيوده يُشبه النَّعجة الّتي يقوم الإنسانُ بِحَلِّها من قيودِها قَبْل ذَبحِها، فَترفِس كلّ ما هو حولها. وبالتّالي، قَبْل أن تأتي نهايته الكاملة في المجيء الثّاني للمسيح، سيَسعى الشَّيطان إلى تضليل المؤمِنِين وإبعادِهم عن الربّ. هذا ما نعيشه اليوم في وَطنِنا، ولكن هذا لا يعني أنّ المسيح سيأتي عمَّا قريبٍ، إذ لا أحد يعرف متى سيكون المجيء الثّاني للمسيح. وبالتّالي، إنْ ظننتُم أنَّ ما يحدث اليوم في بلدِنا يُؤشِّر إلى اقتراب مجيء الربّ، فهذا يعني أنَّكم وَقعتم في الفخّ. تخيّلوا معي: لو أتى أحدهم وأخبرنا أنّه سيُعيد الوضعَ الاجتماعيّ والاقتصاديّ في لبنان إلى ما كان عليه قَبْل بداية الأزمة الخانقة الّتي نعيشها اليوم، وأنّه سَيَقوم بِحَلِّ كلِّ مشاكلِنا وسَيُعيد الازدهارَ إلى بلدنا وسيَمحو مِن ذاكرتِنا هذه الفترة الصَّعبة الّتي مَررنا بها على مُدّة سَنتَين، أؤكِّد لكم إخوتي أنّ هذا الشَّخص ستَتبَعُه غالبيّةٌ ساحقةٌ من المواطِنِين، مِن دون أن تَطرح السّؤالَ على ذاتِها حول دوافع هذا الشَّخص للقيام بذلك. هذا ما سيَقوم به الشَّيطان مع المؤمِنِين إذ سيُقدِّم لهم إغراءات كبيرة وتهديدات كثيرة إن لم يرضخوا له. وما نعيشه اليوم في وَطننا هو مِثالٌ على ذلك: ففي ظلّ الحِصار والجوع الّذي نشعر به في بلدنا، قد تلجأ دولتُنا إلى دَفعِنا إلى الاختيار ما بين الخضوع لها ولأفكارِها وسُلطانِها للحصول على ضروريّات الحياة كالأدويّة والطَّعام، أو الموت جوعًا في حال رفضِنا الخضوع لها. في حال وصولنا إلى هذه المرحلة، أؤكِّد لكم أنّ غالبيّة الشَّعب ستَقبَل بشروط هذه الدَّولة للحصول على ما تحتاج إليه لتستمرّ في هذه الحياة. هذا هو أسلوب الشَّيطان مع المؤمِنِين إذ يلجأ إلى اعتمادِ أساليب التَّرهيب والتَّرغيب معهم بُغيَة إبعادهم عن الله. إنّ الشَّيطان يلجأ إلى أساليب التَّرغيب والتَّرهيب مع المؤمِنِين حين يكون هؤلاء قد وصلوا إلى حالةٍ من الافلاس، فَيَجِدون في قبولهم مغريات الشَّيطان حياةً لهم، وفي رَفضِهم لها موتًا أرضيًّا. إنّ الشَّيطان يستعمل مع المؤمنِين الأسلوبَين، طالبًا إليهم الخضوع له مقابل الحصول على ما يُقدِّمه لهم.

في التّجربة الّتي تعرَّض لها المسيح في البَرِّيّة (متى 4: 1-11)، طَلبَ الشَّيطان إلى الربّ الخضوع له، عندما كان الربُّ في الصَّحراء صائمًا لا يأكل ولا يشرب. إنّ المسيح لم يذهب إلى الصَّحراء للصّوم طوعًا كما نصوم نحن اليوم، بل إنّ المسيح في وجوده في الصَّحراء تَضوَّر جوعًا لأنّ في الصَّحراء لا يوجد لا أكلٌ ولا شُرب، فطبيعة الصَّحراء هي موتٌ، وبالتّالي، كان الربُّ معرَّضًا للموت فيها. إذًا، عند وصول المسيح إلى حدِّ إحساسه بالموت، جاء إليه الشَّيطانُ ليَعرُض عليه ما يحتاج إليه من طعامٍ وشراب، شرطَ الخضوع له، فَرَفض الربُّ يسوع هذا الأمر. هذا ما يحدث معنا اليوم أيضًا، فنحن في كلِّ لحظةٍ نواجه تجربةً معيّنةً: ففي هذا الوَضع المتأزِّم الّذي نَعيشه اليوم، نجد ذواتَنا مستعدِّين للقبول بأيّة مساعدةٍ تُقدَّم لنا لأنّه بالنِّسبة إلينا "الـمُهمِّ هو أن نعيش". إنّ استعمالنا لهذه العبارة "الـمُهمّ أن نعيش"، تُشير إلى أنّنا نذوق الموت بشكلٍ يوميّ في حياتِنا. إذًا، يتعرَّض المؤمن لِمُغريات هذه الدُّنيا، حين يكون في حالةٍ من الإفلاس الكامل، فيُقرِّر الاستفادة منها بالشُّروط المطروحة عليه. حين يكون الإنسان في الصَّحراء الرُّوحيّة، يأتي الربُّ إليه ويَعرُض عليه أن يُنعِشَه، غير أنّ الإنسان يَرفُض إنعاشَ الربِّ له ويُفضِّل الحصول على ما يُنعِش رغباته مِن الآخَرين، فعطاءات الربِّ للإنسان لا تتماشى مع رغباتِ هذا الأخير. إنّ رغبات الإنسان هي أمورٌ غير موجودةٍ عند الله، لذا لا يستطيع اللهُ تلبيَتها؛ أمّا حاجات الإنسان فهي موجودةٌ عند الله، وَلذا يُقدِّمها الله للإنسان، غير أنّ هذا الأخير يرفض القبول بعطاءات الله له، لأنّه يبحث عن رَغباته لا عن حاجاته. لذلك، يبحث الإنسان عن عباداتٍ أُخرى، تُقدِّم له ما يُريد شرطَ خضوعه لها. اليوم، نحن في مرحلةٍ، تَنطبق على المؤمنِين الـمُخلِصِين للربّ الآية التّالية: "مُبارَكٌ وَمُقدَّسٌ مَن له نَصِيبٌ في القِيامَةِ الأولى"، ذلك لأنّهم لم يخضعوا للشَّيطان. إنّ هذا السِّفر يُخبرنا أنّنا ننتمي إلى مجموعةِ المؤمنِين الّذين لم يسجدوا للشَّيطان، وإن كُنّا نرى ذواتِنا أنّنا لسنا مِنهم، فكاتبُ هذا السِّفر يدعونا إلى أن نسعى كي نكون من بين هؤلاء المؤمِنِين.
إنّ الإنسان يعيش على هذه الأرض مُحاطًا بِدَائرتَين: الدّائرة الأولى المحيطة به، هي دائرةُ نِعمة الله ومحبَّته ورحمته، وهذه الدَّائرة هي الّتي تُحصِّن الإنسان؛ أمّا الدَّائرة الثّانية المحيطة به، فهي دائرة الإغراءات: التَّرغيب والتَّرهيب، الشَّهوات، عَملُ الشَّيطان، ومَن يتبَع الشَّيطان. بمعنى آخَر، هناك قوَّتان محيطَتان بالمؤمن؛ والمؤمن هو الّذي يختار القوّة الّتي يريدها أن تكون الأقرب إليه، لتَحميه من القُوّة الأُخرى. فإذا جَعلَ المؤمنُ، الّذي هو نواةُ هاتَين الدَّائرَتين، دائرةَ الله في المركز الأوّل أي الأقرب إليه، ستَكون تِلقائيًا الدّائرة الثّانية بعيدةً عنه ولن تتمكَّن من الاقتراب منه أو اختراقه؛ أمّا إذا جعلَ المؤمنُ كلّ ترغيبات الشَّيطان وتهديداته في الدّائرة الأقرب له، عندها تُصبح دائرة الله أبعد عنه، وستَجد صعوبةً كبيرة في اختراقِه. إذًا، المؤمن هو مَن يُقرِّر ما إذا كان يريد أن يكون له نَصيبٌ في القيامة الأولى أم لا. وهنا، يقول لنا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، أهميّةُ التحلِّي بِصَبرِ القِدِّيسِين. إذًا، نحن نعيش في زمنٍ مهما طال، سيكون له نهاية، ولكن قَبْل نهاية هذا الزَّمن لا بُدَّ من وجود حركةِ ضلالٍ في أربع زوايا الأرض يقوم بها الشَّيطان لإبعاد المؤمِنِين عن الله، وسيَنجح هذا الأخير في إخضاع أُممٍ كثيرةٍ لِحُكمه. وهنا يُطرَح السُّؤال على كلّ دُوَل العالَم، وخصوصًا المسيحيّة منها: هل فِعلاً حُكم الله هو الّذي يسود عليها أم حُكم الشَّيطان؟ وهذا السُّؤال يدفعُنا إلى طرح سؤالٍ آخَر: ما هو حُكم الله؟ هل حُكم الله يقوم على الاجتهاد لإعادة بناءِ كنيسةٍ تَعرَّضت للحَرق لأنّها كنيسة أثريّة، لا لأنّها مكانٌ يجتمعُ فيه المؤمنون للصّلاة؟ للأسف، إنّ غالبيّة كنائس أوروبا المسيحيّة تحوَّلت إلى متاحف، وأصبحَت إضاءةُ الشُّموع فيها للصّلاة هدفًا للرِّبح الماديّ. وهنا نقول: حين تزداد كميّة المال في يَدِ الإنسان، فإنّها تزيد معها سُلطتَه على الآخَرين، والعكس صحيح. لذلك، في ظلّ الوَضع الّذي نعيشُه في وَطَنِنا، نُعظِّم شأن "الدُّوَل المانحة" للأموال لنا بُغيةَ الاستمرار في إرضائها، في حين تُرهِبنا "الدُّوَل غير المانحة" فنَسعى إلى إرضائها لكي تمنَحنا المال الّذي نَحتاجُ إليه. إذًا، أمام المؤمِن خياران في هذه الحياة، وما عليه إلّا أن يَحسِم أمرَه ويختار ما الّذي يريده. نحن إلى الآن، لم نَختَر الحقّ، بل فضَّلنا مَصلَحتَنا الشَّخصيّة على الحقّ؛ وهنا تَكمن المشكلة الأساس في كلّ زوايا الأرض.
"جوجٌ وماجوجٌ" ترمز إلى الشَّعوب الّتي تُحارِب الله وملائكته. وبالتّالي، كلَّمنا كاتب هذا السِّفر في هذا الإصحاح، على الحرب الرّوحيّة في هذا العالَم بين قِوى الشَّر وأفكارِها وسُلطانِها من جهةٍ، وبين قوى الخير الّتي يمثِّلها الربّ وملائكته وقدِّيسوه والّذين قُتِلوا من أجل شهادة المسيح من جهةٍ أُخرى. إنّ الحرب قائمةٌ بين هذين الفريقَين وما على المؤمن إلّا اختيار الفريق الّذي يُمثِّله: فإذا قام المؤمن بحساباته الأرضيّة الآنية، فإنّه سيَميل من دون شكّ إلى قوى الشَّر؛ أمّا إذا قام بحساباته الأبديّة، فإنّه سيَميل بكلِّ تأكيدٍ إلى قوى الخير، لذا على المؤمن أن يَحسم قراره: إلى جانب مَن سيَكون في هذه الحرب. في هذا الإصحاح، يقول لنا يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، إنّه لن نَملِك بعد الآن فرصةً أُخرى للاختيار، لذا يدعونا من باب الرَّحمة، إلى حسم قرارِنا بِاختيار الدّائرة الّتي نريد أن تُحيط بِنا: هل ستكون دائرةُ الله الّتي ستَحمينا، أم دائرة الشَّر الّتي ستُدمِّرَنا؟ إنّ كلّ الاختيارات ما زالت متاحةً أمام المؤمِن: حين يضع المؤمِن نُصبَ عينَيه رحمةَ الله وحُبَّه، فإنّه سيُعمى عندها عن رؤية قوى الشَّر؛ وإذا وَضَع المؤمن قِوى الشَّر نُصبَ عينَيه، فإنّه عندئذٍ سيُعمى عن رؤية عمل الله. وبالتّالي، الخيار هو بِيَد المؤمن القائم على اختيار النَّظَّارات الّتي يريد أن يضعها في حياته.
إنّ "المَدينة المحبوبة" هنا لا تعني مدينة أورشليم، إذ إنّ الكاتِب قد سبَقَ وقال لنا إنّ مدينة أورشليم قد أصبحت عدوَّةً لله، وقد تمَّ تدميرها مع هيكلها حوالي سنة 70 م.، أي قَبْل كتابة الرَّسول لهذا السِّفر. إنّ الكتاب المقدَّس هو ضِدَّ أورشليم الأرضيّة لأنّ هذه الأخيرة تحوَّلت إلى عدوَّة الله، والدَّليل على ما أقول هو أنّ الإنجيليّ متّى يُخبرنا أنّ أورشليم كلَّها قد اضطربَتْ عندما عَلِمت بأمرِ ولادة الربّ، وقد سَعت إلى قتلِه إذ اتَّخذَ ملِكها هيرودس قرارًا بقتل الطِّفل المولود؛ كما يُخبرنا الرَّسول نفسه أنّ أورشليم عادت واضطربَت مجدّدًا بسبب الربّ فقرّرت صَلبَه على يد بيلاطُس. إذًا، ليسَتْ أورشليمُ هي المقصودة بعبارة "المدينة المحبوبة"، بل جماعةُ المؤمنِين الّذي أَخلَصوا للربّ أي الكنيسة. لذلك، نجد أنّ الكنيسة تفتح أبوابها أمام جميع النّاس كي يستطيع الدُّخول إليها كلُّ مَن يشاء ذلك، والخروج منها كلُّ مَن يرغب في ذلك، ولكن مَن يَثبُت فيها إلى النِّهاية سيَكون من أبناء "المدينة المحبوبة". صحيحٌ أنّ المؤمِن مُحاطٌ بِقوى الشَّر، ولكنَّ قوى الله ما زالت موجودةً، وهي الّتي ستُبيد في اليوم الأخير، حسب قول كاتب هذا السِّفر، كلَّ ما يَحول دون بقاء المؤمِن مع الربّ، إذ كان المؤمِن قد اختار البقاء مع الربّ. لذا، يدعو كاتبُ هذا السِّفر المؤمنِين إلى عدم الرُّضوخ لإغراءات الشَّيطان وعدم الخوف من تهديداته. إنّ "الوحش" هو انعكاسٌ لصورة الشّيطان على الأرض المتمثِّلة بالامبراطور أو الـمَلِك، بمعنى آخر، إنّ صورة الشَّيطان تَتمثَّل بالحاكم أو المسؤول المتسلِّط على الأرض. إنّ "النَّبيَّ الكذَّاب" هو الّذي يَنقل إلى الإنسان خَبرًا، ويدفعه إلى الاعتقاد بأنّه الخَبرُ السّار الّذي ينتظره، ولكنّ الحقيقة هي أنّ هذا الخبر ما هو إلّا وَهمٌ زرعه الشَّيطان في فِكر الإنسان، فيُوهِم المؤمِنَ بأنّه هو مُخلِصه، محاولاً بذلك إبعاده عن الـمُخلِّص الحقيقيّ. إنّ الّذين سيَخضعون للشَّيطان "سيُعذَّبون إلى أبدِ الأبدين"، ليس فقط ألفَ سنة، وبالتّالي سيكون الموت الثّاني مِن نصيبِهم.
"ثُمَّ رأيتُ عَرشًا عظيمًا أَبيَض، والجالسَ عليه، الَّذي مِن وَجهِه هَربَتِ الأرضُ والسَّماءُ، ولَم يُوجَد لهما مَوضِعٌ!": إنّ شخصًا واحدًا جالسٌ على العرش، وبهذا الكلام يُقدِّم لنا الكاتب صورةً عن الدَّينونة. وهنا نتذكَّر قول متّى الإنجيليّ الّذي يقول لنا على لسان يسوع: "السَّماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول"(متى 24: 35). إنّ هذه السَّماء وهذه الأرض اللّتَين نَعرفهما لن يعود لهما قيمةٌ في يوم مجيء الربّ، لأنّ الربَّ سيَخلق أرضًا جديدةً وسماءً جديدة، أي أنّه سيَخلقُ خليقةً جديدة وكَونًا جديدًا، وسيُخبرنا عنهما يوحنّا الرَّسول، في الإصحاحَين المتَبقِيَن من هذا السِّفر. إنّ الأرض الأولى قد تَنجسَّت بفِعل عملِ الشَّيطان فيها، لذلك هي تهرب من وجه الله الجالس على العرش. والسَّماء تَتبَع الأرض، لأنّها موجودةٌ معها في كوكَبٌ واحد، أي أنّها خليقةٌ واحدةٌ.

"وَرأيتُ الأمواتَ صِغارًا وَكِبارًا واقفِين أمام الله، وانفتَحَتْ أسفارٌ، وانفَتَحَ سِفرٌ آخَرُ هو سِفرُ الحياة، وَدِينَ الأموات مِمَّا هو مكتوبٌ في الأسفار بِحَسبِ أعمالهم": من خلال هذا الكلام، يُقدِّم لنا كاتب هذا السِّفر صورةً عن الدَّينونة. ويَبدو لنا أنّ هناك سِفرَين، إذ يقول لنا الكاتب "انفتَح سِفرٌ آخَر". إنّ جميع الأموات سيُدانون بِحَسب أعمالهم.
"وَسَلَّمَ البَحرُ الأمواتَ الّذِين فيه، وَسَلَّمَ الموتُ والهاويةُ الأمواتَ الَّذِين فيهما. وَدِينوا كلُّ واحِدٍ بِحَسب أعماله. وطُرِحَ الموت والهاوية في بُحَيرة النَّار. هذا هو الموت الثَّاني. وكلُّ مَن لَم يُوجَد مكتوبًا فِي سِفر الحياة طُرِحَ فِي بُحَيرة النَّار":
من خلال هذا الكلام، يبدو لنا أنّ البَحر كان قد ابتلَع الأموات في السَّابق وها هو يُسلِّمهم للربّ من جديد في يوم الدَّينونة. وبالتّالي، أراد كاتب هذا السِّفر أن يُخبرنا أنّ جميع الأموات من دون استثناء سيَقفون أمام عرش الله للدَّينونة. إذًا، هناك قيامةٌ ثانية لجميع البشر، ومن ثمّ سَيَنال البعض منهم الموت الثاني في حين أنّ البعض الآخَر سَيَنال القيامة الثانية. إنّ العهد القديم يُخبرنا عن الهاوية الّتي كانت تُسمَّى "shéol"، وكان يُقصَد بها المكان الّذي سيَدخله الأموات بعد انتقالهم من هذه الأرض، وهو عبارةٌ عن مغارةٍ كبيرةٍ. إنّ عبارة "وطُرِحَ الموت والهاوية في بُحَيرة النَّار"، تَعني أنّه لن يعود هناك من وجود للموت بعد الآن. فالّذين أخلَصوا للربّ، وثَبَتوا في إيمانهم بالله، كُتِبَت أسماؤهم في سِفر الحياة، لذا لن يطالهم الموت الثّاني. وهذا ما يَبعثُ التَّعزية في قلوب المؤمِنِين عند قراءتهم لهذا السِّفر.
إنّ كاتب سِفر الرُّؤيا يوجِّه كلامه هذا إلى المؤمنِين الّذين هُم تحت الضَّغط والّذين يواجهون الضِّيقات. ونحن اليوم نستطيع أن نفهم ما قاله كاتب هذا السِّفر للمؤمِنِين لأنّنا نَذوق الضِّيقة في كلِّ يوم: إذ إنّنا في حالةٍ قلقٍ مستمرِّة في ما يخصّ شؤونِنا الأرضيّة من طعامٍ ودواءٍ وكلفة التَّنقلات...، ونجد صعوبةً في التّفكير في أمورٍ أُخرى: هذا نوعٌ من أنواع التَّجارب الّتي نتعرَّض لها في حياتِنا اليوميّة. كم من النَّاس ما زالوا يتركون مكانًا في حياتهم للتّفكير في عبادة الله الحقّ، عِوضَ السَّعي إلى عبادة مَن يستطيع أن يُقدِّم لهم مساعداتٍ ماديّةٍ على كافة المستويات للاستمرار في العيش! نحن اليوم في تَجربةٍ أُخرويّة، وهذا ما يجب أن نشعر به، عِوضَ أن نُفكِّر في أنّ كلّ ما نمرُّ به هو دليلٌ على اقتراب مجيء المسيح! فماذا يَهمُّك، أيّها المؤمِن، إنْ عرَفْتَ متى يكون المجيء، إنْ كنتَ لم تَحسِم خيارَك بَعد، أي مع مَن تُريد أن تكون. وبالتّالي، عليكَ، أيّها المؤمن، أن تأخذَ قرارًا مع مَن ستَكون، بدلَ أن تهدر وقتَك في التَّفكير في معرفة توقيت مجيء الربّ، أقَبلَ موتِك الأرضيّ أم بعدَه. ماذا يُفيدك معرفة توقيت مَجيء الربّ، طالما أنتَ لا تزال على إخلاصِك للربّ، وتُواجه الشَّر بالخير الّذي تقوم به. إنّها لتَجربةٌ كبيرةٌ عندما تشعر أنّ الخير الّذي تقوم به لا يُؤتيك نتيجةً ولا ثَمرًا: هذا أحدُ الأوهام الّذي يسعى الشَّيطان إلى زرعِها فيك. إنَّ أكبر وَهْمٍ يزرعه الشَّيطان فيك هو: إقناعُك أنَّ كلَّ ما تقوم به من خَيرٍ في هذه الحياة لا قيمةَ له، ممّا يدفعك إلى القيام بِرَدَّةِ فِعلٍ ضدَّ الله نتيجةَ اعتقادك أنّه لا يرى أعمالك الصّالحة الّتي تقوم بها. إنّ هذا الوَهم الّذي يزرعه فيك الشَّيطان يجعلُكَ تُهمِل علاقتك بالله بدلَ العمل على تقوية رباطِك به؛ كما يدفعك إلى اليأس، إذ يجعلُكَ تشعر بعدم منفعةِ بقائك مع الله. حين تَصِل إلى هذه المرحلة من اليأس والإحباط، يكون الشَّيطان قد رَبِحَ معرَكتِه ضدَّ الله من خلالِكَ، إذ يكون الشَّيطان أتاكَ بـ"جوج وماجوج"، وحارَبَكَ بهم وانتَصَر على الله من خلال الحرب الرّوحيّة الّتي خاضها الشَّيطان ضدَّ الله فيك. هذه هي الحرب الرُّوحيّة الّتي تتعرَّض لها يوميًا، ومُخطِئًا تكون إذا اعتقدت أنّ الحرب الرُّوحيّة تقتصر على مسائل تتعلَّق بالأكل والشُّرب. إنّ الحرب الرُّوحيّة هي مسألةُ تَغيير مسارِ الأرض، مسالةُ تغيير مسارِ الإنسانيّة بأسِرها. في العالم اليوم صراعٌ كبيرٌ من أجل إحلال "عبادة جديدة"، لا بالمعنى الحرفيّ للكلمة، إذ إنّها عبادةٌ قديمةٌ متجدِّدةٌ. هذه العبادة كانت مربوطةً في القديم بِفَضل قوّةِ المسيح وقوّةِ المؤمِنِين به، لذا فقَدَتْ في السّابق سُلطانَها على المؤمِنين، وهذا السُّلطان لن يعود إليها مجدّدًا إلّا إذا استسلم المؤمنون لها.
نحن اليوم أمام حربٍ روحيّة كبيرة: إنّ قوى الشَّر الآن تَحكُم العالَم، ولكنْ طالما أنّ هناك مؤمِنِين، ولو قلَّ عددَهم، ثابتِين في إيمانهم بيَسوع المسيح، فتأكَّدوا وتيَّقنوا من أنّ الله وملائكته والقدِّيسين وأنتم، ستنتصرون في النِّهاية على قوى الشَّر، مهما كَبُرت هذه الأخيرة. إنّ كاتب سِفر الرُّؤيا يدعونا إلى تقديم البُرهان على هذه النتيجة الّتي يُعلِنها لنا، من خلال عيشنا اليوميّ. إنّكم اليوم في حالةِ اضطهادٍ وجوع، ولكن هذا لا يعني أن تُسارِعوا إلى اعتبار ذواتِكم قدِّيسِين؛ بل عليكم أن تُبرهِنوا أنَّكم قدِّيسون من خلال إخلاصِكم والتزامِكم بالربّ، وتعمُّقكم بكلمة الربّ وتمسُّككم بها، بالرُّغم من كلّ الأنشطة الشَّيطانيّة الّتي تُحاربكم. إذًا، ليس لأنّكم تُحارَبون أنتم صالحون، بل لأنّكم تُحارَبون ستُصبِحون قدِّيسِين، إذا بَقيتُم ثابتِين على الإخلاص. فنحن لن نتمكَّن من الانتصار على قوى الشَر بالجسد، بل سننتصر عليها بالرُّوح والفِكر والإيمان والصَّبر والمحبَّة والوداعة، وكافة ثمار الرُّوح الّتي يتكلَّم عليها الإنجيل. وهنا يَطرح البعضُ السُّؤالَ: كيف سننتَصر؟ هنا أقول لكم: إنّ الله قال إنّه سيَربَح هذه المعركة ضدَّ الشَّيطان؛ فهل تُصدِّقونه؟ إنّ يسوع المسيح الّذي أخبرنا عنه الإنجيل، قال لنا :"ثقوا أنا قد غَلَبتُ العالَم"(يو 16: 33)، وأنتم تَرون أنّ العالَم هو الغالِب، فمَن تُصدِّقون: العالَم أم الله؟ إنّ الّذي تُصدِّقونه سيَربَح فيكم. فإذا صدَّقتم المسيح فهو سيَربَح فيكم؛ وإذا صدَّقتم الشَّيطان فهو سيَربح على هذه الأرض في داخلكم. إنّ الله أدخلَ نفسَه في ورطةٍ كبيرةٍ حين جَعل انتصاره في هذه المعركة بين أيديكم أنتم المؤمِنون. فماذا تفعلون؟ هنا يتجلّى صَبرُ القدِّيسِين.
إنّ الإصحاحَين الـمُتَبَقِيَن من سفر الرُّؤيا سيُعطياننا الصُّورة الحقيقيّة الّتي سيكتَمِل فيها عَمَل الله، ويكون فرحُنا فيه كاملاً. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت مِن قِبَلنا بتصرُّف.
14/4/2021 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح التاسع عشر الفرح والانتصار
https://youtu.be/IHeIftHc-6Y

تفسير الكتاب المقدَّس
سِفر الرّؤيا
الإصحاح 19
الأب ابراهيم سعد

14/4/2021

"وبَعْدَ هذا سَمِعْتُ صَوتًا عَظيمًا مِن جَمْعٍ كَثيرٍ في السَّماءِ قائِلًا: «هَلِّلويا! الخَلاصُ والمَجدُ والكَرامَةُ والقُدرَةُ لِلرَّبِّ إِلهِنا، لأنَّ أَحكامَهُ حَقٌ وَعادِلَةٌ، إِذْ قَد دانَ الزّانِيَةَ العَظيمَةَ الَّتي أَفْسَدَتِ الأرضَ بِزِناها، وَانتَقَمَ لِدَمِ عَبيدِهِ مِن يَدِها». وقالوا ثانِيَةً: «هَلِّلويا! وَدُخانُها يَصْعَدُ إلى أَبدِ الآبِدِينَ». وَخَرَّ الأربَعَةُ والعِشرُونَ شَيْخًا والأربَعَةُ الحَيَواناتِ وَسَجَدُوا للهِ الجالِسِ على العَرْشِ قَائِلِينَ: «آمِينَ! هَلِّلويا!». وَخَرَجَ مِنَ العَرْشِ صَوتٌ قائِلًا: «سَبِّحُوا لإِلهِنا يا جَميعَ عَبيدِهِ، الخائِفِيهِ، الصِّغارِ والكِبارِ!». وَسَمِعْتُ كَصَوْتِ جَمْعٍ كَثيرٍ، وكَصَوْتِ مِياهٍ كَثِيرَةٍ، وَكَصَوْتِ رُعودٍ شَديدَةٍ قائِلَةً: «هَلِّلويا! فإنَّهُ قَدْ مَلَكَ الرَّبُّ الإِلهُ القادِرُ على كُلِّ شَيْءٍ. لِنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطِهِ المَجْدَ! لأَنَّ عُرْسَ الخَروفِ قَدْ جاءَ، وَامْرَأتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَها. وَأُعْطِيَتْ أَنْ تَلْبَسَ بَزًّا نَقِيًّا بَهِيًّا، لأنَّ البَزَّ هُوَ تَبَرُّراتُ القِدِّيسِينَ». وقالَ لي: «اكْتُبْ: طُوبى لِلمَدعُوِّينَ إلى عَشاءِ عُرْسِ الخَروفِ!». وقالَ: «هذهِ هِيَ أَقْوالُ اللهِ الصّادِقَةُ». فَخَرَرْتُ أَمامَ رِجْلَيْهِ لأَسْجُدَ لَهُ، فَقَالَ لِي: «انْظُرْ! لاَ تَفْعَلْ! أَنَا عَبْدٌ معك وَمَعَ إِخوَتِكَ الَّذينَ عِنْدَهُم شَهادَةُ يَسُوعَ. اسْجُدْ للهِ! فَإِنَّ شَهادَةَ يَسُوعَ هِيَ رُوحُ النُّبُوَّةِ». ثُمَّ رَأَيْتُ السَّماءَ مَفْتُوحَةً، وإذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالجالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِينًا وَصادِقًا، وبالعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحارِبُ. وَعَيْناهُ كَلَهِيبِ نارٍ، وعلى رَأسِهِ تِيجانٌ كَثيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إلاَّ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ «كَلِمَةَ اللهِ». والأجْنادُ الَّذينَ في السَّماءِ كَانوا يَتْبَعونهُ على خَيْلٍ بِيضٍ، لابِسِين بَزًّا أَبيَضَ ونَقِيًّا. وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ ماضٍ لِكَيْ يَضْرِبَ به الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرْعاهم بِعَصًا مِن حَديدٍ، وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ القادِرِ على كُلِّ شَيءٍ. وَلَهُ على ثوْبِهِ وعلى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكْتُوبٌ: «مَلِكُ المُلوكِ ورَبُّ الأربابِ». ورأَيْتُ مَلاكًا واحِدًا واقِفًا في الشَّمْسِ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظيمٍ قائِلًا لِجَميعِ الطُّيُورِ الطّائِرَةِ في وَسَطِ السَّماءِ: «هَلُمَّ اجْتَمِعِي إلى عَشاءِ الإِلهِ العَظيمِ، لِكَي تَأكُلِي لُحومَ مُلوكٍ، وَلُحومَ قُوَّادٍ، وَلُحومَ أَقْوِياءَ، وَلُحومَ خَيْلٍ وَالجالِسِينَ عَلَيْها، وَلُحومَ الكُلِّ: حُرًّا وَعَبْدًا، صَغِيرًا وَكَبِيرًا». ورأَيْتُ الوَحْشَ وَمُلوكَ الأرضِ وَأَجْنادَهُم مُجتَمِعِينَ لِيَصْنَعُوا حَرْبًا مَعَ الجالِسِ على الفَرَسِ وَمَعَ جُنْدِهِ. فَقُبِضَ على الوَحْشِ وَالنَّبِيِّ الكَذّابِ مَعَهُ، الصَّانِعِ قُدَّامَهُ الآياتِ الَّتي بِها أَضَلَّ الَّذِينَ قَبِلُوا سِمَةَ الوَحْشِ وَالَّذينَ سَجَدُوا لِصُورَتِهِ. وَطُرِحَ الاثنَانِ حَيَّيْنِ إلى بُحَيْرَةِ النّارِ المُتَّقِدَةِ بِالكِبرِيتِ. والباقُونَ قُتِلُوا بِسَيْفِ الجالِسِ على الفَرَسِ الخارِجِ مِنْ فَمِهِ، وَجَمِيعُ الطُّيُورِ شَبِعَتْ مِن لُحومِهِم."

في هذا الإصحاح من سِفر الرّؤيا، سَنَبدأ بتَذوُّق الفرح ونَغمَة الانتصار أكثر فأكثر. إنَّ كلَّ مَسيرة سِفر الرُّؤيا تكلَّمت على الصَّبر والاضطهاد والإيمان والإخلاص، وعلى الأشرار وعلى الوحش والتِّنين؛ وفي هذا الإصحاح، سنَقطِف ثمار هذا التَّعب، ثمار هذا الجِهاد، من خلال عمل الله، بإعلانه انتصار يسوع المسيح، الخروف المذبوح؛ وبالتّالي، الّذين يتبعون الخروف سيتذوَّقون هذا الفرح.
إذًا، نحن اليوم نُعلِن الانتصار، ولا يزال أمامنا الـمَشهد الأخير، الّذي هو نتيجة هذا الانتصار، والّذي سَنَراه في الإصحاحات القادمة والمتبقيّة من سِفر الرُّؤيا. كما ونلاحظ في هذا الإصحاح، أنَّ كُلَّ التَرانيم الموجودة فيه تُعلِن انتصار مجد الله في السّماء، حيث يجلس الله على العرش، ويسجد له كُلّ الّذين سَبَق وذَكرَهم سِفر الرُّؤيا، أي الأربعةَ والعِشرين شيخًا، والحيوانات الأربعة، مُقدِّمين له كُلَّ الـمَجد اللّائق. والصَّوت الّذي خَرَج من العَرش، قائلاً: «سَبِّحُوا لإِلهِنَا يا جَميعَ عَبيدِهِ، الخائِفيهِ، الصِّغارِ والكِبارِ!»، يُشير إلى أنَّ المؤمِنِين بالربّ سَيُسبِّحون الله. إنّ جميع الّذين كانوا مع الوحش سيُدانون، فالبشر، في اليوم الأخير، لا يُدانون بحسب هويّاتهم وانتماءاتهم الـمُجتَمَعيّة، إنّما بحسب مواقفهم من كلمة الله، فمواقفَهم هي الّتي تُحدِّد مَصيرهم.
«هَلِّلُويا! فإنَّهُ قَدْ مَلَكَ الرَّبُّ الإِلهُ القادِرُ على كُلِّ شَيْءٍ. لِنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطِهِ المَجْدَ! لأَنَّ عُرْسَ الخَروفِ قَدْ جاءَ، وَامرَأَتُهُ هَيَّأَتْ نَفْسَها. وَأُعْطِيَتْ أَنْ تَلْبَسَ بَزًّا نَقِيًّا بَهِيًّا، لأنَّ البَزَّ هُو تَبَرُّراتُ القِدِّيسِينَ». يُخبرنا سِفر الرُّؤيا عن عُرس الخروف المذبوح، وبهذا أراد أن يُذكِّرنا كاتب هذا السِّفر بالفِداء، أي بِعَمل الله الخلاصيّ على الصّليب، بكلامٍ آخَر، يُذكِّرنا الكاتب بموت الربّ من أجلنا، ووَطئِه الموت بالموت. حين يتكلَّم الكاتب على الخروف المذبوح، فإنّه يريد بذلك الإشارة إلى آثار الموت، أي آثار الصَّليب. إنَّ المنتصر هو الخروف المذبوح، واليوم الأخير هو يوم عُرسِه، وقد أخبرنا الكاتب بِعِرس الخروف ليُذكِّرنا أنَّ الّذين اضطُهِدوا واستُشهِدوا، هُم في هذا العرس الإلهيّ مشارِكين. إنّ امرأة الخروف المذبوح ترمز إلى المؤمِنِين، أي الكنيسة، لا بالمعنى المؤسَّساتي للكلمة، فالكنيسة تتألَّف مِنَ الّذين يَعبدون الله، ويُخْلصون له، ويتحمَّلون كلّ الاضطهادات والضِّيقات بِصَبرِ القدِّيسِيين. إنّ هذه المرأة، أي الكنيسة، قد أُعطِيَت أن تلبس لباس الكَتَّان الصَّافي الأبيض. إنَّ المؤمِنِين يَلبسون التَّبَرُرات، أي أنَّهم يلبسون فضائِلَهم، الَّتي ستَظهر في السّماء، في عرس الخروف المذبوح. هنا نتذكَّر مَثَل الوليمة العظيمة، الّذي يُخبرنا فيه الإنجيليَّان متى ولوقا، أنّ الـمَلِكَ قد طرَد أحد المدعوِّين إلى العرس لأنّه لم يكن يرتَدي لِباس العرس. إنّ لباس العرس هي الفضائل الّتي يتحلَّى بها الإنسان، أي تَبرُّاراته، وبالتّالي ليس المهمّ أن يدخل الإنسان إلى العرس، إنَّما المهمّ بأيِّ لباسٍ يدخل إليه. لذلك، الحديث هنا هو حديثٌ يبعث التَّعزية والفرح والسُّرور في نفوس المؤمِنِين، الّذين تحمَّلوا كُلِّ الضُّغوطات، والّذين كانوا يشاهدون الاضطهاد، أمّا الآن فَهُم يشاهدون الفرح الآتي. إذًا، "الزَّمن والزَّمَنان والنِّصف الزَّمن"، و"ثلاث سنواتٍ ونصف السَّنة"، اللّتان تكلَّم عنهما سِفر الرُّؤيا، قد انتهتا، وهذا يعني أنّ زمن الاضطهاد قد انتهى، لأنّ الفارس قد أتى على الفرس الأبيض ليَسحق الوحش والنبيّ الكذَّاب والتِّنين، وكُلّ قوى الشَّر.
"وقالَ لي: «اكْتُبْ: طوبى لِلمَدْعُوِّينَ إلى عَشاءِ عُرْسِ الخَروفِ!». وقالَ: «هذه هِيَ أَقْوالُ اللهِ الصّادِقَةُ». طوبى تعني "هنيئًا". وبالتّالي المقصود من خلال هذه الآية هو: مغبوطٌ هو الّذي يُدعى إلى عشاء العُرس. إنّ المدعوّ إلى العرس لَيسَ من نال دعوةً لحضور هذا العرس، إنّما مَن لبّى هذه الدَّعوة. في هذا الإصحاح، يريد الكاتب أن يُبشِّر المؤمِنِين أنّ النِّهاية قد اقتَربت، وأنّ الله صادقٌ في أقواله وهو سيُحقِّق ما وَعَدنا به.

"فَخَرَرْتُ أمام رِجْلَيْهِ لأسْجُدَ لَهُ، فَقالَ لي: «انْظُر! لاَ تَفْعَل! أنا عَبْدٌ معك وَمع إِخوَتِكَ الَّذينَ عِنْدَهُمْ شَهادَةُ يَسُوعَ. اسْجُدْ للهِ! فإنَّ شَهادَةَ يَسوعَ هِيَ رُوحُ النُّبُوَّةِ». إنّ يوحنّا الرَّسول أراد السُّجود للملاك الّذي ظَهر له، ولكنَّ هذا الأخير رفض ذلك لأنّ السُّجود هو لله وحده، فالملاك هو عبدٌ على مِثال يوحنّا الرَّسول. إنّ "شهادة يسوع"، قد تؤدِّي بالمؤمِنِين الـمُخلِصين لها إلى الاستشهاد. إنّ كلمة الله الّتي يُعلنها المؤمن تُصبح نبوءة للسّامِعين لها، وهي تتحوَّل إلى دينونة لهم. وبالتّالي، إذا نطقْتَ بشهادة يسوع، وكُنتَ مُخلِصًا لها، فهذا يعني بالتَّأكيد، أنّ روح الله هو الـمُتَكلِّم فيك. وهنا، نتذكَّر قَول بولس الرَّسول بأنّ لا أحد يستطيع الاعتراف بأنَّ يسوع هو الربّ، إلّا إذا كان الرُّوح القدس هو المتكلّم فيه. في خطابه الوداعيّ، قال يسوع لتلاميذه: لا تخافوا، لأنّ الرُّوح القدس هو سيُشَدِّدكم ويرشِدكم في كلِّ ما تفعلونه أو تَقولونه.
"ثُمَّ رأيْتُ السَّماءَ مَفتُوحَةً، وإذا فَرَسٌ أَبْيَضُ والجالِسُ عَلَيْهِ يُدعَى أَمينًا وَصادِقًا، وبالعَدلِ يَحْكُمُ وَيُحارِبُ. وَعَيْناهُ كَلَهِيبِ نارٍ، وعلى رأسِهِ تِيجانٌ كَثيرَةٌ، وَلَهُ اسْمٌ مَكْتُوبٌ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُهُ إلاَّ هُوَ. وَهُوَ مُتَسَربِلٌ بِثَوبٍ مَغمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدعَى اسمُهُ «كَلِمَةَ اللهِ». وَالأَجنادُ الَّذينَ فِي السَّماءِ كانوا يَتبَعُونَهُ على خَيْلٍ بِيضٍ، لابِسِينَ بَزًّا أَبْيَضَ وَنَقِيًّا. وَمِنْ فَمِهِ يَخْرُجُ سَيْفٌ ماضٍ لِكَي يَضْرِبَ به الأُمَمَ. وَهُوَ سَيَرعاهُم بِعَصًا مِن حَدِيدٍ، وَهُوَ يَدوسُ مَعصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ القادِرِ على كُلِّ شَيْءٍ. وَلَهُ على ثوبِهِ وعلى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكتُوبٌ: «مَلِكُ المُلوكِ وَرَبُّ الأربابِ». لقد كلّمنا يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، في الإصحاحات الماضية على فرسٍ أبيض، وها هو في هذا الإصحاح يُعيد ذِكره، ويقول لنا إنّ الجالس عليه هو "أمينٌ وصادقٌ، وبالعَدل يَحكم ويُحارب"، وهذه الصِّفات هي صِفات المسيح يسوع. ثمّ يُضيف ويقول لنا: "عيناه كلَهيب نار"، وهذه العبارة تعني أنّ الجالس على الفرس هو فاحِصُ الكِلى والقلوب، أي أنّه يعرِفُ الخفايا، إضافةً إلى أنّ النَّار تحرِقُ. وبالتّالي، فإنَّ المقصود من خلال هذه العِبارة أنَّ الربَّ يسوع يَعرِف خفايا قلوب الـمُخلِصين له، وهو يَحرِقُ كلَّ شيءٍ عتيقٍ فيهم، مهما كان، بِفَضل شهادتهم له. إنّ عبارة "على رأسه تيجان كثيرة"، تعني أنّ الربَّ يسوع ليس له تاجٌ واحد على رأسه إنَّما عدَّة تيجان، وهذا يعني أنّ الربَّ يسوع غَلبَ وسيَغلُب في كلِّ معركةٍ يقودها، فَهو الغالب دائمًا. إذًا، إنَّ التِّيجان الكثيرة ترمز إلى غَلبة يسوع. وإنَّ عبارة "له اسمٌ مكتوبٌ ليس أحدٌ يعرفه إلّا هو"، تعني أنّه على الرُّغم من معرفتنا العميقة بالربّ، لا نستطيع أن نَعرفَه معرفةً كاملةً فَهو سيبقى سِرًّا. إنّ حضور الربّ يسوع أمام أبيه، أي مَركزه وقيمته ووجوده أمام أبيه، يبقى حضور الخروف المذبوح. إنّ الدَّم يُشير إلى الخروف المذبوح، وقد أصبح هذا الدَّم علامةً لانتصار الربّ. وبالتّالي فإنَّ موتَ المؤمن، من أجل يسوع المسيح، لم يَعد مدعاةً للعار أو الخوف، أو علامة ضُعفٍ، إنّما هو علامة انتصار، إذ تتحوَّل الضِّيقات والصّعوبات إلى علامات تدلُّ على انتصاره عليها. ولذلك، حين نُصلِّي إلى الله من أجل الأموات، فإنّنا نسأل الله من أجلهم أن يُعلِن انتصارهم وتخطِّيهم لِكُلِّ إنكسار، وأن يجعلهم معه في الفرح، لابِسِين لباسًا أبيضَ، وعلى أحصنة بيضاء، بِمعنى آخر، نحن نسأل الله أن يجعلهم على مِثال الربِ يسوع معه في الملكوت. إنّ السَّيفَ الماضي هو الكلمة الإلهيّة الّتي تخرق الأعماق، وتَفصُل وتُحرِّر. إنّ الكلام عن "معصرة سَخَطَ وغضَب الله"، تُذكِّرنا بكلام إشعيا النبيّ عن المعصرة الّتي سُلِّمت إلى وُكلاء لَم يُحسِنوا الاهتمام بها، فَعَصروا عِنبًا فاسِدًا بدل العِنب الصّالح، فَعرقل هؤلاء الوكلاء مشروع الله. إنَّ الله لن يسمح لأحد بعرقلة مشروعه، إذ إنّه سيسكب غضبه على كُلِّ مَن يسعى إلى ذلك، وسيَدوس مَعصرتهم. إنّ الفَخذ يرمز إلى القدرة. والثّوب يرمز إلى المجد. إنّ عُري الإنسان هو عارٌ عليه، ولذلك فإنّ ارتداء الإنسان للثّوب هو دليلُ مَجدٍ له. في هذا الإصحاح، يَصِف لنا يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِفر، حالة الانتظار الّتي يعيشها المؤمِنِين ليوم الربِّ الأخير.

"وَرأَيْتُ مَلاكًا واحِدًا واقِفًا في الشَّمْسِ، فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قائِلًا لِجَميعِ الطُّيُورِ الطّائِرَةِ في وَسَطِ السَّمَاءِ: «هَلُمَّ اجْتَمِعِي إلى عَشاءِ الإِلهِ العَظيمِ، لِكَي تَأكُلِي لُحومَ مُلوكٍ، وَلُحومَ قُوَّادٍ، وَلُحومَ أَقوِياءَ، وَلُحومَ خَيْلٍ وَالجالِسِينَ عَلَيها، وَلُحومَ الكُلِّ: حُرًّا وَعَبْدًا، صَغِيرًا وَكَبِيرًا». إنّ الوقوف في الشَّمس تعني الوقوف في الوضوح، أي إعلان الحقيقة، وبالتّالي ما مِن شيءٍ سَيبقى مَخفيًا. إنّ الّذين دُعوا إلى هذا العشاء هُم اثنان: أوَّلاً، القدِّيسون الأبرار الّذين حَفِظوا شهادة يسوع، كائنًا مَن كانوا، فَهُم قد دُعوا كي يأكلوا على مائدة العَريس؛ ثانيًا: طيور السّماء، وهذه قد دُعِيَت لا لتأكل من المائدة، إنّما كي تأكل لحوم الملوك الّذين اضطهِدوا المؤمنِين، الّذين حاربوا المسيح وتبعوا الوحش والتِّنين والنبيّ الكذَّاب. وكأنّ بيوحنّا، في هذا الإصحاح، يُعلِن لنا نهاية هؤلاء. إنّ إعلان الانتصار هو إعلان نهاية العدو، وخسارته. لذلك تأتي الطُّيور، لتأكلَ جثث كُلّ أعداء الربّ، وهنا نتذكَّر قول الربّ في الإنجيل: "حيث تجتمع الطّيور، فَهناك تكون الجُثَّة". إنّ الجثّة تشير إلى وجود إنسانٍ مَيْت، أي وجود نهاية هذا الإنسان. إنَّ الطُّيور قد دُعيَت إلى هذا العشاء لتأكل لَحم جميع الّذين حاربوا الربّ من خلال اضطهادهم المؤمنِين، مهما كان وَضعهم: أحرارًا أم عبيدًا، صِغارًا أم كبارًا. في الإصحاحات الماضية، كان يلجأ الكاتب إلى تعزية المؤمنِين وحثِّهم على الصَّبر على الاضطهادات؛ أمّا في هذا الإصحاح، فهو يُعلِن لهم نهاية كلّ هذا الزَّمان، وبالتّالي هو يدعوهم إلى الفرح. ولذلك، يمكننا قراءة هذا الإصحاح في موسم الفِصح.
"ورَأَيتُ الوَحشَ وَمُلوكَ الأرضِ وَأَجنادَهُم مُجْتَمِعِينَ لِيَصْنَعُوا حَربًا مع الجالِسِ على الفَرَسِ وَمَعَ جُنْدِهِ. فَقُبِضَ على الوَحْشِ وَالنَّبِيِّ الْكَذَّابِ مَعَهُ، الصّانِعِ قُدَّامَهُ الآياتِ الَّتي بِها أَضَلَّ الَّذينَ قَبِلُوا سِمَةَ الوَحشِ والَّذينَ سَجَدُوا لِصُورَتِهِ. وَطُرِحَ الاثنانِ حَيَّيْنِ إلى بُحَيْرَةِ النّارِ المُتَّقِدَةِ بِالكِبرِيتِ. والباقونَ قُتِلُوا بِسَيْفِ الجالِسِ على الفَرَسِ الخارِجِ مِنْ فَمِهِ، وَجَميعُ الطُّيُورِ شَبِعَتْ مِنْ لُحُومِهِم". إنّ الملوك، الّذين حاربوا المسيح، على الرَّغم من انكسارهم وانهزامهم أمام الربّ، لا زالوا يفكِّرون في القيام بمحاولةٍ أخيرة لِشَنّ حرب من جديد على الربّ من خلال المؤمِنين به. إنّ "بحيرة النّار والكبريت" تدلّ على الموت النِّهائي لِكلِّ الّذين اضطَهَدوا المؤمِنين بالربّ، وحاربوهم، وقَتَلوهم. وبالتّالي، هناك الكثير من النَّاس سيُدانون في اليوم الأخير، وسيَنكسرون.

في هذا الإصحاح، هناك إعلانُ ربحٍ نهائي للربّ على أعدائه، ولكن نتيجة هذا الرِّبح وثماره سنكتشفها في الإصحاحات القادمة.
هذا الإصحاح، يُشدِّد على تحديد المدعوين. فالجميع مدعوون إلى عشاء الربّ، ولا زال الوقت متاحًا لنا لِتلبيةِ هذه الدَّعوة، ولكنَّ هذا الوقت لم يعد طويلاً، إذ لا أحد يعلم متى يحين موعد مجيء الربِّ الثّاني، أو مَتى تكون نهايته الأرضيّة أي موته. يمكننا الانضمام إلى الّذين لبُّوا دعوة الربِّ إلى عشائه من خلال المثابرة على الإخلاص والتمسُّك بشهادة يسوع، طيلة العُمر المتبقي لنا في هذه الحياة. إنّ الّذي سيأتي هو الخروف المذبوح، وعندها سيكون قد حان الوقت للاحتفال بِعرسِه، ممّا يعني أنّه لا يستطيع الإنسان عندها تغييبه أو نكران حضوره، لأنّه سيتحدَّاه. عند قراءتهم لهذا الإصحاح، سيتعزَّى المسيحيّون الأوائل الّذين عانوا من الاضطهاد، وستتعزَّى قلوبهم ويَنالون القوّة للدِّفاع عن إيمانهم.
نحن الآن، في هذا الإصحاح، ننطلق نحو فرحٍ جديد، نحو عرسٍ جديد. إنّ القدَّاس الإلهيّ الّذي نشارك فيه، هو صورةٌ مُسْبَقةٌ عن عرس الخروف، إذ إنّنا في القدَّاس الإلهيّ نأكل الخبز السّماوي النّازل من فوق، جسد الربّ ودمه، أي جسد ودم الخروف المذبوح. إنَّ الخروف المذبوح هو الخروف المنتصر. إذًا، نحن الآن نتذوَّق الملكوت، ولكنّنا لم نتذوَّقه بعد كاملاً، لأنّ اليوم الأخير لم يأتِ بعد. لذلك، علينا بالصَّبر واحتمال الاضطهاد بَفَرح. إنَّ عروس الخروف المذبوح، قد تهيّأت للعرس، وما مِن عروس تتهيّأ للعرس وهي حزينة. وبالتّالي، عندما يصوم المؤمن، عليه ألّا يعيش صيامه وهو حزينٌ بل فَرِحٌ؛ وعندما يُصلِّي أو يتعب أو يخدم الآخَرين، عليه أن يفعل ذلك بفرح لا بِحُزنٍ. إنّ المسيحيِّة ليست عبارةً عن تقويّات زائفة، تُعاش بُحزنٍ مِن قِبَل المؤمِنِين، بل هي إعلان المؤمِنِين لقيامة الربّ من خلال قيامهم بأعمالهم وهم في حالة فرحٍ. إنّ المسيحيِّين لا يمكنهم نَقل بشارة القيامة بالمسيح للآخَرين بوجوه عابسة وكئيبة، لأنّه عندها لن يتمكَّن الآخَرون من تصديق تلك القيامة. إذًا، على المؤمِنِين بالربّ أن يُجاهدوا في هذه الحياة ويَتعبوا فيها بفرح، إذ إنّ عينَيّ المؤمن يجب أن تكونا موجَّهتَين نحو الخروف المذبوح الآتي في عرسِه النِّهائي، في عرسِه الملكوتيّ. قد يعترض البعض قائلين: ولكن ما نعيشه صَعبٌ ومختلف عمّا نقرأه اليوم. إخوتي، هذا ما يؤكِّده لنا سِفر الرُّؤيا، إذ يقول لنا إنّه إن جاهدنا وصَبَرنا على المِحن في زمن الاضطهاد، سننال في اليوم الأخير الملكوت حيث الفرح أبديّ. وبالتّالي، على المؤمنِين أن يكون نظرهم موّجهًا صوب المِحن في هذا العالم لاجتيازها، ولكن على نظرهم أن يكون موَّجهًا أيضًا نحو الخروف المذبوح الآتي في العرس النّهائي. لا يمكن للمسيحيّة أن تُعاش من دون فرح، "فـالمسيحيّة بلا فرح هي ديانةٌ مائتة". ولا يجوز لنا أن نؤكِّد من خلال عيشنا لمسيحيّتنا على كلام الفيلسوف الإلماني "نيتشِه": إنّ المسيح لم يقم لأنّ المسيحيِّين لا يُظهِرون سعادتهم وفرحِهم بهذه القيامة. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف. تتمة...
10/3/2021 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح الثامن عشر التعزية في نفوس المؤمنين
https://youtu.be/QUWuIAfdiak

تفسير الكتاب المقدَّس
سِفر الرُّؤيا
الإصحاح 18
الأب ابراهيم سعد

10/3/2021

"ثُمَّ بَعْدَ هذا رَأَيْتُ مَلاكًا آخَرَ نَازلًا مِنَ السَّماءِ، لَهُ سُلْطانٌ عَظيمٌ. وَاسْتَنَارَتِ الأرْضُ مِنْ بَهائِهِ. وَصَرَخَ بِشِدَّةٍ بِصَوْتٍ عَظيمٍ قَائِلًا: «سَقَطَتْ! سَقَطَتْ بابِلُ الْعَظيمَةُ! وَصَارَتْ مَسْكَنًا لِشَيَاطِينَ، وَمَحْرَسًا لِكُلِّ رُوحٍ نَجِسٍ، وَمَحْرَسًا لِكُلِّ طائِرٍ نَجسٍ وَمَمْقُوتٍ، لأَنَّهُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ زِناها قَدْ شَرِبَ جميعُ الأُمَمِ، وَمُلوكُ الأرْضِ زَنَوْا مَعَها، وَتُجَّارُ الأَرْضِ اسْتَغْنَوْا مِنْ وَفْرَةِ نَعِيمِهَا». ثُمَّ سَمعْتُ صَوتًا آخَرَ مِنَ السَّمَاءِ قائِلًا: «اخْرُجُوا مِنْها يا شَعْبِي لِئَلاَّ تَشْتَرِكوا فِي خَطاياها، وَلِئَلاَّ تَأخُذوا مِنْ ضَرَباتِها. لأَنَّ خَطاياها لَحِقَتِ السَّماءَ، وَتَذَكَّرَ اللهُ آثامَها. جازُوها كَما هِيَ أَيْضًا جازَتكُمْ، وَضَاعِفوا لها ضِعْفًا نَظيرَ أَعْمالِها. فِي الْكَأْسِ الَّتي مَزَجَتْ فِيها امْزُجُوا لَها ضِعْفًا. بِقَدْرِ مَا مَجَّدَتْ نَفْسَها وَتَنَعَّمَتْ، بِقَدْرِ ذلِكَ أَعْطوها عَذابًا وَحُزْنًا. لأَنَّها تَقولُ في قَلْبِها: أَنَا جالِسَةٌ مَلِكَةً، وَلَسْتُ أَرْمَلَةً، وَلَنْ أَرى حزنًا. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ في يَوْمٍ واحِدٍ سَتَأتِي ضَرَباتُها: مَوْتٌ وَحُزْنٌ وَجُوعٌ، وَتَحْتَرِقُ بِالنَّارِ، لأنَّ الرَّبَّ الإِلهَ الَّذِي يَدِينُها قَوِيٌّ. «وَسَيَبْكي وَيَنُوحُ عَلَيْها مُلوكُ الأرضِ، الَّذِينَ زَنَوْا وَتَنَعَّمُوا مَعَها، حِينَما يَنْظُرونَ دُخانَ حَريقِها، وَاقِفِينَ مِن بَعِيدٍ لأجلِ خَوْفِ عَذابِها، قائِلِينَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ بَابِلُ! المَدينَةُ القَوِيَّةُ! لأَنَّهُ فِي ساعَةٍ واحِدَةٍ جَاءَتْ دَيْنُونَتُكِ. وَيَبْكي تُجَّارُ الأرضِ وَيَنُوحونَ عَلَيها، لأنَّ بَضائِعَهُم لا يَشتَرِيها أَحَدٌ في ما بَعْدُ، بَضائِعَ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ والحَجَرِ الكَريمِ وَاللُّؤلُؤِ وَالبَزِّ وَالأُرْجوانِ والحَريرِ والقِرْمزِ، وَكُلَّ عُودٍ ثِينِيٍّ، وَكُلَّ إِناءٍ مِنَ العاجِ، وَكُلَّ إِناءٍ مِنْ أَثْمَنِ الخَشَبِ وَالنُّحاسِ وَالحَديدِ وَالمَرْمَرِ، وَقِرفَةً وَبَخُورًا وَطِيبًا وَلُبانًا وَخَمرًا وَزَيتًا وَسَمِيذًا وَحِنْطَةً وَبَهائِمَ وَغَنَمًا وَخَيْلًا، وَمَرْكَباتٍ، وَأَجْسادًا، وَنُفوسَ النَّاسِ. وَذَهَبَ عَنكِ جَنَى شَهْوَةِ نَفْسِكِ، وَذَهَبَ عَنكِ كُلُّ مَا هُوَ مُشْحِمٌ وَبَهِيٌّ، وَلَنْ تَجِدِيهِ في ما بَعدُ. تُجَّارُ هذه الأشيَاءِ الَّذِينَ اسْتَغنَوا مِنْها، سَيَقِفُونَ مِنْ بَعِيدٍ، مِن أَجْلِ خَوفِ عَذابِها، يَبْكُونَ وَيَنُوحونَ، وَيَقولونَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ المُتَسَربِلَةُ بِبَزّ وَأُرجُوانٍ وَقِرْمزٍ، وَالمُتَحَلِّيَةُ بِذَهَبٍ وَحَجَرٍ كَرِيمٍ وَلُؤلُؤٍ! لأَنَّهُ فِي ساعَةٍ وَاحِدَةٍ خَرِبَ غِنىً مِثْلُ هذا. وَكُلُّ رُبَّانٍ، وَكُلُّ الجماعَةِ في السُّفُنِ، وَالمَلاَّحُونَ وَجميعُ عُمَّالِ البَحرِ، وَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ، وَصَرَخُوا إِذْ نَظَروا دُخَانَ حَريقِها، قَائِلِينَ: أَيَّةُ مَدينَةٍ مِثْلُ المَدينَةِ العَظيمَةِ؟ وَأَلقَوْا تُرابًا على رُؤُوسِهِم، وَصَرَخوا باكِينَ وَنائِحِينَ قَائِلِينَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ، الَّتي فِيهَا اسْتَغْنَى جميعُ الَّذِينَ لَهُمْ سُفُنٌ في البَحرِ مِنْ نَفائِسِها! لأَنَّهَا فِي ساعَةٍ واحِدَةٍ خَرِبَتْ! اِفْرَحي لَها أَيَّتُها السَّماءُ وَالرُّسُلُ القِدِّيسُونَ والأنبِياءُ، لأنَّ الرَّبَّ قَدْ دانَهَا دَيْنُونَتَكُم». وَرَفَعَ مَلاكٌ واحِدٌ قَوِيٌّ حَجَرًا كَرَحىً عَظيمَةٍ، وَرَماهُ في البَحرِ قائِلًا: «هكذا بِدَفعٍ سَتُرمَى بابِلُ المَدينَةُ العَظيمَةُ، وَلَن تُوجَدَ في ما بَعدُ. وَصَوتُ الضَّارِبِينَ بِالقيثارَةِ وَالمُغَنِّينَ وَالمُزَمِّرِينَ وَالنَّافِخِينَ بِالبُوقِ، لَنْ يُسمَعَ فِيكِ فِي ما بَعدُ. وَكُلُّ صانِعٍ صِناعَةً لَن يُوجَدَ فِيكِ فِي ما بَعدُ. وَصَوتُ رَحىً لَنْ يُسمَعَ فِيكِ في ما بَعدُ. وَنُورُ سِرَاجٍ لَنْ يُضِيءَ فِيكِ في ما بَعدُ. وَصَوتُ عَرِيسٍ وَعَرُوسٍ لَنْ يُسمَعَ فِيكِ فِي ما بَعدُ. لأَنَّ تُجَّارَكِ كانوا عُظَماءَ الأرْضِ. إِذْ بِسِحْرِكِ ضَلَّتْ جميعُ الأُمَمِ. وَفِيها وُجِدَ دَمُ أَنبِياءَ وَقِدِّيسِينَ، وَجميعِ مَنْ قُتِلَ على الأَرضِ».

في هذا الإصحاح الثّامن عشر من سِفر الرُّؤيا، نُنهي مَشهدًا، لنَبدَأ في الإصحاح القادم مَشهدًا جديدًا، مَشهدًا فَرِحًا، يَبعث التَعزية في نفوس المؤمِنِين. في هذا الإصحاح، يَصِف لنا الكاتب مَشهدًا واحدًا هو مَشهدُ نهايةِ مدينةِ بابل العظيمة، الّتي ترمز إلى امبراطوريّة روما، بِكُلّ ما فيها من عباداتٍ وثَنيَّة.

"ثُمَّ بَعْدَ هذا رأَيْتُ مَلاكًا آخَرَ نازلًا مِنَ السَّماءِ، لَهُ سُلْطانٌ عَظيمٌ. وَاسْتَنارَتِ الأرْضُ مِنْ بَهائِهِ. وَصَرَخَ بِشِدَّةٍ بِصَوتٍ عَظيمٍ قائِلًا: «سَقَطَتْ! سَقَطَتْ بابِلُ العَظيمَةُ! وَصَارَتْ مَسْكَنًا لِشَياطينَ، وَمَحْرَسًا لِكُلِّ رُوحٍ نَجِسٍ، وَمَحْرَسًا لِكُلِّ طائِرٍ نَجِسٍ وَمَمْقُوتٍ، لأنَّهُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ زِناها قَدْ شَرِبَ جميعُ الأُمَمِ، وَمُلوكُ الأرضِ زَنَوْا مَعَها، وَتُجَّارُ الأرضِ اسْتَغنَوْا مِنْ وَفرَةِ نَعِيمِها». في هذا الإصحاح، يُخبرنا الكاتب عن ملاكٍ آتٍ من السَّماء ليُعلِن انكسار الشَّرير، قَبْل أن يُعلِن انتصار الله. إنّ كُلَّ كَلامٍ عن مَلِك يَفترض بالضَّرورة وجودَ عدوٍّ له، ممّا يعني ضرورة خَوضِ الـمَلِك معَركةً ضدَّ عَدوِّه والانتصار عليه. إنّ الـمَلك هو الله، والعدوّ هو بابل العظيمة أي العبادات الوثَنيّة، والحربُ سَيَخوضُها الله ضدَّ كلِّ قوى الشَّر وسَيَنتَصِر عليها، وسيُعلِن مَلكِيَّته الأبديّة. في الإصحاحات القادمة، سيُخبرنا الكاتب عن أورشليم السَّماويّة النَّازلة من السَّماء، أي عن ملكوت الله، حيث تُرفَع التَّسابيح والتَّرانيم، إذ سينالُ المؤمنِون تعزيةً بحصولهم على وعود الله، كَمُكأفاة لهم على صَبرهم وثباتهم في إيمانهم وإخلاصِهم للربّ، على الرَّغم من كلِّ الضِّيقات الّتي تَعرَّضوا لها في حياتهم الأرضيّة. في هذا الإصحاح، يُخبرنا الكاتب أنَّ بابل العَظيمة قد سَقطَتْ، وما تَكرار عبارة "سَقَطَتْ"، إلّا لِتأكيد سقوطها. إنّ بابل قد أصبَحت "مسكَنًا لِشَياطين"، أي أنَّها تَجمَعُ في داخِلِها كُلّ قوّة الشِّرير الَّتي ستُقهَر وسَتُباد نهائيًا، بواسطة الخروف الـمَذبوح، أي يسوع المسيح. إنّ الزِّنى في الكِتاب المقدَّس، هو تَركُ الإنسانِ لله، لاتِّباع عباداتٍ وَثَنيّة. إنّ تُجَّار الأرض قد استفادوا مِن وفرة نعيمِ بابل؛ ولكنَّ هذا النَّعيم سَيتلاشى عند انتصار الربِّ على الشَّرير في المعركة الأخيرة. إنّ يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، يوجِّه كلامه إلى المؤمنِين الّذين يعانون من الشِّدة والاضطهاد، وَهُم يعيشون في خوفٍ وقلقٍ من المستَقبل. لذلك، يدعوهم الرَّسول إلى الصَّبر قليلاً بَعد، كي يتمكَّنوا من رؤية انتصار الربِّ العظيم، الّذي طالما انتظروه. إنَّ هذا السِّفر يُتلى على المؤمنِين الحاضِرين في القدَّاس، يوم الأحد، يوم الربّ.
"ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتًا آخَرَ مِنَ السَّماءِ قائِلًا: «اخْرُجوا مِنْها يا شَعبي لِئَلاَّ تَشْتَرِكوا في خَطاياهَا، وَلِئَلاَّ تَأخُذوا مِنْ ضَرَباتِها. لأنَّ خَطاياها لَحِقَتِ السَّماءَ، وَتَذَكَّرَ اللهُ آثامَهَا. جازُوها كَما هِيَ أَيْضًا جازَتْكُم، وَضاعِفُوا لها ضِعْفًا نَظيرَ أَعْمالِها. في الكأسِ الَّتي مَزَجَتْ فيها امْزُجُوا لها ضِعفًا. بِقَدْرِ مَا مَجَّدَتْ نَفْسَها وَتَنَعَّمَتْ، بِقَدْرِ ذلِكَ أَعطُوها عَذابًا وَحُزْنًا. لأنَّها تَقولُ في قَلْبِها: أنا جالِسَةٌ مَلِكَةً، وَلَسْتُ أَرْمَلَةً، وَلَنْ أَرَى حزنًا. مِنْ أَجْلِ ذلك فِي يَوْمٍ واحِدٍ سَتَأتِي ضَرَباتُها: مَوْتٌ وَحُزْنٌ وَجُوعٌ، وَتَحتَرِقُ بِالنَّارِ، لأنَّ الرَّبَّ الإِلهَ الَّذِي يَدينُها قَوِيٌّ". يُحذِّر يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، المؤمِنِين مِن الاشتراك في خطايا الوثنيِّين وذبائحهم، كي لا ينالوا على غرار هؤلاء، الضَّرباتِ من الله. وهنا، نتذكَّر طَلَبَ بولس الرَّسول إلى أهل كورنثوس، عدم الاشتراك في ذبائح الوثنيِّين، لا من حَيْث الشَّكل ولا مِن حَيْث الجوهر، لأنَّ في ذلك مساومةً منهم بين الحقّ والباطل، مِن خلال المزج ما بين عبادتهم الحقَّة لله والعبادات الوثنيّة. وهذا ما يُنبّهنا إليه الكِتاب المقدَّس بأكمَلِه، من بدايته حتّى نهايته، فالله كان قد حذَّر آدم من خطورة المزج بين الخير والشَّر، ولكنَّ هذا الأخير لم ينصاع لأوامر الربّ، فوقَع في الخطيئة. إنّ الربَّ لا يَذكر آثامَ المؤمنِين مَتى تابوا إليه، ولكنّه يتذكَّر آثام الّذين قرَّروا البقاء في خطاياهم وعدم التَّوبة، أي الّذين قررَّوا الخضوع للآلهة الوثنيّة، ولِكُلِّ إلهٍ غير الله. وهذا ما قاله الربُّ لِشعبه في العهد القديم، على لسان النبيّ إرميا: "سأقطَعُ معكم عَهدًا جديدًا، ليس كالعَهد الّذي قَطَعتُه مع آبائكم،....، لأنِّي سأغفر خطيئتكم، ولَن أذكُرها مِن بَعد" (إرميا 31: 31-34). إنَّ الإله الوثنيّ ليس بالضَّرورة أن يكون تِمثالاً حجريًّا، فَهو قد يكون أيضًا مال الإنسان، أو قوَّته، أو كُرْهه للآخَر، أو أيَّة شهوةٍ أرضيّة أُخرى. إنَّ الضَّرر الّذي تلقَّاه المؤمِنون من بابل، سَيَرتدُّ عليها أضعافًا. وفي هذا الكلام، يَجِدُ المؤمِنون تعزيةً لهم وتقويةً، إذ يحثُّهم على الصَّبر على شدائدهم، لإدراكهم أنَّ الأفضل آتٍ، بانْتِصار الربّ على الشِّرير. إنّ بابل العظيمة لا تزال مُتكبِّرة على الرَّغم من الضَّربات الّتي تَلحَق بها، فهي تُصِرُّ على اعتبار نفسِها مَلِكةً مع أنَّها أرملة. في الكِتاب المقدَّس، المرأة الأرملة هي امراةٌ لا سَنَدَ لها في هذه الحياة، وبالتّالي لا استمراريَّة لها؛ لذلك يُشدِّد الربُّ في العهد القديم على ضرورة الاهتمام بالبائس والـمِسكين والأرملة. إنّ عبارة "يوم واحد"، تعني لَحظةٌ واحدة. إنّ المؤمنِين يُعانون من الضِّيق منذ زَمنٍ طويل، لذا يناشدون الله قائلِين: إلى مَتى، يا ربّ، علينا احتمال الضِّيقات؟ فَيُجيبهم الله من خلال كاتب سِفر الرّؤيا إنَّه عليهم الاحتمال "ثلاث سنوات ونِصف"، أو "زمن وزمَنَين ونِصف الزَّمن"، أو "ألفًا وثلاثَ مئةٍ وأربعين يومًا"، قَبْل أن يأتي الخلاص؛ غير أنّهم، حتّى هذه الأزمنة القصيرة الّتي ترمز إليها هذه الأرقام، يَجدونها طويلةً. وهنا يُجيبُهم الكاتب في هذا الإصحاح، إنَّ هذا الضِّيق الّذي يُعانون منه سيَنتهي في يومٍ واحدٍ، أي في لحظةٍ واحدة من الزَّمن. في القديم، كان الأقدمون يحاولون تحقيق الانتصار في الحرب في اليوم الأوّل منها، لأنّه إذا استمرَّت الحرب إلى أكثرَ من يومٍ، يُصبح بإمكان العَدوّ جَمعَ قِواه في اليوم الثَّاني للقتال من جديد والانتصار. في سِفر يشوع، يخبرنا النبيّ أنّ الله قد "أوقَف الشَّمس" عند خوضِهم معركةً ضِدَّ الأعداء، وهذا كلامٌ مَجازيّ يُشير إلى أنَّه على الشَّعب اليهوديّ جَمع كُلِّ قِواه لإنهاء الحرب في يومٍ واحدٍ، أي قَبْلَ مَغيبِ الشَّمس. إنَّ معركة "هرمجَّدون"، الّتي ترمز إلى الحرب الأخيرة، ستنتهي في يومٍ واحد. إنّ الموت والجوع والحزن هي الضَّربات الّتي تَعرَّض لها القدِّيسون مِن قِبَل الـمُضطَهِدين لهم، فالوثنيِّون لجؤوا إلى تجويع المؤمنِين وقَتلهم أو إحزانهم لِحثِّهم على التخلِّي عن إيمانهم بالله. إنّ الربَّ هو القدير، ولا إله إلّا هو، أمَّا آلهة الوثَنِيّين فهي مجرَّدُ أصنامٍ، تماثيلُ حجريّةٌ لا فائدةَ منها. إنَّ ملوك الأرض قد اتَّبعوا امبراطوريّة روما وخضعوا لآلهتها، لأنّهم كانوا يَغتَنون مِن غِناها، فَهُم كانوا يتعاملون بِعُملَتها؛ أمّا المسيحيِّون فَقَدْ استخدموا عُملة روما، ولكنَّهم رَفضوا الخضوع لآلهتها، لذا نالوا الاضطهادات.

"وَسَيَبْكي وَيَنُوحُ عَلَيها مُلوكُ الأرضِ، الَّذِينَ زَنَوْا وَتَنَعَّموا مَعَها، حِينَما يَنْظُرونَ دُخانَ حَريقِها، وَاقِفِينَ مِن بَعِيدٍ لأجلِ خَوفِ عَذابِهَا، قَائِلِينَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ بَابِلُ! المَدينَةُ القَوِيَّةُ! لأنَّهُ في ساعَةٍ واحِدَةٍ جَاءَتْ دَيْنُونَتُكِ. وَيَبْكي تُجَّارُ الأرضِ وَيَنُوحونَ عَلَيها، لأنَّ بَضائِعَهُم لا يَشتَرِيها أَحَدٌ في ما بَعدُ، بَضائِعَ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والحَجَرِ الكَرِيمِ وَاللُّؤلُؤِ والبَزِّ والأُرجُوانِ والحَريرِ والقِرْمِزِ، وكُلَّ عُودٍ ثِينِيٍّ، وكُلَّ إِناءٍ مِنَ العاجِ، وَكُلَّ إِناءٍ مِنْ أَثْمَنِ الخَشَبِ والنُّحاسِ والحَديدِ والمَرْمَرِ، وَقِرْفَةً وَبَخُورًا وَطِيبًا وَلُبانًا وَخَمْرًا وَزَيْتًا وَسَميذًا وَحِنْطَةً وَبَهائِمَ وَغَنَمًا وَخَيْلًا، وَمَرْكَباتٍ، وَأَجْسادًا، وَنُفُوسَ النَّاسِ. وَذَهَبَ عَنكِ جَنَى شَهْوَةِ نَفْسِكِ، وَذَهَبَ عَنكِ كُلُّ ما هُوَ مُشْحِمٌ وَبَهِيٌّ، وَلَنْ تَجِديهِ في ما بَعدُ. تُجَّارُ هذه الأشيَاءِ الَّذِينَ اسْتَغْنَوا مِنْها، سَيَقِفُونَ مِنْ بَعِيدٍ، مِنْ أَجلِ خَوْفِ عَذابِها، يَبْكونَ وَيَنُوحونَ، وَيَقولونَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ المُتَسَرْبِلَةُ بِبَزّ وَأُرجُوانٍ وَقِرْمِزٍ، وَالمُتَحَلِّيَةُ بِذَهَبٍ وَحَجَرٍ كَرِيمٍ وَلُؤلُؤٍ! لأنَّهُ في ساعَةٍ واحِدَةٍ خَرِبَ غِنىً مِثْلُ هذا. وَكُلُّ رُبَّانٍ، وَكُلُّ الجماعَةِ في السُّفُنِ، والمَلاَّحُونَ وَجميعُ عُمَّالِ البَحرِ، وَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ، وَصَرَخوا إِذْ نَظَروا دُخَانَ حَريقِها، قَائِلِينَ: أَيَّةُ مَدينَةٍ مِثْلُ المَدينَةِ العَظيمَةِ؟ وَأَلْقَوْا تُرابًا عَلَى رُؤُوسِهِم، وَصَرَخوا بَاكِينَ وَنائِحِينَ قَائِلِينَ: وَيْلٌ! وَيْلٌ! المَدينَةُ العَظيمَةُ، الَّتي فيهَا اسْتَغْنَى جميعُ الَّذِينَ لَهُم سُفُنٌ فِي البَحرِ مِنْ نَفائِسِها! لأنَّها في ساعَةٍ واحِدَةٍ خَرِبَتْ! اِفْرَحِي لها أَيَّتُها السَّماءُ وَالرُّسُلُ القِدِّيسُونَ وَالأنبِيَاءُ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَانَها دَيْنُونَتَكُم». إنّ وقوف ملوك الأرض مِن بَعيد، عند رؤيتهم دخان الحريق يَصعدُ من بابل، يُشير إلى خوفهم. إنَّ عبارةَ "ويلٌ وَيلٌ"، تُذكِّرنا بالوَيلات في العهد القديم الّتي قِيلَت لِفرعَون، وقِيلَت أيضًا لِشَعب اسرائيل حين كان هذا الأخير في موقفٍ مُعادٍ لله؛كما قالها الربُّ يسوع عن الفرِّيسِيِّين، في العهد الجديد. إنّ الوَيلات تُشير إلى الحُكم الأخير، وهذا يعني أنّه لم يَعد للوثنيِّين فرصةً للتَّوبة في اليوم الأخير؛ فالضَّربات الّتي تكلَّم عليها الكاتب في الإصحاحات الماضية، كانت فُرصَتَهم الأخيرة للتوبة ولَـم يتوبوا. إنّ عبارة "ساعة واحدة" تُشير إلى السُّرعة في القَضاء على بابل. إنّ عمليّة الشِّراء والبيع تُشيران إلى استمراريّة الحياة. في لبنان، تعاني المحال التِّجاريّة من عدم قدرة الشَّعب على الشِّراء، ممّا يعني عدم قُدرة أصحاب المحالّ التِّجاريّة على بَيعِ بضائعهم، لذلك نَسمعُ أنَّ بعض المحّال التِّجاريّة قد "أقفلَتْ أبوابها"، لأنّ النَّاس "أفلسوا"، وهذه التَّعابير تُشير إلى فقدان الشَّعب وأصحاب الـمَحالِّ التِّجاريّة كُلَّ أَمَلٍ لهم في الغَد، كُلّ أملٍ لهم في استمراريّة الحياة في هذا الوَطَن. إنَّ كلَّ النَّعيم الّذي حصل عليه ملوك الأرض من خلال اضطهادهم للمسيحيِّين الّذين أصبحوا شهداءَ الربّ، سينتهي سريعًا إذ سيَفقد الوثنيِّون كُلَّ قدرةٍ لهم على الاستمرار في هذه الحياة. إنَّ الثِنِّي هو خشَب اللَّيمون، الموجود في أفريقيا، وهو من أغلى أنواع الخشب. إنّ الإناء مِن العاج يدلُّ على الغِنى. إنّ نعيمَ ملوك الأرض سينتهي سريعًا لأنّ الله سيتكلَّم، وقد أصبَحَتْ دينونَتَه لهم جاهزةً. في هذا الإصحاح أيضًا، يَذكُر لنا الكاتب أَثمَنَ وأجود أنواع الخشب والحديد والنُّحاس والـمَرمر، وذلك للدَّلالة على الـمُلوكيّة. إنّ الـمُرّ واللُّبان والقِرفة والبَخور هي عُطورٌ تُقدَّمُ للآلهة. في المعابد الوثنيّة، كانت النِّساء يَرقُصنَ للآلهة، ثمَّ يُسدِلن شعرهنَّ، لِما في ذلك من إغراءٍ للآلهة. في هذا الإطار، طَلب بولس الرَّسول إلى نساء مدينةِ كورنتوس تَغطية رؤوسهنَّ في أثناء مشاركتهنَّ في الصَّلوات مع المؤمنِين، لا انطلاقًا من موضوع الحشمة، إنّما لِحثِّهنَّ كي تكون تصرُّفاتهن في الشَّكل والمضمون مغايرةً لِتَصّرُّفات النِّساء الوثَّنيّات في المعابد. أمّا اليوم، في كنائسِنا، فالمرأةُ المؤمِنة حُرَّةٌ في تغطية شعرها أو لا: فإذا كانت المرأة تعتبر أنَّ مَجدها هو في شعرها، فَعليها أن تُغطِّي رأسها في أثناء الصَّلوات، كأنَّها بهذا الفعل تقول إنّ كلَّ مَجدها الأرضي ينحجب أمام مَجد الله؛ أمّا إذا كانت لا تعتبر مَجدَها في شَعرِها، فعندئذٍ لا ضرورة لِتَغطية رأسِها. وبالتّالي، أراد يوحنّا الرَّسول، كاتب هذا السِّفر، أن يدعو المؤمنِين إلى عدم الافتخار بأمجادهم الأرضيّة لأنّها زائلة. عندما دَخل إلى الهيكل، وَجَد الربُّ يسوع بائعي الحمام والصَّيارفة في الدَّاخِل، فطَرَدهم قائلاً:"إنّه مكتوبٌ: بيتي بيتُ الصَّلاة يُدعى، وأنتم جَعلتموه مغارةَ لُصوص" (متى 21: 13). طَرَد الربُّ يسوع الصَّيارِفة لأنَّ المال قد أصبح إلههم، كما طَرد بائعي الحمام لأنّهم يتاجرون بالرُّوح القدس من أجل مآرِبهم الشَّخصيّة، فالحمامة في العهد الجديد ترمز إلى الرُّوح القدس. إذًا، كُلُّ العبادات الّتي تعود بالنَّفع على صاحِبها والـمَبْنِيّة على أمورٍ دُنيويّة، ستَزول وستنتهي في اليوم الأخير. إنَّ الوثنيِّين يُصلُّون إلى آلهتهم طالِبين منها أمورًا أرضيّة، فإذا استجابت الآلهة لهم استمرُّوا في عبادتها، وإنْ لَم تستَجِب لهم، تركوها لِيَبَحثوا عن سواها. إنَّ أنبياء العهد القديم قد ثاروا على شعب اسرائيل الّذي، في أحيانٍ كثيرة، تَرك الله، النَّبع الحقيقيّ، ليتبَع آبارًا مُشقَّقة لا ماءَ فيها تُروي ظَمَأه، وهذه الآبار تَرمز إلى العبادات الوثنيِّة. للأسف، إنَّ بعض المسيحيِّين لم يتمكَّنوا من قراءة الكِتاب المقدَّس قراءةً صحيحة، لأنّهم لو فَعلوا، لتَمكَّنوا من فَهم ما يقوله لنا يوحنّا الرَّسول في هذا السِّفر، ولَتَمكَّنوا من تَخطِّي الصُّعوبات الحياتيّة من دون خوف، ولـَمَا تمكَّن أيّ إغراءٍ أو ترهيب في هذه الدُّنيا من زعزعة إيمانهم بالربّ. إنَّ إغراءات هذا العالم ومخاوفه، هي عبارةٌ عن حروب يقودها الشِّرير ضدَّ المؤمنِين لِحثِّهم على الابتعاد عن الله وتَركِه. إنَّ بطرس الرَّسول قد أنكر الربَّ بسبب خوفه من الموت، ويَهوذا سلَّم الربّ بسبب خضوعه للإغراء، وهي الرَّشوة أي المال. إنَّ لِباس البَّز والأرجوان والقرمز هو لباس الملوك، والحجارة الكريمة المذكورة في هذا السِّفر تُشير إلى عَظمة الامبراطوريّة الّتي تُؤمِن بالآلهة الوثنيّة وتحاول إخضاع المؤمنِين بالله لعبادتها. إنّ البَحر والسُّفن يُشيران إلى العبادات الوثنيّة، أي الأُمَم. في هذا الإصحاح، يقوم الكاتب بِشَرحٍ تفصيليّ مُطَوَّلٍ لنِهاية المدينة العظيمة، بابل، في اليوم الأخير. بعد سقوط امبراطوريّة روما، الّتي ترمز إلى العبادات الوثنيّة، في اليوم الأخير، سيَبطل كُلُّ خوفٍ عند المؤمِنين؛ لذلك، يشجِّع الكاتب المؤمنِين على الثَّبات في إخلاصهم للربّ من الآن حتّى ذلك اليوم. إنّ كُلّ الجماعات الموجودة في السُّفن، مِن ملّاحين وسواهم، تُشير إلى الجماعات الوثنيّة. إنّ كلَّ هذه الجماعات الوثنيّة ستبكي وتنوح على مصير المدينة العظيمة، بابل. إنّ رشَّ الرَّماد ولِبِس الـمُسوح، هي علامات تدلُّ على الحُزن. في الصّوم، يَطَلبُ الربُّ إلى تلاميذه عيشَ الصَّوم والصّلاة والصَّدقة في الخفاء، لا في العَلن، كي لا يَظهَر للآخرين أنَّهم صائمون، فينالوا مكافأتهم من الله لا مِن النَّاس. في القديم، كانَ الصَّوم يُعبِّر عن حُزن الصّائم. إخوتي، للأسف، لا زِلنا اليوم نقع في أفخاخ الشِّرير، عندما نُظهِر حُزنًا عند امتناعنا عن تناول طعامٍ معيَّن في هذه الفترة من السَّنة. إخوتي، إنّ الربَّ لا يطلب إلينا قَهرَ ذواتنا والامتناع عن الطَّعام، بل يَطلبُ إلينا إماتة شهواتنا الأرضيّة، الّتي مِن شأنها إيقاعنا في الخطيئة. في الكثير من الأحيان، نتكلَّم على الصَّوم كمؤمِنِين ولكنّنا نعيشه كاليهود أو كالوثَّنيِّين. لذلك، إخوتي، علينا التيُّقظ والانتباه لسلوكنا وتصرَّفاتنا، وأقوالَنا الّتي تَصدُر عنّا. للأسف، في صلواتنا أيضًا، نتصرَّف كالوثنيِّين، إذ نعمد في الكثير من الأحيان، إلى رشوة الله وإغرائه بالنُّذورات، طالبِين إليه تحقيق طلباتنا. إنَّ مِثل هذا التصرُّف لا يعكس جوهر إيماننا المسيحيّ ولا علاقة له بتعاليم الإنجيل. إنّ النَّذر الوحيد الّذي يَقبَله الله مِن المؤمنِين هو أن يَنذُروا حياتهم له، فيَسعوا إلى تحقيق مشيئته في حياتهم. أن يَنذُر الإنسان حياته للربّ، لا يعني أن يترُك كُلّ شيء ويتبِّع نَمَطًا رهبانيًّا معيّنا، فالحياة الرُّهبانيّة أو الحياة الزَّوجيّة أو الحياة العَمليّة هي جميعها مواهب يمنحها الله للإنسان، ويتفرَّد بها هذا الأخير عن أخيه الإنسان. ومن خلال عيشه لهذه المواهب وِفقًا لمشيئة الله، يَنذُر الإنسان حياته للربّ. إذًا، أن ينذُر الإنسان حياته للربّ لا يعني انقطاع الإنسان عن العالَم الخارجيّ من خلال انتمائه إلى حياة رهبانيّة، إنّما قيامه بكلِّ عملٍ على هذه الأرض بِصدقٍ، أي بما يتوافق مع مشيئة الربّ. إنّ الوَيلات قد تمَّ ذِكرها ثلاثَ مرَّاتٍ في هذا الإصحاح، وهي قد أُطلِقت على الوثَّنِيِّين. إذًا، يعلِن يوحنّا الرَّسول لنا في هذا الإصحاح من خلال هذه الوَيلات، ضربات الله لِمدينة بابل، قَبْل أن يُعلِن انتصار الربّ عليها بالقول للمؤمِنِين:"اِفرَحي لها أيّتها السّماء". إنَّ الربَّ سيَدين بابل، المدينة العظيمة، بسبب اضطهادها للمؤمِنِين. وها قد أتت ساعة دينونتها، إذ لن يسمح لها الربّ بالاستمرار في اضطهادها للمؤمِنِين به.
"وَرَفَعَ مَلاكٌ واحِدٌ قَوِيٌّ حَجَرًا كَرَحىً عَظيمَةٍ، وَرَماهُ في البَحرِ قائِلًا: «هكذا بِدَفْعٍ سَتُرْمَى بابِلُ المَدِينَةُ العَظِيمَةُ، وَلَنْ تُوجَدَ في ما بَعْدُ. وَصَوْتُ الضَّارِبِينَ بِالقيثارَةِ والمُغَنِّينَ والمُزَمِّرِينَ والنَّافِخِينَ بِالبُوقِ، لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ في ما بَعْدُ. وكُلُّ صانِعٍ صِناعَةً لَنْ يُوجَدَ فِيكِ في ما بَعْدُ. وَصَوْتُ رَحىً لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ في ما بَعْدُ. وَنُورُ سِراجٍ لَنْ يُضِيءَ فِيكِ في ما بَعْدُ. وَصَوْتُ عَرِيسٍ وَعَرُوسٍ لَنْ يُسْمَعَ فِيكِ في ما بَعْدُ. لأنَّ تُجَّارَكِ كانوا عُظَماءَ الأرضِ. إِذْ بِسِحْرِكِ ضَلَّتْ جميعُ الأُمَمِ. وَفِيها وُجِدَ دَمُ أَنْبِيَاءَ وقِدِّيسِينَ، وَجميعِ مَنْ قُتِلَ على الأرضِ». إنَّ حجر الرَّحى هو حَجرٌ صَخريّ كبيرٌ، يُستَخدَمُ في المطاحِن والـمعاصِر. وبما أنّه حجرٌ كبيرٌ جدًّا، فإنَّه مَتى رُمِي في البَحر، يغرق أي أنّه لا يستطيع أن يطفو على وَجه المياه. في هذا الإطار، نتذكَّر قول الربِّ يسوع: "ومَن أعثَر هؤلاء الصِغار المؤمنِين بي، فَخيرٌ له أن يُعلَّق في عُنقِه حجرُ الرَّحى ويُغرَقَ في لُجَّة البَحر" (متى 18: 6). إذًا، إنَّ حيثيَّات حُكم الربّ على بابل تكمن في الجريمة الّتي ارتَكَبَتْها ضدَّ المؤمِنِين بالربّ. إنّ الربَّ يسوع يقول للمؤمنِين به من خلال التَّلاميذ، إنّهم سيَدينون العالَم. إنّ التَّلاميذ سيدينون العالم، في اليوم الأخير، إذ سيجعل الربُّ حياتهم أمثلَةً يُحتذى بها، عندما يَدين الشُّعوب الّتي لَم تؤمن به. وبِتَعبيرٍ آخَر، سيدين التّلاميذُ العالَم في اليوم الأخير من خلال إخلاصِهم للربّ وثباتهم في إيمانهم به رَغم كلَّ الضِيقات الّتي تعرَّضوا لها في حياتهم الأرضيّة.

إنَّ الوَضع الّذي نعيشه في لبنان اليوم، يدعونا إلى رؤية الأمور بطريقة سوداويّة. ولكنْ، من خلال قراءتنا لِسِفر الرُّؤيا، يدعونا الربُّ إلى الصَّبر على هذه الضِّيقات، لأنَّها لن تستمرَّ إلى الأبد، بل هي فقط لِوَقتٍ قصير. عند سماعنا وَعْد الله هذا، يُطرَح علينا السُّؤال: هل نُصدِّق كلام الربّ هذا ونَقبلَ به في حياتنا، أم نستمرُّ بالتذمُّر من الوَضع الّذي نَعيشه؟ إنَّ كلام الربِّ لنا يبعث فينا التعزية ويشجِّعنا على الصَّبر على صعوباتنا. إنَّ كَثرَة التذمُّر من صعوباتنا، تفتَح نوافِذ وأبواب للشِّرير كي يدخل إلى نفوسِنا ويزعزع إيماننا بالربّ، فنضطَّر إلى البَحث عن مأوًى آمِنٍ لنا غير الله. إنّ الشَّعب اليهوديّ قد تذمَّر من الربّ في الصَّحراء، حين واجه الصُّعوبات في مسيرته، فَكانَ يُهدِّد الله، من خلال موسى، بالعودة إلى عبوديّة مَصر، إنْ لم يَحصل على كلّ ما يَطلبه إلى الله، أي المأكل والمشرب. في هذا الإطار، نتذكَّر قول الربِّ يسوع للشّيطان، حين جاء هذا الأخير ليُجرّبَه:"مكتوبٌ: ليس بالخُبزِ وَحده يحيا الإنسان، بل بكُلِّ كلمةٍ تَخرُج من فَمِ الله" (متى4: 4). إنّ أجوبة الربّ الثلاثة على تجارب الشِّرير له، مستقاة من سِفر تثنية الاشتراع، أي حين كان الشَّعب اليهوديّ يُهدِّد الله بالرُّجوع إلى مِصر، عند كُلِّ صعوبةٍ تعترضه. نحن أيضًا، نُشبِه الشَّعب اليهودي عندما نواجه الصُّعوبات في حياتنا، إذ نهدِّد الله بالابتعاد عنه واتِّباع آلهةٍ أُخرى، طالبِين إليه أن يُحقِّق لنا كُلَّ رَغباتنا كي نستمرَّ في السَّير معه. إنّ ابتعادنا عن الله، لا يُنهي وجود الله، بل سيُنهي وجودنا نحن، إذ سيكون الهلاك مَصيرُنا، وبالتّالي علينا الصَّبر على شدائدنا كي يكون مصيرنا في الملكوت حيث الله جالسٌ على العرش. إنّ كلمة "صَبر" تعني في اليونانيّة، "تحت الشِّدة". إنَّ المؤمِنِين الذين يتحمَّلون الشَّدائد في سبيل إيمانهم بالربّ، سيسبِّحون الله في الملكوت. ومهما كان الزَّمن قاسيًا على المؤمِنِين، فإنّه يبقى قصيرًا أمام الزَّمن الأبديّ، الّذي سيعيشونه في مَعيّة الربّ، وفي ذلك الزَّمان سيمسح الربّ كُلَّ دمعةٍ من عيونِ المؤمِنِين به. فإن كُنّا نؤمن بالربّ، فإنَّ هذا الكلام سيبعث فينا الرَّجاء والتّعزية، ولكن هذا لا يعني أنَّ مشاكلنا ستُلغى، بل هي ستبقى موجودة، ولكنّنا سنتمكَّن من تَخطِّيها من خلال تمسُّكنا بكلمة الربّ. إنّ المشاكل الّتي تواجهنا في حياتنا، هي اضطهاداتٌ نواجهها، والاضطهاد سيبقى في هذا العالَم على المؤمِنِين، طالما أنّ الشِّرير موجود، وبعض البشر قد رَهَنوا نفوسهم للشِّرير. وفي هذا الإطار، يُذكِّرنا بولس الرَّسول بأنّنا قد اشتُرينا بِثمنٍ، هو دَم الربِّ الذي سُفِك على الصَّليب من أجل خلاصِنا. إذا قَبِل المؤمن شراء الربِّ له بِدَم الخروف، أي بِدَم ابنه، فإنّه عندها سيتمكَّن من مواجهة كلّ الصُّعوبات وتخطِّيها. إنّ المؤمن أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا أنْ يُصدِّق كلام الوحش، أي كلام نيرون، وإمّا أن يصدِّق كلام الخروف، أي كلام الله. فإذا اخترْتَ الربّ، فَستكون جعالَتُك العظيمة أن تكون في الملكوت، في اليوم الأخير، حيث المائدة ممدودة على الدَّوام، والعرس الـمَسِيانِّي أبديّ لا ينتهي. إنَّ ثباتَك في إيمانك بالربّ، سيؤدِّي بك إلى دفع ثمنٍ باهظٍ لِذلك وهو معاناتك من الآلام والاضطهادات. إنّ القرار يعود للإنسان نفسه إمّا بالبقاء مع الربّ أو الابتعاد عنه. يستطيع الإنسان المؤمن أن يصرخ من الوجع، ولكن عليه بالثَّبات في إيمانه. وهنا أودُّ أن أُوضِح بأنّه ليس المطلوب إلى المؤمن أن يَجلِد نفسه، بل أن يقاوم الظُّلم والفساد، والدِّفاع عن الحقّ، بمعنى آخر عدم المساومة على الباطل. ولكن على المؤمن أن يثور على الظُّلم لا باستخدامه عِدَّة هذا العالَم، إنّما باستعماله "عِدَّة الله"، فلا نبادل الشَّر بالشَّر، كما يفعل الوثَّنيِون واليهود، بل نبادل الخير بالخير، كما طَلب إلينا الربُّ يسوع. في يوم الحُكم على الربّ، اختار اليهود إطلاق سراح "برأباس"، والّذي يعني اسمه "ابن الله"، وصَلب الربِّ يسوع الّذي هو ابن الله حقيقةً. كان برأباس ابنًا لله مزيفًا، إذ كان يستخدم عدَّة العالَم، أي السُّيوف والبَطش؛ أمّا الربّ فهو ابن الله حقيقةً، لذا لم يستخدم إلّا عِدَّة الله، فكان يُحبُّ البشر، وقد دَفع ثمنَ هذا الحبّ موتَه على الصَّليب.
في هذا الوضع الّذي نعيشه في لبنان وفي العالَم، نقرأ سِفر الرُّؤيا، فيتزَّخم فِكرنا بكلمة الله، ويُصبح الخروف المذبوح الّذي هو على العرش السّماويّ، موجودًا في كياننا. إنّ الربّ يسوع، بجسده، جالسٌ على العرش السَّماويّ، أي أنَّ عَيِّنةً بشريّة موجودة في السّماء، وما على المؤمن إلّا اتِّباعها ليَنال الملكوت، من خلال المحافظة على كلمة الله بعيدةً عن كلِّ فسادٍ، لتتمكَّن هي أيضًا بِدَورها من المحافظة علينا إلى اليوم الأخير على الرُّغم مِن كلّ الشَّدائد والاضطهادات الّتي سنُعاني منها على هذه الأرض.
في الإصحاحات القادمة، سنكتشف الفرح السّماويّ الّذي سيختبره كلّ المؤمِنِين الّذي ثبتوا في إيمانهم بالربّ حتّى اليوم الأخير.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف.
3/3/2021 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح السابع عشر نهاية فرحة ومعزية للمؤمن
https://youtu.be/W08utpmasqg

تفسير الكتاب المقدَّس
سِفر الرُّؤيا
الإصحاح 17
الأب ابراهيم سعد

3/3/2021

"ثُمَّ جاءَ واحِدٌ مِنَ السَّبعَةِ المَلائِكَةِ الَّذينَ مَعَهُم السَّبعَةُ الجاماتُ وَتَكَلَّمَ معي قائلًا لي: «هَلُمَّ فأُريَكَ دَيْنونَةَ الزّانِيَةِ العَظيمَةِ الجالِسَةِ على المِياهِ الكَثيرَةِ، الَّتي زَنى مَعَها مُلوكُ الأرْضِ، وَسَكِرَ سُكّانُ الأرضِ مِنْ خَمْرِ زِناهَا». فَمَضى بي بالرُّوحِ إلى بَرِّيَّةٍ، فَرَأيتُ امْرأةً جالِسَةً على وَحْشٍ قِرْمِزِيٍّ مَمْلوءٍ أَسماءَ تَجديفٍ، لَهُ سَبعَةُ رؤُوسٍ وعَشرَةُ قُرونٍ. والمَرأةُ كانَتْ مُتَسَربِلَةً بأُرْجوانٍ وقِرْمِزٍ، وَمُتَحَلِّيَةً بِذَهَبٍ وحِجارَةٍ كَريمَةٍ ولُؤلُؤٍ، وَمَعَها كَأسٌ مِنْ ذَهَبٍ في يَدِها مَملوءةٌ رَجاساتٍ وَنَجاساتِ زِناها، وعلى جَبْهَتِها اسْمٌ مَكْتوبٌ: «سِرٌّ. بابِلُ العَظيمَةُ أُمُّ الزَّواني وَرَجاساتِ الأرضِ». ورأيْتُ المَرأةَ سَكْرَى مِنْ دَمِ القِدِّيسِينَ ومِن دَمِ شُهداءِ يَسوعَ. فَتَعَجَّبْتُ لَمّا رأَيْتُها تَعَجُّبًا عَظيمًا! ثُمَّ قالَ لي المَلاكُ: «لماذا تَعَجَّبْتَ؟ أنا أقولُ لكَ سِرَّ المَرأةِ والوَحْشِ الحامِلِ لها، الَّذي لَهُ السَّبعَةُ الرُّؤوسِ وَالعَشرَةُ القُرونِ: الوَحْشُ الَّذي رَأَيتَ، كانَ وَلَيسَ الآنَ، وَهُوَ عَتيدٌ أَنْ يَصْعَدَ مِنَ الهاوِيَةِ وَيَمضي إلى الهَلاكِ. وَسَيَتَعَجَّبُ السَّاكِنونَ على الأرضِ، الَّذينَ لَيسَتْ أَسماؤُهُم مَكتُوبَةً في سِفرِ الحَياةِ مُنْذُ تأسِيسِ العالَمِ، حِينَما يَرَوْنَ الوَحْشَ أَنَّهُ كانَ وَلَيسَ الآنَ، مَعَ أنَّهُ كائِنٌ. هنا الذِّهْنُ الَّذي لَهُ حِكْمَةٌ! السَّبعَةُ الرُّؤوسِ هي سَبْعَةُ جِبال عليها المَرأةُ جالِسَةً. وَسَبعَةُ مُلوكٍ: خَمسَةٌ سَقَطوا، وواحِدٌ مَوجودٌ، والآخَرُ لَم يأتِ بَعْدُ. وَمَتى أتى يَنبغِي أَنْ يَبقى قَليلًا. والوَحْشُ الَّذي كانَ ولَيسَ الآنَ فَهُو ثامِنٌ، وَهُوَ مِن السَّبْعَةِ، وَيَمضي إلى الهَلاكِ. وَالعَشرَةُ القُرونِ الَّتي رأَيتَ هي عَشَرَةُ مُلوكٍ لَمْ يأخذُوا مُلكًا بَعْدُ، لكِنَّهُم يأخُذونَ سُلْطانَهُم كَمُلوكٍ ساعَةً واحِدَةً مَعَ الوَحْشِ. هؤلاء لَهُم رَأيٌ واحِدٌ، وَيُعطُونَ الوَحْشَ قُدْرَتَهُم وَسُلطانَهُمْ. هؤلاءِ سَيُحارِبُونَ الخَروفَ، وَالخَروفُ يَغْلِبُهُم، لأنَّهُ رَبُّ الأربابِ وَمَلِكُ المُلوكِ، والَّذينَ مَعَهُ مَدعوُّونَ وَمُخْتارونَ وَمُؤمِنونَ». ثُمَّ قالَ لي: «المِياهُ الَّتي رأيتَ حَيْثُ الزَّانِيَةُ جالِسَةٌ، هي شُعوبٌ وجُمُوعٌ وَأُمَمٌ وألسِنَةٌ. وأمَّا العَشرَةُ القُرونِ الَّتي رأيتَ على الوَحْشِ فَهؤلاءِ سَيُبْغِضونَ الزَّانِيَةَ، وَسَيَجعَلونَها خَرِبَةً وَعُرْيانَةً، وَيأكُلون لَحْمَها وَيُحْرِقونَها بالنَّار. لأنَّ اللهَ وَضَعَ في قُلوبِهِم أَنْ يَصْنَعُوا رأيَهُ، وأَنْ يَصْنَعوا رأيًا واحِدًا، وَيُعْطوا الوَحْشَ مُلكَهُم حَتَّى تُكْمَلَ أقوالُ اللهِ. والمَرأةُ الَّتِي رأيْتَ هي المَدينَةُ العَظيمَةُ الَّتي لها مُلْكٌ على مُلوكِ الأرضِ».

في هذا السِّفر، سِفر الرُّؤيا، نلاحظ أنّه كلَّما اعتقَد السّامع أنَّ النِّهاية قد أصبَحت وَشيكةً، تفاجأ بأنّها لا تزال بَعيدة: فالكاتب كلَّم المؤمنِين في بداية السِّفر على رؤيته لِسِفرٍ مختومٍ بِسَبعةِ أختامٍ، وعندما وَصل في حديثه إلى الكلام عن الخَتم السّابع، ظنَّ السَّامع أنَّ النِّهاية قد حَلَّت، ولكنّه تفاجأ بوجود سبعةِ أبواقٍ. وما إنْ وَصَل الكاتب في حديثه إلى الكلام على البوق السّابع، حتّى تفاجأ المؤمن بأنَّ النِّهاية ما زالَت بعيدة إذ إنَّ هناك سبعةَ ملائكة. وفي هذا الإصحاح، يُكلِّمنا الكاتب على الملاك السّابع. إنّ الكاتب سيستمرُّ في مفاجأة السّامِع له إلى حين الوصول إلى المشهد الأخير في الإصحاحات الأخيرة من هذا السِّفر، حيثُ الـمَشهد سيكون مُفرِحًا ومُعزِّيًا لِكُلِّ المؤمنِين الّذين ثَبتوا في إيمانهم على الرُّغم من كلِّ ما تَعرَّضوا له من ترهيب وترغيب لإبعادهم عن العبادة الحقّة أي الإيمان بالله. في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا الكاتب صورةً عن النِّهاية ولكنّها لن تكون فِعلاً النِّهاية، إذ كما أنّ البقرة الـمَذبوحة، تستمرُّ لدِقائق معدودة في رَفس كلّ ما هو حولها قَبْل أن تَلفُظ أنفاسَها الأخيرة، كذلك أيضًا الشِّرير الـمُنهَزِم في معركته الأخيرة مع الربّ، سَيُحاول التّعويض عن خسارته تلك من خلال اضطهاده للمؤمنِين بكافّة الطُّرق قَبْل إعلان استسلامه. من خلال هذا الإصحاح، أراد الكاتب أن يُخبِر المؤمنِين أنَّه قد تمّ القضاء نهائيًا على الشِّرير لأنَّ أتباعه، أي الامبراطوريّة مع كلّ الـمُلوك التَّابعين لها، قد سَكروا من دَم القدِّيسين، شهداء يسوع المسيح. وبالتّالي، أراد الكاتب أن يُخبر المؤمنِين أنَّ دماء الشُّهداء مِنهم لن تَذهب هدرًا عند الله إذ إنّهم سيتمكَّنون بِفَضل ثباتهم في الإيمان، من الدُّخول إلى الملكوت ورؤية الـمَلِك الجالس على العَرش، الّذي ينتظرون لِقاءه. إنّ المسألة ليسَت مسألة انتقامِ الربِّ للمؤمِنِين من أعدائهم، بل هي مسألة مكافأة المؤمنِين على صبرهم وجهادهم في الأرض، إذ سيتمكَّنون من مشاهدة المدينة المقدَّسة النَّازلة من السّماء، وهي ما سَيُخبرُنا عنها الكاتب في الإصحاحات اللَّاحقة. إنّ الربَّ حاضرٌ لاستقبالِ كلّ المؤمنِين به والشَّهداء، في سبيل إيمانهم به في الملكوت، أي في المدينة المقدَّسة، حيثُ لا خطيئةَ ولا دموعَ، بل صفاء وسلام.

في هذا الإصحاح، يُخبرنا الكاتب أنّ العَشرة الرُّؤوس والعَشرة القرون، ترمز إلى امبراطوريّة روما في ذلك الزَّمان، وقد شبَّهها أيضًا بمدينة بابل. إنّ مشكلة مدينة بابل، تكمن في أنّ أهلَها، الّذين هُم شعبٌ واحد، أرادوا بناء بُرجٍ في المدينة، تعبيرًا عن رغبتهم في حماية ذواتهم وحماية مدينتهم، بَعيدًا عن الله. بحسب الـمَنطِق البشريّ، إنّ حماية المدينة هو أمرٌ مشروعٌ وصالحٌ، أمّا في المنطِق الإلهيّ، فهذا أمرٌ مرفوضٌ تمامًا لأنّ بناءَ البرُجِ يُعبّر عن استقرار هؤلاء في المدينة، وبالتّالي خضوعهم لآلهةٍ وَثنيّة، ما يعني ابتعادِهم عن الله. إنّ كلَّ حديث عن "مدينة" في الكِتاب المقدَّس، خصوصًا في العهد القديم، يُعبِّر عن الوثنيّة، فوجود مدينة يعني وجود مَلِك، وإلهٍ يَعبُده، وشَعبٍ يخضع للمَلِك ولإلهه، أي بمعنى آخر الحديث عن المدينة في الكِتاب المقدَّس هو حديثٌ عن الوَثنيّة. في القديم، طَلَب شعبُ الله إلى الله أن يَختار لَهم مَلِكًا أرضيًّا فيُصبحوا كسائر الأُمَم، فرَفضَ الله هذا الأمر في البداية، إذ لا مَلِكَ حقيقيًّا سِواه، ولا إله حقيقيًّا إلّاه، ولكن بَعد إصرار الشَّعب، قَبِل الله بأن يَختاروا من بَينهم مَلِكًا أرضيًّا فيَختبروا الهاوية الّتي سيُوصِلهم إليها أيُّ مَلِكٍ أرضيّ يَختارونه. وما داود الـمَلك إلّا صورةٌ حقيقيّة عن الـمَلِك الأرضيّ، الّذي كان في نَظر الشَّعب اليهودي، يعكس صورة الله على الأرض، أمّا في نَظر الله فقد كان داود مجرَّد إنسان بشريّ ضَعيف، لا يَملِكُ مؤهّلات مَلِكٍ، لولا اختيار الله له وَجَعلِه مَلِكًا على الشَّعب. ما اختبره الشّعب هو اختبار آدم ولكن بِشكلٍ جماعيّ: فَبِتَناوُلِه من شجرة معرفة الخير والشَّر، أقام آدم علاقةً بين الخير والشَّر، مخالفًا بِذَلك أوامِر الله، الّذي حذَّره من الأكل من ثمار هذه الشَّجرة كي لا يموت، فَوَقع في الخطيئة. وكذلك نجد فِكرة المدينة في قصّة قايين وهابيل: فَهَذان الأخوان اللّذان كانا يُحبَّان الله، قدَّما كُلّ منهما ذبيحةً لله مِن نِتاجِ عملِهما: الأوَّل أي قايين، قدَّم باكورة نتاجه الأرضيّ وهابيل قدَّم حملاً مِن قطيعه. وهنا يُطرَح السُّؤال، استنادًا إلى نَظرَتنا الأرضيّة لهذه القصَّة: لِماذا قَبِل الله ذبيحة هابيل ولَم يَقبل ذبيحة قايين؟ في قراءتنا لهذه القصَّة، نستَنتج أنّ الله لَم يكن عادلاً بالنِّسبة إلينا، إذ فَضَّل ذبيحة هابيل على ذبيحة قايين؛ وهذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا. إنَّ الـمَقصود من خلال هذِه القصَّة، هو أنّ الله قد قَبِل ذبيحة هابيل وفضَّلها على ذبيحة قايين، لأنَّ قايين كان يعمل في الزراعة الّتي تحتاج إلى استقرارٍ في مكان جغرافيّ محدَّد، أي في مدينة محدَّدة، وهذا يفترض خضوع قايين لِسُلطة هذا الـمَلِك ولِإلهٍ وَثنيّ، بِمعنى آخَر،كلُّ مدينة مَبنيّة على علاقةِ الشَّعب بِصَنميّة مُعيَّنة، أي بارتباطٍ وثنيّ؛ أمَّا قايين فقد كان راعيًا أي أنّه كان يعيش حياةً بَدَويَّةً، مُتنقِلاً من مكانٍ إلى آخر، ممّا يعني أنَّه لَم يكن لديه مكانٌ واحد يستقرُّ فيه، وبالتّالي فإنَّ استقراره الحقيقيّ هو من الله. إنّ الشَّعب اليهوديّ سار في الصَّحراء مدَّة أربعين سنة، فكان الله يؤمِّن لهم كُلَّ احتياجاتهم، ولكن عندما استقَرَّ الشَّعب في أرض الميعاد، طالب هذا الأخير اللهَ باختيارِ مَلِكٍ لهم لِيَكونوا كَسائر الأُمَم. عندما أصبح داود مَلِكًا على شعب اسرائيل، ثَمثَّل بالملوك الأرضيِّين، فأقام هيكلاً لله، وأصبح هو يُصلِّي نيابةً عن الشَّعب بأسْرِه، بدليل أنَّ المزامير جميعها قد نُسِبَت إليه. إنّ الـمَلكِيّة هي حالة خَطِرة جدًّا لأنّها تُبعِدنا عن الله وتَعرض علينا طَرحًا جديدًا مُخالِفًا لِطَرح الله. في قِصَّة آدم، ترمز الحيّة إلى إله الخِصب، إله الحياة عند البابليِّين. وبالتّالي، فالمقصود من الحيّة في قصَّة آدم، هو أنّ دخول العِبادات الوثنيّة على حياة الشَّعب المؤمن بالله، تؤدِّي حَتمًا إلى تَدَهور العلاقة بين الإنسان والله بسبب ابتعاد الإنسان عن الله واتِّباعه آلهة أُخرى. في العهد القديم، كلَّمنا سِفر التَّكوين على مدينة بابل الوثنيّة، وهنا يُكلّمنا كاتب هذا السِّفر على امبراطوريّة روما الوثنيّة الّتي حَكمت المسكونة كُلَّها في ذلك الزَّمان.

في هذا الإصحاح، تُشير البِحار إلى الأُمَم الوثنيّة. إنّ روما هي مركز الامبراطوريّة الوَثنيّة، وقَد أنشأت هذه الامبراطوريّة مَعابد لآلهتِها الوثنيّة، وقد حاولت إبعاد المؤمنِين بالربّ عن العِبادة الحقَّة، مُدخِلين المؤمنِين في حالةٍ من "الانفصام الرُّوحيّ"، من خلال مَزج المؤمنِين بين العبادات الوثنيّة والعبادة الحقَّة. هذا ما فَعله الشَّعب اليَهوديّ، إذ كان يَلجأ إلى الآلهة الوثنيّة حين يتأخَّر الربُّ في تلبية طلباته. إنّ مِثل هذا التصرُّف، يُسمَّى "زِنىً": فعبارة "زنى" في العَهد القديم، تعني تَركُ الإنسانِ أو الشَّعب للعبادة الحقَّة أي الابتعاد عن الله، من أجل إتِّباع آلهةٍ أُخرى لا أفواه لها لِتَتكلَّم، ولا أذانَ لها لِتَسمع، ولا عيونَ لها لتَرى. في سِفر إرميا، يُخبرنا النبيّ أنّ الشَّعب اليهوديّ، قد تَرك الإله الحيّ من أجل اتِّباع آبارٍ مشَّققَّة فارغة، غير قادرة على إرواءِ عَطَشِهم. إذًا، من العهد القديم إلى العهد الجديد، يعالج الكِتاب الـمُقدَّس مسألةً واحدة تُلَخَّص في هذا السُّؤال: أنت أيّها المؤمن، عندما تعترِضك الصُّعوبات في هذه الحياة، هل تترك الله من أجل اتِّباع آلهةٍ أُخرى، أم تَبقى ثابتًا في إيمانِك بالربّ؟ أو بِعبارةٍ أخرى: هل تسعى في الصُّعوبات إلى إشراك الآلهة الوَثنيّة مع الإله الحقيقيّ؟ عندما يَختار الإنسان اتِّباع آلهةٍ وثنيّة، فإنّه لا يتبَع إلهًا، إنّما وَهمًا، وبالتّالي تُصبح حالة هذا الإنسان مُشابهة لحالة الشَّعب اليهوديّ، الّذي صَنع لِنَفسه عِجلًا من ذهب لِيَعبُدَهُ، حين تأخَّر موسى في النُّزول مِن الجبل مَع لَوحي الوصايا. لم يَختَر الله هذا الشَّعب اليَهوديّ بسبب قداسته، إنّما اختاره الله، لأنَّه كان لا بُدَّ لله من أن يبدأ بمسيرة خلاصِه للبشريّة من شَعبٍ معيَّن، فاختار هذا الشَّعب الّذي كان شَعبًا مقهورًا بسبب خضوعه للعبوديّة في أرضِ مِصر. في سِفر الرؤيا، يُخبرنا الكاتب عن امرأةٍ زانيةٍ هي "المدينة العَظيمة"، "بابل"، الّتي توظِّف كلَّ طاقاتها وجُهدِها لإبعاد المؤمنِين عن الله. وهذه المرأة في يومِنا هذا، قد ترمز إلى المال أو السُّلطة الخالية من المحبَّة، الّتي تقود إلى التسلُّط. وهنا نتذكَّر قول الربِّ لنا: "أحِبُّوا بَعضكم بَعضًا كما أنا أحببتُكم. إذا أحبّ بعضكم البعض، عرَفَ العالم أنَّكم تلاميذي" (يو 13: 43). من خلال كلام الربّ، نُدرِك أنّ الربَّ يدعونا إلى محبّة الآخَرين وخِدمتهم، إذ يقول لنا في مكانٍ آخر:" مَن أرادَ أن يكون الأوَّل فيكم، فليَكن لَكم خادِمًا" (متى 20: 26). في ظلّ هذه الظُّروف الصَّعبة الّتي نَعيشها في لبنان، نحاول الانتفاض على هذا الواقع وحَلّ مشاكِلنا من خلال استخدام لغة المسؤولين، أي لُغة العالم، بَدل استخدام لُغة المسيح، أي لُغة الـمَحبّة.

في هذا السِّفر، يوجِّه الكاتب كلامَه إلى المؤمنِين الّذين يُعانون من الاضطهاد، وهُم عُرضةٌ في كلِّ يومٍ إلى الاستشهاد، قائلاً لهم: إيّاكم واستخدام لُغة الشِّرير في تعامُلِكم مع الآخَرين لأنّه عندئذٍ سَتَهدمونِ بتَصَرُّفاتكم مَلكوت الله في هذا العالم، الّذي بَنَيتموه بإيمانكم بالربّ. نحن مدعوون إلى غلبةِ الشِّرير كما غَلبَ الربُّ يسوع على الصَّليب: فإنّه لو قَبِل الله ولو مرَّةً واحدةٍ أن يَخضَع لأفكار اليَهود ورَغباتهم لَكان الربُّ قد فَشِل في مَنحِنا المَلكوت، وهَدَم بالتَّالي كلّ مشروع الله الخلاصيّ للبَشَر. إنّ موسى وداود وكثيرين غيرهم اعتقدوا أنّه باستطاعتهم أنْ يَمنحوا خلاص الربِّ للشَّعب بقوَّتهم، ففشِلوا في ذَلك، وعرقلوا مشروع الله للبشر، لذلك استبدلهم الله بآخَرين، من أجل إكمال مشروعه الخلاصيّ للبشر. إنّ الربَّ يسوع هو الوحيد الّذي تَمكَّن من طاعة الله طاعةً عمياء، فَحقَّق في حياته الأرضيّة مشروع الله الخلاصيّ للبشر، فقاد معركته ضِدَّ الشِّرير وانتصَر عليه بالموت. إنّ لغة انتصار الله في معركته ضِدَّ الشِّرير بعيدةٌ كُلّ البُعد عن لُغة انتصارنا نحن البشر: إنّ الله قد انتصَر على الموت بالموت، أمّا نَحن فنُعلِن انتصارنا باضطهاد الآخَرين وَصَلبِهم، وهذا ما نسمِّيه "الصَّالبيّة"، في حين أننّا مدعوون إلى صَلب ذواتنا من أجل نَشر كلمة الحقّ، كلمة الله، بين البشر، أي بِعَيشِنا "الـمَصلوبيّة".

إنّ المرأة الزانية هي المَدينة العَظيمة، وهي تَرمز إلى بابل في العهد القديم، وإلى امبرطوريّة روما في هذا السِّفر. إنّ الشَّيطان هو كَذّابٌ وأبو الكذب، كما قال عنه الربّ، إنَّه الوَهم وأبو الوَهم. إنّ غالبيّة النّاس يَخافون من الشِّرير أكثَر من خوفِهم من الله، لأنَّ الله يُلبّي احتياجاتهم، أمّا الشِّرير فيُلبيّ لهم رَغباتهم، أهواءَهم الـمُعِيبة أو الـمُعابة، مَلذَّاتهم الإنسانيّة المتوارَثة من آدم. إنَّ الأكل هو جاحةٌ عند الإنسان وهي صالحة، أمّا الشَّراهة فهي شَهوةٌ مُعيبة. إنَّ النَّوم هو حاجة ضروريّة وصالحةٌ عند البشر، أمّا الكَسَل فهو شَهوةٌ مُعيبة. إنَّ الغَضب هو شَهوةٌ مُعيبة لأنَّه يُولِّد الخطايا. إنّ حاجات الانسان هي حاجاتٌ صالحة ولكنَّ المبالغة في تلبيّتها يُحوِّلها إلى شهوةٍ مُعيبة، وبالتّالي إلى آلهةٍ وثنيّة تُخضِع الإنسان لها. إذًا، إنَّ الحرب الحقيقيّة الّتي يُكلِّمنا عليها سِفر الرُّؤيا ليستَ حربًا بين الله والآلهة الوثنيّة، بل هي حربٌ بين الله وأفكار البشر الّتي تتحوَّل إلى آلهةٍ بالنِّسبة إليهم مع أنَّها في الحقيقة وَهمٌ. في هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول: "إنَّ مُصارَعَتَنا لَيسَت مع دَمٍ ولَحم، بل مع الرُّؤساء، مع السّلاطين، مع ولاةِ العالَم على ظُلمةِ الدَّهر، مع أجنادِ الشَّر الرُّوحيّة في السَّماويّات" (أف 6: 12). في هذا الإصحاح، يُخبِر الكاتب المؤمِنِين بالربّ، بأنَّ الّذي يَضطهِدهم من خلال العمل على تجويعهم وقَتلهم، سيُباد إلى الأبد، وأنّهم سينتصِرون على كلِّ أشكال الشَّر، كما غلب الربُّ يسوع. في هذا الإصحاح، يُخبرُنا الكاتب إنّ الحرب الحقيقيّة هي بين الخروف والوحش، أي بين الله والشِّرير، بِمعنى آخر إنَّ الحرب الحقيقيّة ليست حربًا بين الشِّرير والبَشر، فالإنسان جبلةٌ ضَعيفَةٌ. إنّ الشِّرير يشنُّ حربًا على الخروف السَّاكِن داخِل المؤمن، معتَقدًا أنّه بتِلك الطَريقة سينجح في إلغاء وجود الخروف في العالَم. إخوتي، عندما يتمكَّن الشِّرير من قَتل الخروف في داخل المؤمن، يُصبح المؤمن عبدًا للشِّرير. وعندما لا ينجح الشِّرير في قَتلِ الخروف داخل المؤمن، يقوم الشِّريرُ بِدَفع المؤمن إلى تنويم الخروف في داخله، ليتمكَّن الإنسان من مخالفة تعاليم الربّ. ولكن السُّؤال الّذي يُطرَح هنا: ماذا لو مات الإنسان قَبل أن يقوم بإيقاظ الخروف فيه؟ أو ماذا لو مات الخروف حقًّا في داخل المؤمِن، عندها ماذا سيكون مَصيرُ الإنسان؟ إذًا، الحرب الحقيقيّة هي بين ثباتك في الإيمان من جهةٍ والخضوع للإغراءات والتَّرهيب من جهةٍ أُخرى. في هذا الإصحاح، يُعلِن لنا الكاتب بداية زوال هذه المدينة والوَحش.

فَتَعَجَّبتُ لمّا رأيتُها تَعَجُّبًا عَظيمًا! ثُمَّ قالَ لي المَلاكُ: «لماذا تَعَجَّبْتَ؟ أنا أقولُ لكَ سِرَّ المَرأةِ وَالوَحْشِ الحامِلِ لها، الَّذي لَهُ السَّبعَةُ الرُّؤوسِ وَالعَشرَةُ القُرونِ: الوَحْشُ الَّذي رأيتَ، كانَ ولَيسَ الآنَ، وَهُوَ عَتيدٌ أَنْ يَصْعَدَ مِنَ الهاوِيَةِ ويَمضي إلى الهَلاكِ. وَسَيَتَعَجَّبُ السَّاكِنونَ على الأرضِ، الَّذينَ لَيسَتْ أسماؤُهُمْ مَكْتوبَةً فِي سِفرِ الحَياةِ مُنْذُ تَأسِيسِ العالمِ، حينما يَرَوْن الوَحْشَ أنَّهُ كانَ ولَيسَ الآنَ، مَعَ أنَّهُ كائِنٌ. هنا الذِّهنُ الَّذي لَهُ حِكْمَةٌ! السَّبعَةُ الرُّؤوسِ هي سَبعَةُ جِبالٍ عليها المَرأةُ جالِسَةً. وَسَبعَةُ مُلوكٍ: خَمْسَةٌ سَقَطوا، وواحِدٌ مَوْجُودٌ، والآخَرُ لَمْ يَأتِ بَعْدُ. وَمَتَى أتى يَنبَغِي أَنْ يَبقى قليلًا. وَالوَحْشُ الَّذي كانَ وَلَيسَ الآنَ فَهُوَ ثامِنٌ، وَهُوَ مِنَ السَّبعَةِ، وَيَمضي إلى الهَلاك. وَالعَشرَةُ القُرونِ الَّتي رأيتَ هي عَشرَةُ مُلوكٍ لَمْ يَأخُذُوا مُلْكًا بَعْدُ، لكِنَّهُمْ يَأخُذونَ سُلْطانَهُم كَمُلوكٍ ساعَةً واحِدَةً مَعَ الوَحْشِ. هؤلاءِ لَهُمْ رَأيٌ واحِدٌ، وَيُعْطونَ الوَحْشَ قُدْرَتَهُمْ وَسُلْطانَهُمْ. هؤلاءِ سَيُحاربونَ الخَروفَ، وَالخَروفُ يَغْلِبُهُمْ، لأَنَّهُ رَبُّ الأربابِ وَمَلِكُ المُلوكِ، وَالَّذينَ مَعَهُ مَدْعوُّونَ وَمُخْتارونَ وَمُؤمِنونَ»." إنّ الكلام هنا يتمحوَر حول المدينة العَظيمة، أي بابل، والّـتي ترمز إلى امبراطوريّة روما، الّتي تسعى بِكلِّ قواها إلى إبعاد المؤمنِين عن العبادة الحقّة ودَفعِهم إلى الخضوع لعباداتِها الوثنيّة. وقد شَرح لنا الكاتب، في هذا الإصحاح، رموز هذه الامبراطوريّة. في الإصحاحات الأُولى من هذا السِّفر، أخبرنا الكاتب أنَّ الخروف قد غَلب الوحش، ويؤكِّد هذه الغلبة للخروف في هذا الإصحاح. إنَّ الخروف هو "ربُّ الأرباب ومَلِك الملوك"، وهذه الصِّفة لا تُعطى في الكِتاب المقدَّس، في العهد القديم وفي العهد الجديد، إلّا لله. وبالتّالي، من خلال ذِكره لِهذه العبارة، أراد الكاتب التركيز على ربوبيّة يسوع وألوهيّته، اللّتَين لا يُمكن لِغَير المؤمِنين رؤيتهما.
"ثُمَّ قالَ لي: «المِياهُ الَّتي رأيْتَ حَيثُ الزَّانِيَةُ جالِسَةٌ، هي شُعوبٌ وَجُموعٌ وَأمَمٌ وألسِنَةٌ. وَأَمَّا العَشرَةُ القُرونِ الَّتي رأيتَ على الوَحْشِ فَهؤلاءِ سَيُبْغِضُونَ الزَّانِيةَ، وَسيَجعَلونَها خَرِبَةً وَعُرْيَانَةً، وَيَأكُلُونَ لَحْمَهَا وَيُحْرِقونها بالنَّارِ. لأنَّ اللهَ وَضَعَ في قُلوبِهِم أَنْ يَصْنَعُوا رأيَهُ، وَأَنْ يَصْنَعُوا رأيًا واحِدًا، وَيُعْطوا الوَحْشَ مُلْكَهُمْ حَتَّى تُكْمَلَ أقوالُ اللهِ. وَالمَرأةُ الَّتي رأيتَ هي المَدينَةُ العَظِيمَةُ الَّتِي لَها مُلْكٌ على مُلوكِ الأرْضِ». إنّ كلّ الّذين خَضَعوا للوحش سَيُبادون، ولن يبقى في اليوم الأخير إلّا القدِّيسين أي الّذين ثَبتوا في إيمانهم بالربّ، الّذين سيكونون في مَعيّة الله لأنَّهم سيَجلِسون في أحضان الآب. إنَّ القدِّيسِين سَيَدخلون في اليوم الأخير إلى المدينة العظيمة النّازلة من السَّماء. في هذا الإصحاح، أراد الكاتب أن يقول للمؤمنِين الّذين هم تحت الشِّدة، إنّ الدينونة العظيمة سَتَكون "للزانية الجالسة على المياه الكثيرة"، أي الَّتي تُسيطِر على العالم، والّتي تَبِعتها الشُّعوب فَزنت معها. إنّ الحِياد فَهو أمرٌ سَلبيّ في الكِتاب المقدَّس، إذ إنّه لا يُمكن للمؤمِن أن يكون في حالة حِيادٍ بين الله والشَّر، بين الحقّ والباطل. إنَّ الحياد يُشير إلى أنَّ المؤمن ليس مع الحقّ ولا مَع الباطل، وهذا يعني أنَّه ليس مع الحقّ. وبالتَّالي، الحِياد أيضًا هو زِنى روحيّ. على المؤمن أن يتَّخِذ موقِفًا من تعاليم يسوع وعجائبه، من موته وصَلبِه، إذ لا يمكن للمؤمن أن يكون فاترًا لأنَّ الربَّ يقول لنا في هذا السِّفر: "لأنَّك فاترٌ ولستَ باردًا أو حارًا، فأنا مُزمِعٌ أن أتقيَّأكَ من فَمي" (رؤيا 3: 16). إذًا، على المؤمن ألّا يَقبل بالمساومة بين الله والآلهة الأخرى. فإنَّ كلَّ خطيئة تبدأ من مساومة الإنسان بين الحقّ والباطل. على المؤمِن السَّهر كي لا يُفاجِئه يوم الربِّ كالسَّارق ليلاً. إنّ الآباء الرُّوحِيِّين يشجِّعوننا على التّشبُّه بالشِّرير في أمرٍ واحدٍ، وهو الجِدِّية والسَّهر، فالشِّرير لا يتوانى عن المحاولة في إبعاد المؤمنِين عن الله، كذلك نحن مدعوون إلى السَّهر واليقظة الرُّوحيّة كي نكون مستعدِّين على الدَّوام لِيَوم الربّ.

في صراع الربّ مع المرأة السَّكرى مِن دم القدِّيسِين ودَم شهداء يسوع، نَتحوَّلُ، نحن المؤمنون إلى خَمرٍ تَشربها هذه المدينة العَظيمة، فَتَسكَر مِن دمائنا. إنَّ الخمر نوعان: إمّا أن يكون هذا الخمر هو دَمُكَ أنت المؤمن، لأنَّك استشهدت في سبيل المحافظة على إيمانك؛ وإمَّا أن يكون هذا الدَّم هو خطاياك، بسبب اتِّباعِكَ للآلهة الأُخرى. إنَّ الّذين يقدِّمون للمرأة الزانية خطاياهم كَدَمٍ تَسكَرُ فيها، أسماؤهم ليسَت مَكتوبةً في سِفر الحياة، منذ تأسيس العالَم. إنّ الله لم يُعيِّن مُسبقًا الّذين سَيَبقَون ثابتين في إيمانهم بالربّ إلى اليوم الأخير، ولكنَّ الربَّ يَعلَم مُسبقًا بقرارِك في زَمن الاضطهاد قَبل أن تُنفِّذه. إنَّ الربَّ قَبْل أن يَختار بولس، اختار كثيرين لاتِّباعه، فَرَفضوا دَعوةِ الربِّ لهم، فاستمرَّ الربُّ بالبَحثِ عَمَّن يَقبل بِمَشروعه إلى أن وَصَل إلى بولس فَقَبِل هذا الأخير ِبِدَعوة الربَّ له، فتابع الله معه مشروعه الخلاصيّ للبشر. أمّا نحن فَقَد قَبِلنا بكلمة الله وقَبِلنا أن نكون أبناءه غير أنّنا نتصرَّف على عكس ما تتطلَّبه منّا هذه البُنوّة لله، أي أنّنا نتصرَّف بِعكس تعاليم الربّ، ثمّ نعود ونلتجئ إلى الربِّ في المساء، ذارِفين دموعَ التَّوبة، فيُصدِّق الربُّ توبَتنا ويسامحنا، مع عِلمه أنّنا سنعود لارتكاب الخطيئة عند أقرب فرصةٍ متاحة. إنّ الله هو الضّحية ونحن الجّلادين لا العكس.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف. تتمة...
24/2/2021 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح السادس عشر انتصار الربّ ضد الشرير
https://youtu.be/57mIqkyHyOc

تفسير الكتاب المقدَّس
سِفر الرُّؤيا
الإصحاح 16
الأب ابراهيم سعد

24/2/2021

"وسَمِعْتُ صَوتًا عَظيمًا مِن الهَيْكَلِ قائلًا للسَّبعَةِ المَلائكَةِ: «امْضوا واسْكُبوا جاماتِ غَضَبِ اللهِ على الأرضِ». فَمَضى الأَوَّلُ وَسَكَبَ جامَهُ على الأرضِ، فَحَدَثَتْ دَمامِلُ خَبيثَةٌ وَرَدِيئةٌ على النَّاسِ الَّذينَ بِهِم سِمَةُ الوَحْشِ وَالَّذينَ يَسْجُدونَ لِصُورَتِهِ. ثُمَّ سَكَبَ المَلاكُ الثّانِي جامَهُ على البَحْرِ، فَصارَ دَمًا كَدَمِ مَيِّتٍ. وَكُلُّ نَفْسٍ حَيَّةٍ ماتَتْ في البَحْرِ. ثُمَّ سَكَبَ المَلاكُ الثّالِثُ جامَهُ على الأنهارِ وَعلى يَنابِيعِ المِياهِ، فَصارَتْ دَمًا. وَسَمِعْتُ مَلاكَ المِياهِ يَقولُ: «عادِلٌ أَنتَ أَيُّها الكائِنُ وَالَّذِي كانَ وَالَّذي يَكونُ، لأَنَّكَ حَكَمْتَ هكَذا. لأنَّهُمْ سَفَكوا دَمَ قِدِّيسِينَ وَأَنبياءَ، فَأَعْطَيْتَهُم دَمًا لِيَشْرَبوا. لأَنَّهُمْ مُستَحِقُّونَ!» وَسَمِعْتُ آخَرَ مِن المَذبَحِ قائلًا: «نَعَمْ أيُّها الرَّبُّ الإِلهُ القادِرُ على كُلِّ شَيءٍ! حَقٌ وَعادِلَةٌ هِيَ أَحْكامُكَ». ثُمَّ سَكَبَ المَلاكُ الرَّابعُ جامَهُ على الشَّمْسِ، فَأُعْطِيَتْ أَنْ تُحْرِقَ النّاسَ بِنارٍ، فَاحْتَرَقَ النّاسُ احْتِراقًا عَظيمًا، وَجَدَّفُوا على اسْمِ اللهِ الَّذِي لَهُ سُلْطانٌ على هذِهِ الضَّرَباتِ، وَلَمْ يَتُوبوا لِيُعْطُوهُ مَجْدًا. ثُمَّ سَكَبَ المَلاكُ الخامِسُ جامَهُ على عَرْشِ الوَحْشِ، فَصارَتْ مَمْلَكَتُهُ مُظْلِمَةً. وَكانوا يَعَضُّونَ على أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الوَجَعِ. وَجَدَّفوا على إلهِ السَّماءِ مِنْ أَوجاعِهِم وَمِن قُروحِهِم، وَلَمْ يَتُوبوا عَن أَعْمالِهِم. ثُمَّ سَكَبَ المَلاكُ السّادِسُ جامَهُ على النَّهْرِ الكَبيرِ الفُراتِ، فَنَشِفَ ماؤُهُ لِكَي يُعَدَّ طَرِيقُ المُلوكِ الَّذينَ مِنْ مَشرِقِ الشَّمْسِ. وَرأَيْتُ مِنْ فَمِ التِّنِّينِ، وَمِنْ فَمِ الوَحْشِ، وَمِنْ فَمِ النَّبِيِّ الكَذَّابِ، ثَلاثَةَ أَرْواحٍ نَجِسَةٍ شِبْهَ ضَفادِعَ، فإنَّهُمْ أَرْواحُ شَياطِينَ صانِعَةٌ آياتٍ، تَخْرُجُ على مُلوكِ العالَمِ وَكُلِّ المَسكونَةِ، لِتَجمَعَهُم لِقِتالِ ذلك اليَومِ العَظيمِ، يَومِ اللهِ القادِرِ على كُلِّ شَيءٍ. «ها أنا آتِي كَلِصٍّ! طوبى لِمَنْ يَسْهَرُ وَيَحْفَظُ ثِيابَهُ لِئَلّا يَمشيَ عُرْيانًا فَيَرَوْا عُرْيَتَهُ». فَجَمَعَهُم إلى المَوضِعِ الَّذي يُدْعَى بِالعِبْرانِيَّةِ «هَرْمَجَدُّونَ». ثُمَّ سَكبَ المَلاكُ السَّابعُ جامَهُ على الهَواءِ، فَخَرَجَ صَوْتٌ عَظيمٌ مِنْ هَيْكَلِ السَّماءِ مِن العرْشِ قائلًا: «قَدْ تَمَّ!» فَحَدَثَتْ أَصْواتٌ وَرُعودٌ وَبُروقٌ. وَحَدَثَتْ زَلزَلَةٌ عَظيمَةٌ، لَمْ يَحْدُثْ مِثْلُها مُنْذُ صارَ النَّاسُ على الأرْضِ، زَلْزَلَةٌ بِمِقْدارِها عَظيمَةٌ هكَذَا. وَصارَتِ المَدينَةُ العَظيمَةُ ثَلاثَةَ أَقسامٍ، وَمُدُنُ الأُمَمِ سَقَطَتْ، وَبابِلُ العَظيمَةُ ذُكِرَتْ أمامَ اللهِ لِيُعْطِيَهَا كَأسَ خَمْرِ سَخَطِ غَضَبِهِ. وَكُلُّ جَزيرَةٍ هَرَبَتْ، وَجِبالٌ لَمْ تُوجَدْ. وَبَرَدٌ عَظيمٌ، نَحْوُ ثِقَلِ وَزْنَةٍ، نَزَلَ مِن السَّماءِ على النَّاسِ. فَجَدَّفَ النَّاسُ على اللهِ مِنْ ضَرْبَةِ البَرَدِ، لأَنَّ ضَرْبَتَهُ عَظيمَةٌ جِدًّا".

في هذا الإصحاح، نَجِد بدايةَ تحوُّلاتٍ كُبرى في سِفر الرُّؤيا: فَيُخبرنا كاتب هذا السِّفر عن قوّة المعركة النِّهائيّة الّتي سَيقودها الله ضِدَّ الشِّرير وأتْباعِه، إذ يقول لنا إنَّ الله قد ألقى غضَبه على الجميع مُبتَدئًا بالأرض، ثمّ بالبحر وبعدها بالأنهار. إنّ الأرض ترمز إلى اليَهود الّذين رفَضوا المسيح فَحاربوا المسيحيِّين، أمّا البَحر فَيَرمز إلى الوثنيِّين أي الأُمَم. إنّ الأنهار ترمز إلى المسيحيِّين الّذين ارتَدّوا عن الإيمان بالمسيح عند تعرُّضهم للتَّرغيب والتَّرهيب مِن قِبَل الامبراطور، فَخضعوا لإلهِه الوثنيّ، فكان سقوط هؤلاء المسيحيّين سببًا في سقوط مؤمنِين آخَرين في فخّ الامبراطور، مُتَّخذين موقِفَ العدوّ أي موقف التِّنين، موقِفَ الوحش، موقف النبيّ الكذَاب.كان غضَب الله الرّابع على الشَّمس، وهنا نتذكَّر قصَّة الخَلق إذ يُخبرنا كاتب سِفر التَّكوين أنَّ الله قد خَلَق النُّور في اليوم الأوَّل أمّا الشَّمس فقد خَلقَها الله في اليوم الرَّابع، مَع العِلم أنَّ الشَّمس هي الّتي تُعطي النُّور. إنّ هذا الفَرق في التَّوقيت بين خَلق النُّور وخَلقِ الشَّمس يُشير إلى أنّ النُّور الحقيقيّ لا يَنبع من الشَّمس إنّما من الله. كانت الشّمس إحدى آلهة الوثنيّين، أي أنَّ هؤلاء كانوا يَعبدونها، أمّا بالنِّسبة إلى كاتب سِفر التَّكوين فهو لا يعترف بوجود أي إله إلّا الله الحيّ، لذا اعتبرَ الكاتبُ الشَّمسَ مُجرَّد زينَةٍ فَلَكِيّة، فَلَمْ يُسمِّها باسْمِها بل أشار إليها بالقول "النَّير الأكبر"، ممّا يعني أنّه لَم يُعطِها أيّةَ قيمةٍ، فَذِكرُ الاسم هو دلالةٌ على الحضور والقيمة. إذًا، في هذا الإصحاح، أراد كاتب سِفر الرّؤيا أن يقول لنا إنَّ الخَلق القديم سيَنتهي في اليوم الأخير، لأنَّ الله سيقوم بِعَمليّة خَلقٍ جديدة، لذلك يُخيرنا في هذا السِّفر عن مدينة الله، أورشليم السَّماويّة النّازلة من السَّماء، وبالتّالي، سَيَكون هناكَ مركزٌ جديدٌ لحضور الله، وعرش الله سَيَمتَدُّ مِنَ السَّماء إلى الأرض. في سِفر التَّكوين، نلاحظ أنَّ الله قد خَلَقَ البحار والأنهار في يوم واحدٍ، أمّا في هذا الإصحاح، فنلاحظ أنَّ البحار نالت ضَربةً من الله، مُنفصلةٍ عن ضربة الأنهار.

"وَسَمِعْتُ صَوتًا عَظيمًا مِنَ الهَيكَلِ قائلًا للسَّبعَةِ المَلائِكَةِ: «امْضوا وَاسْكُبوا جاماتِ غَضَبِ اللهِ على الأرضِ». فَمَضى الأَوَّلُ وَسَكَبَ جامَهُ عَلَى الأرضِ، فَحَدَثَتْ دَمامِلُ خَبِيثَةٌ وَرَدِيئةٌ على النَّاسِ الَّذينَ بِهِم سِمَةُ الوَحْشِ وَالَّذينَ يَسْجُدونَ لِصُورَتِهِ". إنَّ عبارة "دمامِل" تعني القُروح، وهي تُذِّكرنا بإحدى الضَّرباتِ العَشر الّتي أنزلها الله بِفرعون، في العهد القديم؛ كما تُذكِّرنا بِـمَثل لِعازَر والغنيّ، إذ يقول لنا الإنجيليّ: "كانت الكلاب تأتي وتَلحس قروح لِعازر" (لو 16: 21)، والقُروح هي مَرضٌ لا شِفاءَ منه. في الإصحاحات الماضية مِن سِفر الرُّؤيا، ذَكرَ لنا كاتب هذا السِّفر عباراتٍ تُشير إلى أعدادٍ ناقصةٍ لا كاملة، على سبيل الـمِثال: ثلاث سنوات ونِصفَ السَّنة، أو ثُلث الزّمَن، وكان المقصود فيها أنّ الزَّمان لَم ينتهِ بَعد، وبالتّالي لا يزال بإمكان الإنسان التَّوبة والعودة إلى الله قَبْل اليوم الأخير؛ أمّا في هذا الإصحاح، فيُخبرنا الكاتب أنَّ هذا الزَّمان قد انتهى، إذ بدأ الربُّ معركته الأخيرة مع الشِّرير مِن خلال هذه الضَّربات، وبالتّالي لم يَعد هناك مِن فرصةٍ للتَّوبة. عادةً، عند مواجهتِهم للمصائب، يَعمَدُ المؤمنِون إلى التّوبة إلى الله؛ أمّا في هذا السِّفر، فنلاحظ أنّ المؤمِنِين الّذين يتبَعون الوحش، لم يتوبوا إلى الله على الرُّغم مِن الضَّربات الّتي وجَّهها الله إلى الأرض والبحر والأنهار. إنَّ "هرمَجِدُّون" هي اسم مَعركةٍ حَصلت في التَّاريخ، وكانت معركَةً عظيمةً جدًّا إذ تكلَّم عنها الكِتاب المقدَّس في العَهد القديم. إنّ عبارة "هَرمَجِدُّون" هي عبارة عِبريّة مؤلَّفةٌ من عِبارَتين، هما "هار" وتعني الجَبل، و"مَجِدُّو" وهي مدينةٌ في فَلسطِين. إنّ هذه المعركة وَقعت في القديم في مدينة مَجدُّو، وهي عبارةٌ عن سَهلٍ بين جَبَلين، وبالتّالي عندما كانت تتعارَك الجيوش فيها، لَم يكن هناك مِن مَفرٍّ للجيوش سوى الانتصار على العَدُّو أو الموت في ساحة المعركة. هكذا ستَكون حرب الله النِّهائيّة مع الشِّرير، إذ سَينتَصر الربُّ وسَيُبادُ الشِّرير من دون رَحمةٍ. إنّ الكلام عن الدَمامل، في هذا الإصحاح، تُذكِّرنا بِضَربات الله لِفِرعون، الّتي أثمرَت خلاصًا لِشَعب الله؛ كذلك أيضًا بَعد هذه الضَّربات الّتي سَيَشُنُّها الله في معركته النِهائيّة ضدَّ الشِّرير، سَيَنالُ المؤمنون بالله، الّذين ثَبَتوا في إيمانهم بالربّ حتّى اليوم الأخير، الخلاصَ.

"ثُمَّ سَكَبَ المَلاكُ الرَّابعُ جامَهُ على الشَّمْسِ، فَأُعْطِيَتْ أَنْ تُحْرِقَ النَّاسَ بِنارٍ، فَاحْتَرَقَ النَّاسُ احْتِراقًا عَظيمًا، وَجَدَّفوا على اسْمِ اللهِ الَّذي لَهُ سُلْطانٌ على هذه الضَّرَباتِ، وَلَمْ يَتوبوا لِيُعْطوهُ مَجْدًا". في هذه الضَّربة الرّابعة، نلاحظ أنّ الشَّمس تَحرُق النَّاس، وَهُمْ بدَلَ أن يتوبوا استمَرُّوا في تَجديفهم على اسْم الله. في الكِتاب المقدَّس، التَّجديف لا يَعني فقط عدم عبادة الربّ، إنّما يَعني عداوة الإنسان لله. عند التَّجديف على اسمْ الله، يَكون هَدَفُ الإنسان زَعزعَة مَلكيّة الله. وهنا يحضر إلى أذهاننا المزمور 93، والّذي يَقول: "الربُّ قد مَلَك، والجَلال قد لَبِسَ. لَبِسَ الربُّ القوَّة وتَمنطَقَ بها. لأنّه ثبَّتَ الـمَسكونة فلَن تتزَعزع". مِن خلال هذا المزمور، نكتَشف أنَّ الشِّرير لن يُوفِّر محاولةً لِزَعزعة المسكونة، ولكنّه سيَفشَل في ذلك لأنّ الربَّ قد ثَبَّت المسكونة. يقول لنا صاحب المزمور: "إنّ الربَّ قد مَلَكَ"، ولا يَقولُ لنا إنّ الربَّ هو مَلِكٌ، لأنّ الـمَلِك قد تنتهي مُلوكيَّته في أيّة لَحظة، أمّا الربُّ فهو مَلِكٌ دائمٌ إذ إنّه يُفعِّل مُلوكيَّته باستمرارٍ. عادةً عندما يَذهب الـمَلك إلى الحرب يرتدي لِباسًا عسكريًا، أمّا الربُّ فقَد لَبِسَ الجلال. في الحرب، يرتدي الـمَلِك زنارًا لِتَثبيت ثيابه العسكريّة على جسده، فلا تتمكَّن سُيوفَ العَدوّ مِن اختراق جسده وَقَتلِه؛ أمّا الربُّ في معركته مع الشِّرير، فقَدْ تزنَّر بالقوّة. إنّ الربَّ قد ثَبَّتَ المسكونة منذ البدء، أي قَبلَ أن تَظهر عداوة الشِّرير وأتباعه لله. إنّ كلَّ مَلكيّة تفترِض وجودَ أعداءٍ للمَلِك يُحاربونه كما تفترِض انتصارَ الـمَلك على أعدائه، وبالتّالي فإنّ الحرب بين الـمَلِك وأعدائه هي معركةٌ مستمرَّة، وهذا ما سَيحصُل أيضًا مع الربّ، الّذي يَخوض معركتَه النِّهائيّة مع الشِّرير والّتي سيَنتصِرُ فيها. في هذا المزمور، نجدُ تكرارًا ثلاثيًا لِعبارة "رَفَعَت الأنهار عَجيجها". إنّ الأنهار لا مَوج لها كما للبَحر، ولكنَّ عبارة "عجيج" تدلُّ على صوت مياه الأنهار عندما تَضربُ هذه الأخيرة الصُّخور. في القديم، كانت الـمُدن تُبنى على أعمدةٍ، وكان الـمَلِكُ يَسهَر كي تبقى هذه الأعمدة قويّة، لأنَّ سقوطها يعني سُقوط مَلَكيّته، وبالتّالي سقوط إلهه الوثنيّ. مقابل هذا الاستعمال الثلاثيّ لعبارة "رَفَعت"، نلاحظ ذِكْرٌ ثلاثيّ لعبارة "ثابتةٌ"، وذلك لِتَأكيد انتصار الربّ في معرَكته مع الشَّرير. إنّ أنبياء العهد القديم قد تكلَّموا عن مَلكيّة الله، وهذه الملكيّة تفترض وجودَ أعداءٍ لله، وشَعبًا خاضعًا لله، وبالتّالي حصول هذا الشَّعب على الحماية من الله. عندما توقَّف الشَّعبُ عن حِفظ وصايا الله، بَقي الله هو الـمَلك والإله ولكنَّ الشَّعبَ قد تحوَّلَ إلى عَدوٍّ لله، وبالتَّالي أصبحَ هناك ضرورة، بالنِّسبة إلى الله، لِشَنِّ حربٍ على أعدائه والانتصار عليهم. وفي هذا الإطار، نتذكَّر كلام الله لإرميا النبيّ: "هاءنذا أجعلُكَ مدينةً حصينةً" (إرميا 1: 18). إنّ الله قد جَعل إرميا مدينة عَظيمة، على الرُّغم من أنَّ هذا الأخير يسكن في أورشليم، الّتي تحوَّل سُكّانها إلى أعداء الله. إنّ الله قد استبدل مدينته المقدَّسة، أورشليم، بإرميا النبيّ الّذي أصبح مدينة الله العَظيمة، إذ إنَّ هذا النبيّ قد حَمَل كلمة الله للشّعب الـمُحيط به، أي أهل أورشليم. إنَّ هيكلَ أورشليم لَم يَعُد مسكنًا لله، بل أصبح مركزَ عداوةٍ لله، لأنّ الشَّعب تحوَّل إلى عَدُوٍّ لله، لذا قرَّر الله هَدم هذا الهيكل. بحسب الذهنيّة اليهوديّة القديمة، إنّ الله يسكن في الهيكل، وبالتّالي مع خراب الهيكل، تنتهي العبادة. ولكنَّ الربَّ أراد أن يُفهِم الشَّعب من خلال كلامه مع إرميا عن خراب الهيكل، أنّه إلهٌ متحرِّرٌ مِن المكان والزَّمان، فهو إلهٌ حَدَث، إذ يُعلِن عن حُضوره وَسطَ شَعبه من خلال الحَدث الّذي يقوم به. إذًا، إنّ الأمْكِنة تعكس صورة الآلهة الوَثنيّة: ففي القديم، كان لِكلِّ مدينةٍ إلهها الخاصّ بها، فعلى سبيل الـمِثال، كان لأَثِينا إلهةٌ يخضع لها أهل أثينا، وهذه الإلهة غير معروفة من بقيّة الـمُدن اليونانيّة، إلّا إذا قادت أثينا حربًا على الشُّعوب الأخرى وأخضعتها لها، فَتُصبِح إلهةُ أثينا، إلهةُ الشُّعوب الـمُنهَزِمة في الحرب.

"وَسَمِعْتُ مَلاكَ المِياهِ يَقولُ: «عادِلٌ أَنتَ أيُّها الكائِنُ وَالَّذي كانَ وَالَّذي يَكُونُ، لأنَّكَ حَكَمْتَ هكَذا. لأَنَّهُمْ سَفَكُوا دَمَ قِدِّيسِينَ وَأَنبِياءَ، فَأَعْطَيْتَهُم دَمًا لِيَشرَبُوا. لأَنَّهُمْ مُسْتَحِقُّونَ!» في هذا الإصحاح، يُخبرنا كاتب هذا السِّفر أنّ الله قادرٌ على كلِّ شيء، فَعِبارة "الكائن"، تعني أنّ هذا الكائن والمقصود به الله، هو موجودٌ منذ الدُّهور، وهو "الّذي يَكون"، أي الباقي إلى دَهر ِالدُّهور. إنّ الله سيَقود معرَكته الأخيرة ضِدَّ الأرض والبَحر والأنهار، أي أنّه سَيَقود المعركة ضدَّ جماعة التِّنِّين والوحش والنَبيّ الكَذَّاب. إذًا، إنَّ الله سيَقود معرَكته على كُلِّ الّذين ينطِقون بِكلامٍ مخالفٍ لتعاليمه المقدَّسة، فكلُّ كلامٍ لا ينبثق من تعاليم الله هو كلامٌ شيطانيّ. إنّ الكِتاب المقدَّس، في أسفاره المتعدِّدة، يُخبرنا أنَّ الله كلمة ستَنتَشِر في المسكونة كُلِّها: فعلى سبيل الـمِثال، نقرأ في سِفر أعمال الرُّسل أنَّ "كلمة الله كانت تنمو وتَزيد" (أع 12: 24). إنَّ المؤمن لا يستطيع أن يَربحَ معركته مع الشِّرير إذا استخدم سلاح الشِّرير فهو عندئذٍ سيُصبح شريرًا أيضًا، وبالتّالي عليه أن يستخدم سلاح الله، الّذي يُخبرنا عنه بولس الرَّسول في رسائله، وهو سيفُ الرُّوح، أي كلمة الله، ودِرع الإيمان وخوذة الخلاص. إذًا، لا يستطيع المؤمن أن يَربح معركته مع الشِّرير إلّا إذا كان ممتلئًا من كلمة الله، أي بمعنى آخر، إذا كانت كلمة الله هي الّتي تمتلِكه، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يَمتلِك كلمة الله. على المؤمن أن يسعى إلى المحافظة على كلمة الله بَعيدةً عن كلِّ فسادٍ، حتّى يومِه الأخير، أي حتّى يومِ مماته على هذه الأرض؛ أكان هذا الفسادُ ناتجًا عن أعمال الإنسان الشِّريرة أو عن أعمال الآخَرين القائمة على محاولات إخضاعه للآلهة الوثنيّة من خلال التَّرهيب والتَّرغيب. إذًا، في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا كاتب هذا السِّفر، يوحنّا الرَّسول، صُورةً مزَخَّمة عن الحرب الأخيرة التّي سيَقودها الربُّ ضِدَّ أعدائه، كي يَحُثَّ المؤمِنِين على الثَّبات في إيمانهم بالربّ، فيَكونوا مُخلِصِين له، مهما حَدَث من أعمالٍ رَهيبةٍ حولهم، كتَحوُّل مياه البِحار والأنهار إلى دَم، واحتراق النَّاس بالشَّمس، وسِواها من الأمور الّتي ذَكرها كاتب هذا السِّفر. عندما يَحمل المؤمنُ الإنجيل للآخَرين ويَموت بسبب إعلانه لِكلمة الله، يُصبح هو الإنجيل، و"الشَّهادة" الحقيقيّة للإنجيل بِفعل استشهاده في سبيل إيمانه بالربّ. وهذا ما يُبرِّر احتفال الكنيسة الأولى بالذبيحة الإلهيّة على مدافن الشُّهداء إذ كانوا في حياتهم أناجيل وشهاداتٍ حيّة لِكلمة الله وهذا ما أدَّى إلى استشهادِهم. إنَّ القداسة مبنيّة على فَهمِ الإنسان لإيمانه بالربّ لا على رؤيته للأعاجيب، وتَصديق كُلِّ ما يُروى له من أعمالٍ خارقة. للأسف، هناك فراغٌ عند البعض في فَهْم الإنجيل، إذ يُعبِّرون عن إيمانهم بالربّ من خلال تُقَويّات فارغةٍ من مِعناها، فأصبح الّذين يَحملون اسم الله فارغًا هُم أعداء الّذين يَحملون اسم الله حقيقةً. إذًا، إنَّ العَدُوَّ يتغيَّر في كلِّ لحظة، أَكُنَّا في زمن سِفر الرُّؤيا أو لا، أكُنَّا في زمن وجود وباءٍ أو لا، أَكُنّا فقراء أو أَكَّنا في مجتمع تسوده الحرب أو لا. بِمعنى آخَر، إنَّ المؤمن الّذي يعيش حقيقةً إيمانه ويسعى في حياته إلى الشَّهادة للمسيح، سيَكون في حالة عداوةٍ دائمةٍ مع الّذين يَرفضون كلمة الله، لأنّ كلمة الله ستُبكِّت هؤلاء على خطاياهم، فيَلجأون إلى محاربة المؤمنِين الصَّادقين بالتُّقويّات الفارغة مِن معناها. وهنا نقول: ما نَفعُ دِماء الشَّهداء الّتي سُفكت دِفاعًا عن إيمانهم بالربّ، ما دُمنا لا نزال متمسِّكين بالأعمال التقوية الفارغة كالقيام بالنُّذورات إلى القدّيسِين كَنَوعٍ من الرَّشوة لهم لِحثِّهم على الاستجابة لِطِلباتنا؟ أنْ يكون إيمانُنا بَسيطًا فهذا يعني أن يكون إيماننا مِثل حَبَّة الخردَل: في الإنجيل، أعطانا الربُّ مَثل حبَّة الخردَل، الّتي هي أصغر الحبوب، ولكن طَعمها مُرٌّ جدًا. وهذا يعني أنَّ المؤمن الصّادق في إيمانه وفي عيشه لكلمة الله لا بُدَّ له من أن يواجه المرارة عندما يثبت في أمانته لكلمة الله وفي إخلاصه للربّ. في هذا الإطار، نتذكَّر قول الله: "هكذا تكون كَلِمتي الّتي تَخرُج من فَمي. لا تَرجِعُ إليّ فارغة بل تَعمَلُ ما سُرِرتُ به وتَنجحُ في ما أرسلتها لَه" (إشعيا 55: 11). وبالتّالي، إن كُنّا حقًّا مؤمنِين بالربّ، نَعيش بِصدِقٍ كلمة الله في حياتنا، فلا بُدَّ للعالَم من حَولِنا أن يتغيّر، وإلّا كانت شهَادتُنا باطلة، إذ لا بُدَّ لِكَلمة الله الّتي نعيشها في حياتنا من أن تَفعل فِعلها في حياة الآخَرين إن كُنّا أُمناء لِتلك الكلمة الإلهيّة. إخوتي، إنْ لَم نتمكَّن من تَغيير العالَم من حَولِنا، فَعلينا ألّا نسمَح للعالَم أن يُغيِّرنا. إنّ العالَم يَخضع لسُلطة الشّرير، ولكن علينا نحن المؤمنون بالربّ، عدم الخضوع له، فنكون إذ ذاك بدأنا بِتَغيير العالَم من حولِنا بِعَدم الخضوع للشَّر.

إنَّ سفر الرؤيا ليس مجرَّد قصّة: فهو يتكلَّم على كلِّ مؤمنٍ يعيش تحت الضِّيق، لذا علينا نحن المؤمنون أن نُصوَّر سِفر الرُّؤيا في أذهاننا،كي نتمكَّن من اتِّخاذ القرار المناسِب في كلَّ لَحظةٍ من حياتنا، نتعرَّض فيها للضُّغوطات فلا نسقط في أفخاخ الشِّرير بل نبقى مُخلِصِين لإيماننا بالربّ. إليكم مِثالٌ على ذلك: إنَّ التِّنِّين والوحش والنبيّ الكذَاب لا يتوقَّفون لَحظةً عن تكثيف محاولاتهم لإبعاد المؤمنِين عن الله؛ وهنا يُطرَح السُّؤال على كلِّ واحدٍ منّا: ما هو قرارُنا عند مواجهتنا لهذا التحدِّي؟ أنتخلّى عن الله لاتِّباع الشِّرير، أم نتخلَّى عن الشِّرير للاستمرار في مسيرة اتِّباعنا لله؟ وبالتّالي، على المؤمن التنبُّه جيِّدًا كي لا يَمزِج بين العِبادَتين، كي لا يتفاجأ بمجيء يومِه الأخير أي الموت، قبل إعلان توبَته، فيَخسَر فُرصةَ وجوده في الـمَلكوت. في هذا الإصحاح، يقوم الكاتب بإدخالِنا إلى اليوم الأخير، مِن خلال إخبارنا عن انتصار الربّ في معركته القويّة ضدَّ الشّرير، إذ إنَّه لَن يرحَم من حاول إبعاد المؤمنِين به عن العِبادة الحقّة. إنَّ كلمة الله هي الجَبل الّذي على المؤمن الوقوف عليه كي لا يتزعزع. في هذا الإطار، نتذكَّر قول الربِّ لتلاميذه: "لو كان لكم إيمانٌ مِثلَ حبَّة خَردَل، لَكُنتم تقولون لهذا الجَبل، انتقل من هنا إلى هناك فيَنتَقل، ولا يكونُ شيءٌ غير مُمكِنٍ لَديكم" (متى 17: 20). في الكِتاب المقدَّس، الجَبل هو مكانُ ظُهور الله، وبالتّالي فإنَّ الـمَقصود بهذا الكلام ليس قيام المؤمن بالأعمال الخارقة، إنّما قُدرتُه على نَقلِ كلمة الله من مكانٍ إلى آخر، بِفَضل عيشِه لهذه الكلمة، فتَنتَشر بين البشر. بِمعنى آخَر، أينما تواجد المؤمن، ستَكون كلمة الله مَعه، فيؤمِن بها الكَثيرون. إنّ كلمة الله تنمو بسرعة من خلال عيش المؤمِن لها، تنمو بطريقةٍ لا يستطيع المؤمن إدراكها: فَحِين ينطق المؤمن أمام مجموعةٍ من البَشر بكلمة الله، قد تؤثِّر هذه الكلمة في أحدهم فتَدخل إلى قَلبه وتَدفعه إلى تَغيير مسار حياته، فيتَوب إلى الله. إنّ الربَّ يسوع هو الوحيد الّذي تمكَّن من الانتباه لِطَلب المرأة الكِنعانيّة النَّابع من القلب، فاستجاب لها قائلاً: "عَظيمٌ إيمانُك يا امرأة" (متّى 15: 28). إنّ يسوع المسيح هو العالِم بِكُلِّ شيء، وقد اندهَش عند إيمانِ أُناسٍ لم يكن يَتوقَّع منهم إعلان إيمانهم به؛ ونحن لا نزال للأسف، ننتظر حصول أعاجيب هنا وهناك، غير آبِهين للأعاجيب الّتي تَحصل في حياةِ مَن هُم حَولَنا.
"فَاحتَرَقَ النَّاسُ احتِراقًا عَظيمًا، وَجَدَّفوا على اسْمِ اللهِ الَّذِي لَهُ سُلْطانٌ على هذه الضَّرَباتِ، وَلَمْ يَتوبوا لِيُعْطُوهُ مَجْدًا". يَحُثُّ كاتب هذا السِّفر المؤمنِين على عدم الخَوف من الاضطهاد الّذي يتعرَّضون له، لأنَّ الربَّ سينتَصر على كلِّ أشكال الشَّر في مَعرَكته الأخيرة، وهنا يُخبرهم عن احتراق البِدَع الشِّريرة في اليوم الأخير.
"ثُمَّ سَكَبَ المَلاكُ السَّادِسُ جامَهُ على النَّهرِ الكَبيرِ الفُراتِ، فَنَشِفَ ماؤُهُ لِكَي يُعَدَّ طَرِيقُ المُلوكِ الَّذينَ مِن مَشرِقِ الشَّمْسِ". إنَّ نهر الفرات يُذكِّرنا بمَدينة بابل الّتي تَقع هي أيضا في العِراق. وبالتّالي، أراد الكاتب أن يُذكِّر المؤمنِين بِمَصير مدينة بابل الّتي قرَّرت الاستغناء عن الله وبِناء بُرجٍ عالٍ، تعبيرًا عن رَفضها لله، فَبَلبَل الله ألسِنَتَهم فَعَجزوا عن إكمال هذا البُرج. كان شَعبُ مدينةِ بابل شَعبًا موَحَّدًا، ولكنَّ الله بلبَل ألسِنَتهم حين تَحوَّلوا إلى أعداءٍ له، أمّا في العَنصرة، فقد وَحَّدَ الله شَعوبًا متعدِّدَة اللُّغات بِلُغَةِ الإنجيل، فتمكَّنوا من فَهم كلمة الله الّتي أعلنَها بطرس في يوم العَنَصرة. إنّ نَهر الفرات يَرمز إلى مدينة بابل في العَهد القديم، وفي زمن سِفر الرُّؤيا يرمز إلى امبراطوريّة روما وإلهها.
"وَرأَيتُ مِنْ فَمِ التِّنِّينِ، وَمِنْ فَمِ الوَحْشِ، وَمِنْ فَمِ النَّبِيِّ الْكَذَّابِ، ثَلاثَةَ أَرْواحٍ نَجِسَةٍ شِبْهَ ضَفادِعَ، فإنَّهُم أَرْواحُ شَياطينَ صانِعَةٌ آياتٍ، تَخْرُجُ على مُلوكِ العالَمِ وَكُلِّ المَسْكونَةِ، لِتَجمَعَهُمْ لِقِتالِ ذلك اليَومِ العَظيمِ، يَومِ اللهِ القادِرِ على كُلِّ شَيءٍ". في مقابل الثّالوث القدُّوس، الّذي اعتلَن لنا في العهد الجديد مع يسوع المسيح، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول عن وجود ثالوثٍ أسوَد، مؤلَفٍ من التِّنِّين والوَحش والنبيِّ الكذَابِ. إنَّ التِّنِّين هو الإله الوَثنيّ، والوحش هو الامبراطور الّذي يَعبد هذا الإله، والنبيّ الكذّاب هو كلُّ إنسانٍ يُسوِّق لهذا التَّعليم الخاطِئ. إنّ الضِّفدَع، في البيئة اليهوديّة والأدب اليهوديّ، هو حيوانٌ نَجِس. إنّ هذه الأرواح الشِّريرة تقوم بأعمالٍ خارقة، وبالتّالي على المؤمن الانتباه لأنَّ ليسَ كُلُّ عَملٍ خارقٍ يراه يُشير فِعلاً إلى عَملٍ مِن عند الله. إنّ الشِّرير يستخدم كلّ الطُرق لِيَحُثَّ المسكونة على القتال ضِّد الله. إنَّ الكاتب استعمل عبارة "الله القادر على كُلِّ شيء"، للدّلالة على أنَّ الله هو الّذي سيَربح الحرب الأخيرة ضِّدَّ الشّرير وسيَقضي عليه.
«ها أنا آتي كَلِصٍّ! طوبى لِمَنْ يَسْهَرُ وَيَحفَظُ ثِيابَهُ لِئَلاَّ يَمْشيَ عُرْيَانًا فَيَرَوْا عُرْيَتَهُ». فَجَمَعَهُمْ إلى المَوضِعِ الَّذي يُدعَى بِالعِبْرَانِيَّةِ «هَرْمَجَدُّونَ». إنّ الله سيأتي كَلِصٍّ أي أنَّه سَيأتي على غفلةٍ من دون إنذار، ممّا يعني أنّه على المؤمن البقاء متيِّقظًا لِحضور الله. إنّ كلمة "طوبى" تعني الـمَغبوط. عندما يتعمَّد الإنسان، يُلبِسونه ثيابًا جديدةً، وبالتّالي، فإنّ عبارة "يَحفَط ثيابه"، تُشير إلى ضرورة سَعي المؤمن إلى المحافظة على قداسته، الّتي نالها منذ معموديّته، وإلى تَفعيلها، كي لا يَخسَرها، كما حَدَث مع آدم، الّذي اكتشَف أنّه عُريان عندما خالفَ أوامِر الله، وهذا ما تُذكِّرنا به عبارة: "يَمشيَ عُرْيَانًا فَيَرَوْا عُرْيَتَهُ".
"ثُمَّ سَكَبَ المَلاكُ السَّابعُ جامَهُ على الهَواءِ، فَخَرَجَ صَوتٌ عَظيمٌ مِنْ هَيْكَلِ السَّماءِ مِنَ العَرْشِ قائلًا: «قَدْ تَمَّ!» فَحَدَثَتْ أَصْواتٌ وَرُعودٌ وَبُروقٌ. وَحَدَثَتْ زَلْزَلَةٌ عَظيمَةٌ، لَمْ يَحْدُثْ مِثْلُها مُنْذُ صارَ النَّاسُ على الأرضِ، زَلْزَلَةٌ بِمِقْدارِها عَظيمَةٌ هكَذَا. وَصارَتِ المَدينَةُ العَظيمَةُ ثَلاثَةَ أَقْسَامٍ، وَمُدُنُ الأُمَمِ سَقَطَتْ، وَبابِلُ العَظيمَةُ ذُكِرَتْ أمامَ اللهِ لِيُعْطِيَها كَأسَ خَمْرِ سَخَطِ غَضَبِهِ. وَكُلُّ جَزيرَةٍ هَرَبَتْ، وَجِبَالٌ لَمْ تُوجَدْ. وَبَرَدٌ عَظيمٌ، نَحْوُ ثِقَلِ وَزْنَةٍ، نَزَلَ مِنَ السَّماءِ على النَّاسِ. فَجَدَّفَ النَّاسُ على اللهِ مِنْ ضَربَةِ البَرَدِ، لأَنَّ ضَربَتَهُ عَظيمَةٌ جِدًّا". إنّ الصُّوَر الّتي استَعملها الكاتب كالزّلزلة والبروق، تُشير إلى الـمَعركة الأخيرة الّتي سيَقودها الله ضِدَّ الشِّرير والّتي سيَنتصر فيها على كُلّ قِوى الشِّرير. إنَّ ضربة البَرَد تُذكِّرنا بإحدى ضربات الله على فِرعون. فعلى الرُّغم من المعركة الّتي دارت بين الشِّرير وقِواتِّه من جهة، والله وكلّ قوّاته من جهةٍ أخرى، وانتصار الربِّ فيها؛ نلاحظ للأسف، أنّ بعض النَّاس استمرُّوا في التَّجديف على الله بَدلَ أن يَتوبوا، وهذا يُشير إلى أنَّه مهما فَعَل الله، فبَعض النَّاس سيستَمرُّون في تفضيل الشَّر على الله، ولذا سيقوم الله بإبادتهم جميعًا في اليوم الأخير. وهذا ما سيستفيض الكاتب في شَرحِه لنا في الإصحاحات القادمة.
ملاحظة: دوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف.
17/2/2021 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح الخامس عشر المثابرة في احتمال الاضطهاد
https://youtu.be/ejXQCJK2nzk

تفسير الكتاب المقدَّس
سفر الرؤيا
الإصحاح 15
الأب ابراهيم سعد

17/2/2021

"ثُمَّ رَأَيْتُ آيَةً أُخْرَى فِي السَّمَاءِ، عَظِيمَةً وَعَجِيبَةً: سَبْعَةَ مَلاَئِكَةٍ مَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ الأَخِيرَةُ، لأَنْ بِهَا أُكْمِلَ غَضَبُ اللهِ. وَرَأَيْتُ كَبَحْرٍ مِنْ زُجَاجٍ مُخْتَلِطٍ بِنَارٍ، وَالْغَالِبِينَ عَلَى الْوَحْشِ وَصُورَتِهِ وَعَلَى سِمَتِهِ وَعَدَدِ اسْمِهِ، وَاقِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ الزُّجَاجِيِّ، مَعَهُمْ قِيثَارَاتُ اللهِ، وَهُمْ يُرَتِّلُونَ تَرْنِيمَةَ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، وَتَرْنِيمَةَ الْخَرُوفِ قَائِلِينَ: «عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! عَادِلَةٌ وَحَقٌ هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ الْقِدِّيسِينَ! مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُ اسْمَكَ؟ لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ الأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ». ثُمَّ بَعْدَ هذَا نَظَرْتُ وَإِذَا قَدِ انْفَتَحَ هَيْكَلُ خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ فِي السَّمَاءِ، وَخَرَجَتِ السَّبْعَةُ الْمَلاَئِكَةُ وَمَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتِ مِنَ الْهَيْكَلِ، وَهُمْ مُتَسَرْبِلُونَ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ وَبَهِيٍّ، وَمُتَمَنْطِقُونَ عِنْدَ صُدُورِهِمْ بِمَنَاطِقَ مِنْ ذَهَبٍ. وَوَاحِدٌ مِنَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ أَعْطَى السَّبْعَةَ الْمَلاَئِكَةِ سَبْعَةَ جَامَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مَمْلُوءةٍ مِنْ غَضَبِ اللهِ الْحَيِّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. وَامْتَلأَ الْهَيْكَلُ دُخَانًا مِنْ مَجْدِ اللهِ وَمِنْ قُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ الْهَيْكَلَ حَتَّى كَمِلَتْ سَبْعُ ضَرَبَاتِ السَّبْعَةِ الْمَلاَئِكَةِ".

إنَّ هذا السِّفر موَّجهٌ إلى المؤمِنِين الّذين هُم تحت الشِّدة، تحت الاضطهاد؛ وكان يُتلى على مسامِعهم في الكنيسة. لذلك، أراد يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، من خلال هذا الإصحاح، إعطاء المؤمِنِين صورةً عن الأيّام الأخيرة، أيّام الانتصار والغلبة في الحرب الّتي يقودها الله ضدَّ الشَّيطان والخاضِعين له، علَّ ذلك يبعثُ في نفوسهم التعزية والقوّة للمثابرة على احتمال الاضطهاد الّذي يُعانون منه بأشكالٍ مختلفةٍ: تعرُّضُهم للجوع ولِقَطعِ أرزاقِهم وللموت.

"ثُمَّ رَأَيْتُ آيَةً أُخْرَى فِي السَّمَاءِ، عَظِيمَةً وَعَجِيبَةً: سَبْعَةَ مَلاَئِكَةٍ مَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتُ الأَخِيرَةُ، لأَنْ بِهَا أُكْمِلَ غَضَبُ اللهِ": إنّ عبارَتي "عَظيمة وعجيبة"، تُشيران إلى ضخامة وقوّة غضب الله على الشِّرير والخاضِعين له، الّذين لَهم "سِمةُ الوَحش". إنَّ الرَّقم سبعة يُشير إلى الكمال، وبالتّالي، عبارة " السَّبع الضربات الأخيرة"، تُشير إلى أنَّ غضَب الله قد اكتَمل على أعدائه، وهو، أي الله، يُعلِن حَربه النِّهائيّة ضِدَّهم للقضاء عليهم.

"وَرَأَيْتُ كَبَحْرٍ مِنْ زُجَاجٍ مُخْتَلِطٍ بِنَارٍ، وَالْغَالِبِينَ عَلَى الْوَحْشِ وَصُورَتِهِ وَعَلَى سِمَتِهِ وَعَدَدِ اسْمِهِ، وَاقِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ الزُّجَاجِيِّ، مَعَهُمْ قِيثَارَاتُ اللهِ، وَهُمْ يُرَتِّلُونَ تَرْنِيمَةَ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، وَتَرْنِيمَةَ الْخَرُوفِ قَائِلِينَ: «عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! عَادِلَةٌ وَحَقٌ هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ الْقِدِّيسِينَ! مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُ اسْمَكَ؟ لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ الأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ». إنَّ البَحر الزُّجاجيّ، هو بَحرٌ مُغطَّى بالزُّجاج، أي أنَّه يَمنع الواقِفين عليه من الغَرق في البحر، وبالتّالي هو أصبح وسيلة نجاةِ الغالبِين على الشِّرير من الموت. لقد استَخدم الرَّسول يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، في الإصحاحات الماضية، عبارة "مَن يَغلِب"؛ أمّا هنا فاستَخدم عبارة "الغالبِين"، أي الّذين تمكَّنوا مِن غَلبَة الشِّرير، كما غلبَه الربُّ يسوع على الصّليب، بانتصارهم على "الوَحش وصورته وسِمَتِه وعدد اسمه"، أي برفِضهم الخضوع للامبراطور وجبروته وعباداته الوثنيّة. إنَّ الوقوف على البَحر الزُّجاجيّ والعزف على القيثارة يدلُّ على الفرح الّذي يشعر به المؤمنون عند انتصارهم على الشِّرير. إنّ "ترنيمة موسى" قد رتَّلها الشَّعب اليهوديّ مع نَبيِّهم موسى بعد عبورهم البَحر الأحمر، تعبيرًا عن شعورهم بالفرح لِحصولهم على خلاص الله بإبعادهم عن فِرعون وعباداته الوثنيّة. إنّ ترنيمة موسى قد وَردت مرَّتين في العهد القديم: الأولى في سِفر الخروج 15، والثّانية في سِفر تثنية الاشتراع 32. إنَّ ترنيمة الخروف قد وَرَدت في الإصحاح 5 من هذا السِّفر، وفيها عَبّر السّاكنون في السّماء عن عظمة الله ومَجده. إنَّ هاتين التَّرنيمَتَين، تُعبِّران عن حَدثَين مُهمَّين: التَّرنيمة الأولى تُعبِّر عن إنقاذ الله لِبَني اسرائيل مِن مِصر على يد موسى، والتَّرنيمة الثانية تُعبِّر عن إنقاذ الله للمؤمِنِين به على يد الخروف، أي المسيح يسوع. إنَّ عبارات الترنيمة الثانية موجودةٌ أيضًا في سِفر المزامير.

إنّ عبارة "القادر على كلّ شيء" تعني القَدير، وهي صِفةٌ لا تُعطى إلّا لله. إنّ القدِّيسِين هُم الّذين غَلبوا كما غَلَب الخَروف، فَتَحلَّوا بالصَّبر على الشَّدائد الّتي عانوا منها، فماتوا إمَّا شهداء، وإمّا وَهُم ثابتون في إخلاصِهم للربّ يسوع. إنّ الغضب الّذي حَكم به الله على الأشرار، هو حُكمٌ عادلٌ وحَقّ. إنّ مخافة الله نَوعان: أوَّلاً، مخافة المؤمِن لله، وهي لا تعني خوف المؤمن مِن الله، إنّما تعني خوفُه مِن أن تتزعزع علاقته بالله نتيجة تصرُّفه الخاطئ، أو بسبب تراجعه عن الإيمان أو عدم الصَّبر على الشَّدائد؛ أمّا خوف غير المؤمِن مِن الله فهو ناتجٌ عن أعماله السّيئة، لِعلمه أنّ الله سَيَسحقه بِغَضبه الكامل في اليوم الأخير. إنّ الله يَغضَب على الشّرير لأنّ هذا الأخير حاول بكافة الطُّرق إبعاد المؤمنِين بالله عن العبادة الحقَّة. إنّ الله قديرٌ على حماية عبيده، وإنقاذهم مِن فمّ الشِّرير، مِن فَم التِّنين. في هذا الزَّمن الّذي نعيشه، نعيش "سِفر الرُّؤيا"، لأنّنا نعيش في حالةٍ خوفٍ مِن الـمَرض وَمِن الجوع وَمِن الحرب، وفي هذه الظُّروف الصَّعبة يدعونا كاتب هذا السِّفر إلى التَّرنيم لله وتعظيمه لأنّه سيُخلِّصنا في اليوم الأخير مِن كلّ ما نُعانيه اليوم. إنَّ المزمور 22، يُعبِّر عن عمق معاناة الإنسان في وقت الضِّيق، والّذي لا يجد سوى الله ليَشكو له همّه، لذا صَرخَ إليه في هذا المزمور قائلاً: "إلهي، إلهي، لماذا تَركتَني؟". إنَّ هذا المزمور قد صلّاه الربُّ يسوع على الصَّليب عندما صَرخَ إلى أبيه باللُّغة الأرامية قائلاً:"إلهي، إلهي، لماذا تَركتني؟". إنَّ الحبيب لا يُكلِّم حبيبه بِاللُّغة الِفُصحى مستخدمًا عباراتٍ منمَّقة، إنَّما باللُّغة العاميّة مستخدمًا عباراتٍ نابعةٍ من القلب، وبالتَّالي فإنَّ صَرخة يسوع على الصَّليب تَعكس نوع العلاقة الّتي تجمعه بالله أبيه، ألا وهي علاقة حُبٍّ، إذ استخدم الربُّ اللُّغة المحكية أي اللُّغة الأراميّة بدلاً من اللُّغة العِبريّة أي اللُّغة الفُصحى. في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا كاتب هذا السِّفر صورةً عجيبةٍ ومُدهِشة، إذ يُصوِّر لنا الّذين عانوا من الاضطهاد ويعانون منه، يُنشِدون ترانيم التَّسبيح والتَّعظيم للربّ، نتيجةَ إيمانهم به. إنَّ هذا المشهد الّذي يُقدِّمه لنا يوحنّا الرَّسول في هذا الإصحاح يُذكِّرنا بالفِتية الثّلاثة الّذين كلَّمنا عنهم سِفر دانيال، إذ قال لنا إنّهم كانوا يُسبِّحون الله وهُم في أتُّون اللَّهيب، قائلِين: "قدُّوس، قُدُّوسٌ، قدُّوس". إنَّ هذه التَّسبحة تُردَّد في الكنيسة الشَّرقيّة في يوم سبَّت النُّور، أي بعد موت الربِّ يسوع وقَبْل إعلان قيامته المجيدة. وفي هذا الإطار أيضًا، نتذكَّر قول بولس الرَّسول: "لا موت ولا حياة، لا ملائكة ولا رؤساء، ولا أمورَ حاضرة ولا مستقبَلة، لا عُلوَ ولا عُمق ولا خليقة أخرى، تَقدر أن تَفصِلنا عن محبّة الله الّتي هي في المسيح يسوع ربِّنا" (رو8: 38- 39)، وبالتّالي، على المؤمن في وقت الضِيق ألّا يَفقدَ سلامه وأمانه وطمأنينتِه الّتي حصل عليها نتيجة علاقته بالربّ المبنيّة على الحبّ، على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي يُقدِّمها له العالم. وهنا نتذكَّر أيضًا قول بولس الرَّسول، بما معناه، أنّنا آنيةٌ خَزفيّةٌ محطَّمةٌ، نَحمل في داخلنا الكنزَ الأعظم ألا وهو الربُّ يسوع. وهنا يُطرَح السُّؤال: مَن يَحمل مَن: هل الآنية المحطَّمة هي الّـتي تَحمل الكَنز، أم أنَّ الكنز هو الّذي يحمل هذه الآنية الخَزفيّة؟ إنَّ الجواب عن هذا السُّؤال هو أنَّ الكَنز هو الّذي يحمل هذه الآنية ويزيد من قيمتها.

إنّ الاسم هو الحضور، في صلاة الأبانا، نقول:"ليتمجدَّ اسمك"، أي لِيَكُن حضورك يا ربّ مُقدَّسًا فيما بَينَنا. إنَّ عبارة "قدِّيس" في اللُّغة العِبريّة تَعني الـمَفروز. عندما يتمُّ فَرزُ أمرٍ ما أو شخصٍ ما لِوَظيفةٍ مُعَيَّنة، فهذا يعني أنّ ملكيّة هذا الشيء أو مرجعيّة هذا الشَّخص أصبَحت مَعروفة وواضحة. إنَّ القدِّيس هو الشَّخص الّذي فُرِزَ أو فَرَز نفسه ليَكون "أرضَ وَقفٍ لله"، أي مُلكًا لله. عندما يكون إنسانٌ مُلكًا لله، فهذا يعني أنّ الشَّر لن يُسيطر عليه، أكان مُتجسِّدًا في أشخاصٍ، أو ظروفٍ أو أحداث. في هذا الإصحاح، أراد كاتِب هذا السّفر أن يقول للمؤمِنِين الّذين هُم تحت الضَّغط، إنَّ وَقت تعظيم الله قد حان أو أصبح قريبًا منهم، لأنّه مهما طال الاضطهاد فإنَّه لا بُدَّ لَه مِن أن ينتهي.

"ثُمَّ بَعْدَ هذَا نَظَرْتُ وَإِذَا قَدِ انْفَتَحَ هَيْكَلُ خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ فِي السَّمَاءِ، وَخَرَجَتِ السَّبْعَةُ الْمَلاَئِكَةُ وَمَعَهُمُ السَّبْعُ الضَّرَبَاتِ مِنَ الْهَيْكَلِ، وَهُمْ مُتَسَرْبِلُونَ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ وَبَهِيٍّ، وَمُتَمَنْطِقُونَ عِنْدَ صُدُورِهِمْ بِمَنَاطِقَ مِنْ ذَهَبٍ". إنَّ الهيكل هو مكانُ حضور الله. إنَّ خيمة الشَّهادة، في العهد القديم، هي خيمة الاجتماع الّتي كان الله حاضرًا فيها من خلال تابوت العَهد. في اليوم الأخير، سيَظهر الحضور الكبير لله في السَّماء، وبالتَّالي أراد كاتب هذا السِّفر أن يُخبر المؤمنِين عن الجائزة الّتي سينالونها، إذا ما بَقوا ثابتين في إيمانه بالربِّ يسوع حتّى اليوم الأخير. إنَّ خروج الضربات السَّبع من الهيكل، يُشير إلى أنّ هذا الغَضب على الشَّر هو قرارٌ إلهيّ، وبالتَّالي الحقّ والقداسة سوف يقهران قوى الشَّر وقوى الشَّيطان، مهما عَظُمَت. إنَّ التَّزنُّر بالذّهب يُشير إلى الـمُلوكيّة. إذًا، يُخبر كاتب هذا السِّفر المؤمِنِين أنَّهم سَيُصبحون ملوكًا في السَّماء.

"وَوَاحِدٌ مِنَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ أَعْطَى السَّبْعَةَ الْمَلاَئِكَةِ سَبْعَةَ جَامَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مَمْلُوءَةٍ مِنْ غَضَبِ اللهِ الْحَيِّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. وَامْتَلأَ الْهَيْكَلُ دُخَانًا مِنْ مَجْدِ اللهِ وَمِنْ قُدْرَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ الْهَيْكَلَ حَتَّى كَمِلَتْ سَبْعُ ضَرَبَاتِ السَّبْعَةِ الْمَلاَئِكَةِ". إنَّ غضب الله سَيَكون "إلى أبد الآبدين"، أي أنَّه لا رَحمةَ مع الشِّرير، مع الشَّيطان وعُبَّاد الأوَثان.

في سِفر إشعيا، يَصِف لنا النبيّ ظُهور الله له في الهيكل، فيُخبرنا أنَّ أذيال الله قد ملأت الهَيكل، أي أنَّ الله قد ملأ الهيكل حُضورًا ومَجدًا، كما يُخبرنا عن إنشاد ملائكة الله ترنيمة "قدُّوس، قُدُّوس، قُدُّوس" تَعظيمًا لله. إنّ الدُّخان يدلُّ على حضور الله ومَجده، ففي العهد القديم، كان الله يَمشي مع شعبه تحت شكل عمود النَّار. إنَّ عبارة "غَضب الله الحيّ"، تَعني أنَّ الله وَحده هو الذي سيبقى حيًّا، إذ سَيُبيد الشَّرَ. في نهاية هذا الإصحاح، يُخبر كاتب هذا السِّفر المؤمنِين بالله أنَّ الوقَت قد حان كي يرتاحوا من الاضطهاد، إذ ستنتهي كلَّ شِدَّة وضيق. إذًا، يُشكِّل هذا الإصحاح تعزيةً للمؤمِنِين الّذين هُم تحت الشِّدة والضِّيق. فانطلاقًا من الإصحاح 12، بدأنا نُلاحظُ تطوُّرًا في المَشهد: ففي الإصحاح 12، أخبرنا كاتب هذا السِّفر، عن المرأة الحُبلى الّتي رَفَضت التخلِّي عن ابنها، فَوَلدته ثمّ اختُطِف منها إلى السَّماء، وقد قُلنا إنّ هذه المرأة ترمز إلى الكنيسة الّتي هَربت إلى البراري تَجنُّبًا للاضطهاد، فحافَظت على إيمانها بالربّ. وفي الإصحاح 13، أعلَن لنا كاتب هذا السِّفر إعلان الله انطلاق الـمَعركة الأخيرة في حربِه على الشَّر. وفي الإصحاح 14، أخبرنا كاتب هذا السِّفر أنّ عدد الـمُخلَّصين من اليَهود هو مئةٌ وأربعةٌ وأربَعون، وهذا يرمز إلى عددٍ غير مَحدود. وسنكتشِف في الإصحاح 16، أنَّ غَضب الله لا يَقتَصِرُ على غير المؤمنِين بالله من الوَثنيِّن، عابدي الأوثان، إذ إنَّه سيَطال أيضًا كلّ المؤمنِين الّذين خَضعوا للعبادات الوثنيّة، وهو ما سَيُرمَز إليه بِغَضب الله على البَحر. إذًا، إنَّ الإصحاح 15 هو إصحاح يَبعث على التعزية والفَرح في وقت الشِّدة لأنَّ مَجدَ الله قد أصبَح قريبًا. وهنا قد يتساءل البَعض: كيف يستطيع المؤمن أن يَشعر بالفرح والتَّعزية في ظلّ الاضطهاد؟ كيف يستطيع المؤمن المحافظة على سلامه الدَّاخليّ حين نجد أنَّ الأجواء حَوله لا تُوحي باقتراب الخير؟ في هذه الحالة، إخوتي، يَصِل المؤمِن إلى حدِّ الوقوع في التجربة، الّتي يطلب إلى الله مساعدته على عدم الوقوع فيها، في صلاة الأبانا. إنَّ التجربة تقوم على اتِّخاذ المؤمِن موقفًا من الله الّذي خلَّصه من كلّ شِدَّة، بِتَحويله إلى عَدُوٍّ له. إنَّ هَدف الشِّرير هو أن يجعل مِن المؤمِن عدُوًّا لله، أي غير مُصدِّقٍ لكلامه. إنَّ الله صادِقٌ، ولكن حين لا يُصدِّق المؤمن الله، فهذا يعني أنَّه قرَّر الانفصال النِّهائيّ عن الله، تمامًا كما فَعل آدم، حين كان في الفِردوس. فآدم قد صدَّق كلام الحيّة الّتي ترمز إلى الشِّرير، بدل أن يُصدِّق كلام الله ويَعمَل به. إنَّ التَّجربة الكبرى الّذي قد يَقع فيها المسيحيّون، هي أنْ يقرِّروا جَعل الله عَدُوًّا لهم، فيبتعدون عنه مُختارين البقاء في أماكن الموت، حيث اللاحياة. إنَّ إشعيا النبيّ، قال:"آمِنوا فَتَأمنوا"، أي أنَّه رَبَط حصول الإنسان على الأمان عند إيمانهم بالله. قد يتساءل البعض فيقول: أين نَجِد مِثل هذا الإيمان الثَّابت في الله، في عالَمِنا اليوم؟ هذا ما يدعونا إليه سِفر الرُّؤيا: أن نبدأ مِن ذواتنا، فنكون أمثولةً للآخَرين في إيماننا بالله، فنستمدَّ قوَّتنا من الله في كلّ أوقات حياتنا، وخصوصًا في وقت الشّدَّة. لا شيء يستطيع أن يُعزِّي المؤمن الّذي يعاني من الشِّدة، سوى كلمة الله. بعد زوال الوباء عن عالمنا، لن يزول الاضطهاد بل سيتخِّذُ أشكالاً أخرى، على سبيل الـمِثال، عَرض الرَّشاوى على المؤمن للقيام بأعمال غِشٍّ لا يرضى الله عنها، والسُّكوت عن الحقّ. إنَّ الاضطهاد لن يترككم بسلام ولن تتمكَّنوا من التخلُّص منه إلّا متى جاء المخلِّص فيُخلِّصكم. إنَّ الربَّ سيأتي في اليوم الأخير ليُخلِّصنا من الاضطهاد الّذي نتعرَّض له، وبالتّالي علينا أن نكون أُمناء له حتّى ذلك اليوم، لنتمكَّن من سماع صوته قائلاً لِكُلِّ واحدٍ منّا: "كُنتَ أمينًا على القَليل، فسأقيمك على الكَثير"، وبالتّالي سنتمَّكن من دخول فَرح سيِّدنا، وهذا ما سيَجعلنا في قمّة الفَرح.

صحيحٌ أنّه قد نتعب من احتمال الاضطهاد، لأنَّ الشَّر كالنَبع يدفق دَفقًا في شرِّه، ولكنَّ الخالق أيضًا مِثل النَّبع يُدفِق خيرًا على مُحبيِّه. وهنا يُطرَح السُّؤال: في مواجهتنا للاضطهاد، مياهُ أيِّ نبعٍ سَنَختار أن تَجرِفَنا: مياه الشَّر أم مياه الخَير؟ فإذا كانت رُكَبَكم قويّةً بِفضل كلمة الله الّتي حَفِظتموها، وروح الله الموجود فيكم، أدعوكم إخوتي، إلى عدم الاستهانة بما هو موجودٌ فيكم والاستعانة به. لا تستهينوا بعمل الله فيكم، ولا تُقلِّلوا من قيمة الأمور الشِّريرة الّتي تتعرَّضون لها، والّتي تتصدَّون لها بِفعل كلمة الله. "لا تستَرخِصوا" عمل الله وحبّه ورحمته لكم، أمام ظروفٍ تعترض حياتكم وتَقتُلُكم نَفسيًّا. فَفِيها يَظهر صَبرُ القدِّيسِين. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت مِن قِبَلنا بتصرُّف.
10/2/2021 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح الرابع عشر الثبات في الإيمان
https://youtu.be/sP2Ln_tP5w8

تفسير الكتاب المقدَّس
رؤيا القدِّيس يوحنّا
الإصحاح الرابع عشر
الأب ابراهيم سَعِد

10/2/2021

"ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا خَرُوفٌ وَاقِفٌ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَمَعَهُ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، لَهُمُ اسْمُ أَبِيهِ مَكْتُوبًا عَلَى جِبَاهِهِمْ. وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ وَكَصَوْتِ رَعْدٍ عَظِيمٍ. وَسَمِعْتُ صَوْتًا كَصَوْتِ ضَارِبِينَ بِالْقِيثَارَةِ يَضْرِبُونَ بِقِيثَارَاتِهِمْ، وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ كَتَرْنِيمَةٍ جَدِيدَةٍ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ. وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّرْنِيمَةَ إِلاَّ الْمِئَةُ وَالأَرْبَعَةُ وَالأَرْبَعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ اشْتُرُوا مِنَ الأَرْضِ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ النِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هؤُلاَءِ اشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بَاكُورَةً للهِ وَلِلْخَرُوفِ. وَفِي أَفْوَاهِهِمْ لَمْ يُوجَدْ غِشٌّ، لأَنَّهُمْ بِلاَ عَيْبٍ قُدَّامَ عَرْشِ اللهِ. ثُمَّ رَأَيْتُ مَلاَكًا آخَرَ طَائِرًا فِي وَسَطِ السَّمَاءِ مَعَهُ بِشَارَةٌ أَبَدِيَّةٌ، لِيُبَشِّرَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ وَكُلَّ أُمَّةٍ وَقَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ، قَائِلًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «خَافُوا اللهَ وَأَعْطُوهُ مَجْدًا، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ سَاعَةُ دَيْنُونَتِهِ، وَاسْجُدُوا لِصَانِعِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالْبَحْرِ وَيَنَابِيعِ الْمِيَاهِ». ثُمَّ تَبِعَهُ مَلاَكٌ آخَرُ قَائِلًا: «سَقَطَتْ! سَقَطَتْ بَابِلُ الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ، لأَنَّهَا سَقَتْ جَمِيعَ الأُمَمِ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ زِنَاهَا!» ثُمَّ تَبِعَهُمَا مَلاَكٌ ثَالِثٌ قَائِلًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْجُدُ لِلْوَحْشِ وَلِصُورَتِهِ، وَيَقْبَلُ سِمَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ عَلَى يَدِهِ، فَهُوَ أَيْضًا سَيَشْرَبُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ اللهِ، الْمَصْبُوبِ صِرْفًا فِي كَأْسِ غَضَبِهِ، وَيُعَذَّبُ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ أَمَامَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ وَأَمَامَ الْخَرُوفِ. وَيَصْعَدُ دُخَانُ عَذَابِهِمْ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. وَلاَ تَكُونُ رَاحَةٌ نَهَارًا وَلَيْلًا لِلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلْوَحْشِ وَلِصُورَتِهِ وَلِكُلِّ مَنْ يَقْبَلُ سِمَةَ اسْمِهِ». هُنَا صَبْرُ الْقِدِّيسِينَ. هُنَا الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا اللهِ وَإِيمَانَ يَسُوعَ. وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا لِي: «اكْتُبْ: طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرَّبِّ مُنْذُ الآنَ». «نَعَمْ» يَقُولُ الرُّوحُ: «لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ». ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ، وَعَلَى السَّحَابَةِ جَالِسٌ شِبْهُ ابْنِ إِنْسَانٍ، لَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ حَادٌّ. وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْهَيْكَلِ، يَصْرُخُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إِلَى الْجَالِسِ عَلَى السَّحَابَةِ: «أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ وَاحْصُدْ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتِ السَّاعَةُ لِلْحَصَادِ، إِذْ قَدْ يَبِسَ حَصِيدُ الأَرْضِ». فَأَلْقَى الْجَالِسُ عَلَى السَّحَابَةِ مِنْجَلَهُ عَلَى الأَرْضِ، فَحُصِدَتِ الأَرْضُ. ثُمَّ خَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْهَيْكَلِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، مَعَهُ أَيْضًا مِنْجَلٌ حَادٌّ. وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْمَذْبَحِ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّارِ، وَصَرَخَ صُرَاخًا عَظِيمًا إِلَى الَّذِي مَعَهُ الْمِنْجَلُ الْحَادُّ، قَائِلًا: «أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ الْحَادَّ وَاقْطِفْ عَنَاقِيدَ كَرْمِ الأَرْضِ، لأَنَّ عِنَبَهَا قَدْ نَضِجَ». فَأَلْقَى الْمَلاَكُ مِنْجَلَهُ إِلَى الأَرْضِ وَقَطَفَ كَرْمَ الأَرْضِ، فَأَلْقَاهُ إِلَى مَعْصَرَةِ غَضَبِ اللهِ الْعَظِيمَةِ. وَدِيسَتِ الْمَعْصَرَةُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ دَمٌ مِنَ الْمَعْصَرَةِ حَتَّى إِلَى لُجُمِ الْخَيْلِ، مَسَافَةَ أَلْفٍ وَسِتِّمِئَةِ غَلْوَةٍ.»


في هذا الإصحاح، يُقدِّم لنا كاتب هذا السِّفر صورةً عن الآخِرة، أي عن اليوم الأخير، تُعطي تعزية لجميع المؤمنِين الّذين هُم تَحت الشِّدة.
"ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا خَرُوفٌ وَاقِفٌ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَمَعَهُ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، لَهُمُ اسْمُ أَبِيهِ مَكْتُوبًا عَلَى جِبَاهِهِمْ": إنّ الخروف الواقف على جبل صهيون هو المسيح يسوع. إنَّ الرَّقم "مِئةٌ وأربعةٌ واربعون ألفًا" قد خَضَع لِتَفسيراتٍ كثيرة، فَعَمدت على سبيل الـمِثال جماعة "شهود يهوه"، إلى إيهام المؤمنِين بأنَّ عدد الـمُخلَّصين هو محدودٌ بهذا الرَّقم فقط وأنَّ المخلَّصين سَيَكونون مِن أتباع هذه الجماعة. إخوتي، إنَّ الأرقام في الكِتاب المقدَّس لها رموز: فالرَّقم اثني عشر يرمز إلى الشموليّة، والرَّقم عشرة يرمز إلى عددٍ لا مَحدود، وبالتّالي الرَّقم مئة وأربعةٍ وأربعون ألفًا، يساوي 12x12x10x1010x وهذا يعني عددٌ لا مَحدود. إنَّ كاتب هذا السَّفر يُشير إلى أنَّ هؤلاء "لَهم اسمَ أبيه مكتوبًا على جباههم"، أي أنّهم ينتمون إلى البيئة اليهوديّة، الّتي يُخبرنا الكِتاب المقدَّس أنَّها تتألَّف من اثني عَشَر سِبطًا. إنَّ الـمُخلَّصين هُم المؤمِنون الّذين تحلَّوا بالصَّبر على الشَّدائد فثَبَتوا في إخلاصِهم للربّ، ولم يرتَّدوا ولَم يَخضعوا لعبادة الوَحش ولا للتِّنين ولا لآلِهته، أي العبادات الوثنيّة. إنّ عبارة "الخروف الـمَذبوح" تشير إلى الربِّ يسوع الذي ذُبِح على الصَّليب، وما استعمال الكاتب لهذه العِبارة إلّا لِتذكير المؤمنِين بِعمل الله الفِدائي للبَشر بموته على الصَّليب. إذًا، حين يبقى المؤمن أمينًا لشهادته للربّ، حتّى لو قاده ذلك إلى الموت قَتلاً، فإنّ نَصيبه من دون شكٍّ سيكون الوقوف إلى جانب الخروف المَذبوح في الملكوت، وهذا ما يَبعث في قلبه التَّعزية والرَّجاء والفرح إذ إنَّ الربَّ سيحقِّق وَعده. في هذا الإصحاح، يقوم كاتب السِّفر بمقارنةٍ بين الّذين تَبعوا الوَحش وعلى جباههم سِمة الوَحش، بالّذين أَخلَصوا لإيمانهم بالربِّ يسوع وعلى جباههم مكتوبٌ اسم أبيه "يهوه".
"وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ كَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ وَكَصَوْتِ رَعْدٍ عَظِيمٍ. وَسَمِعْتُ صَوْتًا كَصَوْتِ ضَارِبِينَ بِالْقِيثَارَةِ يَضْرِبُونَ بِقِيثَارَاتِهِمْ، وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ كَتَرْنِيمَةٍ جَدِيدَةٍ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الأَرْبَعَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَالشُّيُوخِ": عندما يَضرُب الإنسان على آلةٍ موسيقيّة، فهذا يشير إلى إنشاده ترنيمةَ فرحٍ، ترنيمة تسبيحٍ وتَمجيدٍ للإله الحقّ؛ وهذه التَّرنيمة الجديدة هي ترنيمة الانتصار على الـمُضطَهِدين، أي على الامبراطور الّذي يشير إلى العبادات الوَثنيّة. إنّ الحيوانات الأربع والشّيوخ قد تكلَّمنا عليهم سابقًا في الإصحاحات الماضية.
"وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ التَّرْنِيمَةَ إِلّا المِئَةُ وَالأَرْبَعَةُ وَالأَرْبَعُونَ أَلْفًا الَّذِينَ اشْتُرُوا مِنَ الأَرْضِ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يَتَنَجَّسُوا مَعَ النِّسَاءِ لأَنَّهُمْ أَطْهَارٌ. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هؤُلاَءِ اشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بَاكُورَةً للهِ وَلِلْخَرُوفِ. وَفِي أَفْوَاهِهِمْ لَمْ يُوجَدْ غِشٌّ، لأَنَّهُمْ بِلاَ عَيْبٍ قُدَّامَ عَرْشِ اللهِ": لقد استَعمل كاتب هذا السِّفر الفِعل "اشتُروا" في صيغة المَجهول، للدّلالة على أنَّ الفاعل هو الله. في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، يستخدم بولس الرَّسول الفِعل نَفسه وفي الصِّيغة نفسها، فَيقول:"لقد اشتُريتم بِثَمنٍ فَمجدُّوا الله في أجسادكم وأرواحكم" (1 كور 6: 20). إنّ الفِعل "اشترى" في اليونانيّة هو "أغورازو"، وهو مُشتَّقٌ مِن كلمة يونانيّة هي "أغورا"، وهي تعني ساحة المدينة الّتي فيها تتمّ أعمال البيع والشِّراء، ومِن ضمن هذه الأعمال بَيع العبيد وشِرائهم، فَينتقل العَبدُ من خِدمة سيِّد إلى خِدمةِ سيِّدٍ آخَر، من دون أن يَحصل على حريّته. وبالتّالي، ما أراد بولس الرَّسول قوله لأهل كورنثوس هو أنَّ الله قد اشترانا نحن الخاضِعين للعبوديّة بسبب خطايانا، بِدَمِه الذي سُفِك على الصَّليب، فأصبَحنا مُلكَه؛ غير أنّ الربَّ لم يُردِ استِعبادِنا من جديد، لذا أعطانا الحريّة الكامِلة، ولم يَعُد باستِطاعة أحدٍ استِعبادِنا من جديد. من خلال هذا الكلام، أراد كاتب سِفر الرُّؤيا تَعزية المؤمنِين وحثِّهم على الصَّبر على شدائدهم. إنَّ الباكورة هي طليعة الموسم في كلّ ثمرٍ مِن الثّمار. إنّ الله قد اشترانا بِدَم ابنه على الصَّليب، فأصبحنا باكورة المُخلَّصين، إذ ثَبتَنا في إيماننا بالربّ وإخلاصِنا له حتّى الشَّهادة والاستشهاد. منذ بداية سِفر الرُّؤيا، نلاحظ الوَحدة الموجودة بين الله الآب والابن. إنَّ الغِشّ هنا يعني نُكران المؤمن لإيمانه بالله الحيّ عند مواجهته للاضطهاد، ثمّ عودته إلى الله بعد انتهاء الاضطهاد؛ أي بمعَنى آخَر، نُكران المؤمن للحقيقة في وقت الشِّدَّة والقبول بها في وقت الرَّاحة: هذه هي إحدى أكبر التَّجارب الشَّيطانيّة الّتي قد يتعرَّض لها المؤمن. في صلاة الأبانا، نتضرَّع إلى الله قائِلِين: "لا تُدخِلنا في تجربة"، أي أنّنا نطلب مِن الله عدم السَّماح للشَّيطان بإيقاعِنا في تجاربه، لأنَّ ذلك سَيَدفَعنا إلى الوقوف أمام الله في اليوم الأخير كَمُتَّهَمين لا كأبناءٍ له، إذ قد تَرَكْنا الله. إنَّ المؤمِنِين الـمُخلِصين للربّ سَيَقفون أمامه من دون عيب، أي بلا غِشّ لأنّهم لم يتركوا الله في وقت الاضطهاد. في الكنيسة الأرثوذكسيّة، تَتمّ تلاوة صلاة السَّجدة في أحد العنصرة، الّتي فيها يتضرَّع المؤمن إلى الله قائلاً:"يا ربّ لا تَرُدَّني إلى الأرض، قَبْل أن تَرُدَّني إليك"، أي أنّه على المؤمن الثَّبات في إيمانه، كي لا يُفاجِئه الموت على غفلةٍ، فيَخجل حينها من الوقوف أمام الربّ. من خلال هذا الكلام، يركِّزُ كاتب هذا السِّفر على موضوع إنكار المؤمن لإيمانه، بسبب الخوف أو الرَّشوة، أي بسبب التَّرهيب والتَّرغيب. إنّ وجود سمِة الوَحش على جباه المؤمِنِين تُشير إلى خُضوع هؤلاء للامبراطور ولإله الوثني، وبالتّالي قبولهم بحماية الامبراطور. إنّ السُّؤال الّذي يحاول سِفر الرُّؤيا الإجابة عنه، هو: كيف يستطيع المؤمن المحافظة على إيمانه بالمسيح حين يكون تحت سلطة الامبراطور؟ والجواب هو، من خلال تَحلِّيه بِصَبر القدِّيسِين، وقد يقوده هذا إلى دَفع حياته ثمنًا لإخلاصِه للربّ.

"ثُمَّ رَأَيْتُ مَلاَكًا آخَرَ طَائِرًا فِي وَسَطِ السَّمَاءِ مَعَهُ بِشَارَةٌ أَبَدِيَّةٌ، لِيُبَشِّرَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ وَكُلَّ أُمَّةٍ وَقَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ، قَائِلًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «خَافُوا اللهَ وَأَعْطُوهُ مَجْدًا، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتْ سَاعَةُ دَيْنُونَتِهِ، وَاسْجُدُوا لِصَانِعِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالْبَحْرِ وَيَنَابِيعِ الْمِيَاهِ».إنّ البشارة الأبديّة الّتي يَحمِلها هذا الملاك الطائر في السّماء هي الإنجيل، فكلمة "إنجيل" في اليونانيّة تعني البشرى السّارة. إذًا، هذا الملاك قد أتى بالبشارة السّارة الأبديّة لكلِّ البشريّة، وليس فقط للمئة والأربعةِ والأربعين ألفًا، ممّا يعني أنّ الخلاص ليس محصورًا باليهود بل هو متاحٌ لجميع البشر مِن دون استثناء. إنّ عبارة "خافوا الله"، تعني لا ترتَعبوا من الشَّيطان، أي لا تخافوا ممّا سَيَحلُّ بكم إنْ لَم تخضعوا للامبراطور وعبادته. إذًا الخوف هنا، لا يعني الخوف مِن الله، بل إنّ الخوف هنا يعني مخافة الله، أي وَضعُ المؤمنِين ذواتهم تحت رَحمة الله وحمايته. إنّ الخوف، وبخاصّةٍ الخوف من الموت، هو الّذي يجعل النَّاس يسقطون في تجارب الشّيطان. إنَّ كلَّ عبوديّة سببها الخوف من الموت، وهذا ما يقوله أيضًا بولس الرَّسول في رسالته إلى العبرانيِّين (عب 8: 14). إنّ الملاك يدعونا إلى التحرُّر من الخوف، وإلى السُّجود لله. إنّ عبارة "جاءت ساعةُ دينونته"، تعني أنّنا نقترب مِن الآخِرة، من الملكوت، من الـمَجيء الأخير.
"ثُمَّ تَبِعَهُ مَلاَكٌ آخَرُ قَائِلًا: «سَقَطَتْ! سَقَطَتْ بَابِلُ الْمَدِينَةُ الْعَظِيمَةُ، لأَنَّهَا سَقَتْ جَمِيعَ الأُمَمِ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ زِنَاهَا!»: إنّ بابل هي مدينةٌ أراد أهلُها، بحسب العَهد القديم، إنشاء بُرجٍ يَصل إلى السَّماء، تحدِّيًا لله، فما كان مِن الله إلّا أن بلبَل ألسنِة أهلِها فَعجِزوا عن متابعة بناء هذا البُرج. إنّ "بابل المدينة العظيمة" ترمز إلى رُوما، عاصمة الوثنيّة، إذ يسكن فيها الامبراطور. إنّ بابل تُشير إلى روما، ولكنّها قد تُشير إلى الكنيسة، حين تُكرِّر "خطيئة آدم"، الّتي تقوم على الأكل مِن "شجرة معرفة الخير والشَّر"، وهذا يعني أنّه حين تُقيم الكنيسة علاقة بين الخير والشَّر من خلال قبولها بالمساومة على كلمة الحقّ، ستَنال مَصير "بابل المدينة العَظيمة". ما مِن أحدٍ مَعصومٍ عن الوقوع في هذه التَّجربة، وبالتّالي جميعنا سنَخضع لدينونة الله في اليوم الأخير ولن ننجو منها إلّا إذا ثَبتَنا في إخلاصِنا للربّ يسوع والشَّهادة له حتّى الموت، أي حتّى اليوم الأخير. إنَّ الزِّنى هنا يَعني تَرك الإله الحيّ واتِّباع العبادات الوثنيّة، وقد كلَّمنا النبيّ حزقيال في سِفره، (في الإصحاحات 16 حتّى 23) على هذا النَّوع من الزِّنى بِوَصفه الشَّعب الّذي ترك الله بالمرأة الزانية الّتي تعرِض جسدها لِكُلِّ عابرِ سبيبل. في هذا الإطار، نتذكَّر الكنيسة الرُّوسيّة في زمن الثَّورة الشيوعيّة، الّتي قد خَسِرت فيها كلّ ممتلكاتها الأرضيّة، ولَم يَعُد بإمكانها الاعتماد إلّا على إيمانها بالربّ يسوع، فأثمرت هذه الثَّورة عددًا لا يُستهان به مِن القدِّيسِين والشَّهداء في هذه الكنيسة. إخوتي، نحن اليوم مدعوون إلى التشبُّه بالكنيسة الرُّوسيّة، فنتخلَّى عن كلِّ ضماناتنا الأرضيّة ساعِين إلى التمسُّك فقط بيسوع المسيح ضمانتنا الوحيدة، فنَكون شهودًا وشهداء له، وتقود شهادتنا تلك إلى إقامة "أمواتٍ في هذه الحياة"، وإحيائهم بِيَسوع المسيح، فيَرتَّدون إلى الإيمان الصَّحيح، وما استشهاد القدِّيسَين بطرس وبولس إلّا خيرُ مِثالٍ عن انتشار البشارة وازدياد عدد المؤمنِين بالربّ؛ فلولا استشهاد الكثيرين في سبيل إيمانهم لَما وَصلت إلينا البُشرى السّارة. وهذا ما أكَّده لنا أيضًا سِفر أعمال الرُّسل إذ قال:"وكانت الكلمة تنمو وتزيد" (أع 12: 24)، فكلمة لا تنمو وتزيد من دون مبشِّرين بها، فَهدف الرُّسل الأوّل كان إيصال البشارة إلى المسكونة كُلِّها بِفَضل شهادتهم لإيمانهم بالربّ. إنَّ دورنا كمسيحيِّين في هذا الشَّرق لا يقوم على وجودنا السِياسيّ، إنّما على إعلاننا كلمة الله من دون خوف، حتّى لو قادنا ذلك إلى الاستشهاد. في حياتنا اليوميّة، نحن معرَّضون للاضطهاد في كلّ حين، لذا على سِفر الرُّؤيا أن يكون مُصوَّرًا في أذهاننا، فنتذكَّر كلام الرَّسول، كاتب سِفر الرُّؤيا في كلِّ حين لنتمكَّن من اتِّخاذ القرار الأفضل من أجل ثباتِنا في إيماننا بالربّ.

"ثُمَّ تَبِعَهُمَا مَلاَكٌ ثَالِثٌ قَائِلًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَسْجُدُ لِلْوَحْشِ وَلِصُورَتِهِ، وَيَقْبَلُ سِمَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ أَوْ عَلَى يَدِهِ، فَهُوَ أَيْضًا سَيَشْرَبُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ اللهِ، الْمَصْبُوبِ صِرْفًا فِي كَأْسِ غَضَبِهِ، وَيُعَذَّبُ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ أَمَامَ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ وَأَمَامَ الْخَرُوفِ. وَيَصْعَدُ دُخَانُ عَذَابِهِمْ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. وَلاَ تَكُونُ رَاحَةٌ نَهَارًا وَلَيْلًا لِلَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلْوَحْشِ وَلِصُورَتِهِ وَلِكُلِّ مَنْ يَقْبَلُ سِمَةَ اسْمِهِ». هُنَا صَبْرُ الْقِدِّيسِينَ. هُنَا الَّذِينَ يَحْفَظُونَ وَصَايَا اللهِ وَإِيمَانَ يَسُوعَ". إنَّ غَضب الله في اليوم الأخير سَيَكون لا على المؤمنِين الخَطأة، بل على كلّ الّذين وَظّفوا طاقاتهم لإبعاد المؤمنِين عن السُّجود للربّ. إنّ الشَّيطان قد أصبَح رئيس هذا العالم لأنّه تمكَّن من إخضاع البَعض له، فَسَجدوا له، وعَمِلوا على تنفيذ تعاليمه ونَشرِها في العالم. إذاً، إنَّ الحرب هي حربٌ بين الله والشَّيطان وكلّ مَن خَضع له، وهذه الحرب هي حربٌ إسكاتولوجيّة، أُخرَويّة، أي أنّها لا تنتهي سريعًا. إنّ المسألة الّتي يطرَحها هنا كاتب هذا السِّفر، هي كيف يستطيع المؤمن أن يبقى مُخلِصًا لإيمانه، على الرُّغم من الألم والشِّدة في زمن الاضطهاد، كما في زمن اللاضطهاد. في هذا الزَّمن الّذي ينتشر فيه وباء كورونا، يعاني المؤمنون من وَضع إقتصاديّ صَعب، ممّا يدفع مؤمنِين كُثرًا إلى لوم الله على ما يَحدث في عالَمِنا، وعَدم تدخُّله من خلال طَرح الأسئلة عليه لمحاكمته، وهذا ما يؤدِّي إلى زعزعة إيمان الإنسان. عندما ينتَبِه الشَّيطان إلى هذه الحالة الّتي وَصل إليها المؤمن في ملامَة الله، يتدخَّل سريعًا ليُقدِّم للمؤمن حُجَجًا وبراهين تثبِّت كلام المؤمن، فيقوم هذا الأخير بالابتعاد عن الله، لأنَّه لم يَجد أجوبةً عن أسئلته.
"وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا لِي: «اكْتُبْ: طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرَّبِّ مُنْذُ الآنَ». «نَعَمْ» يَقُولُ الرُّوحُ: «لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ». ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ، وَعَلَى السَّحَابَةِ جَالِسٌ شِبْهُ ابْنِ إِنْسَانٍ، لَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ حَادٌّ". إنّ كلمة "طوبى" في العِبريّة تَعني "هَنيئًا"، أمّا في اليونانيّة فتَعني "الغِبطة الكبيرة". من خلال هذا الكلام، أراد كاتب سِفر الرُّؤيا أن يقول للمؤمنِين إنّهم سينالون الطوبى في الملكوت، إذا ماتوا على هذه الأرض، وَهُم ثابتون في إيمانهم. إنّ الموقف الّذي اتَّخذه المؤمن عند تعرُّضه للاضطهاد، يُشكِّل "تَذكرةَ دخولٍ" له إلى الملكوت، أكان شهيدًا أو مُخلِصًا لإيمانه بالربّ، لأنّه عند وصوله إلى الملكوت سيَسمع الربُّ يقول له:"كُنتَ أمينًا على القَليل فسأجعلك أمينًا على الكثير. أُدخُل إلى فرح سيِّدك" (متى 25: 23). إنَّ سِفر الرُّؤيا يبدو لأوَّل وَهلةٍ مخيفًا جدًّا، إلّا أنّه في الحقيقة أكبرُ كِتابِ تعزيةٍ للمسيحيّين. في سِفر أعمال الرُّسل، عند صعود الربّ إلى السّماء، قال الملاك للرّسل إنّهم سَيُشاهِدونه آتيًا على السَّحاب في مجيئه الثّاني، كما رأوه صاعدًا إلى السّماء على سحابةٍ؛ وفي الأناجيل، نقرأ أنّ الربَّ الجالس على سَحابٍ سيأتي في مجيئه الثّاني بِمَجدٍ عظيم. إنّ عبارة "شبه إنسان"، تُشير إلى المسيح الّذي مات وعلى رأسه إكليلٌ مِن شوك، وهو سيأتي وعلى رأسه إكليلٌ من ذهب، وفي يَدِه مِنجَلٌ حادّ. إنَّ المِنجل هي آلةٌ حديديّة لا تُستَعمل إلّا في وَقت حصاد القَمح، أي في نهاية الموسم، كذلك سيأتي الربُّ حاملاً في يده مِنجلاً، وذلك يشير إلى الدَّينونة، وبالتّالي إلى اليوم الأخير.
"وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْهَيْكَلِ، يَصْرُخُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إِلَى الْجَالِسِ عَلَى السَّحَابَةِ: «أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ وَاحْصُدْ، لأَنَّهُ قَدْ جَاءَتِ السَّاعَةُ لِلْحَصَادِ، إِذْ قَدْ يَبِسَ حَصِيدُ الأَرْضِ». فَأَلْقَى الْجَالِسُ عَلَى السَّحَابَةِ مِنْجَلَهُ عَلَى الأَرْضِ، فَحُصِدَتِ الأَرْضُ. ثُمَّ خَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْهَيْكَلِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، مَعَهُ أَيْضًا مِنْجَلٌ حَادٌّ. وَخَرَجَ مَلاَكٌ آخَرُ مِنَ الْمَذْبَحِ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّارِ، وَصَرَخَ صُرَاخًا عَظِيمًا إِلَى الَّذِي مَعَهُ الْمِنْجَلُ الْحَادُّ، قَائِلًا: «أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ الْحَادَّ وَاقْطِفْ عَنَاقِيدَ كَرْمِ الأَرْضِ، لأَنَّ عِنَبَهَا قَدْ نَضِجَ». فَأَلْقَى الْمَلاَكُ مِنْجَلَهُ إِلَى الأَرْضِ وَقَطَفَ كَرْمَ الأَرْضِ، فَأَلْقَاهُ إِلَى مَعْصَرَةِ غَضَبِ اللهِ الْعَظِيمَةِ. وَدِيسَتِ الْمَعْصَرَةُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ دَمٌ مِنَ الْمَعْصَرَةِ حَتَّى إِلَى لُجُمِ الْخَيْلِ، مَسَافَةَ أَلْفٍ وَسِتِّمِئَةِ غَلْوَةٍ». إنَّ عبارة "الجالس على سحابة" في العِبريّة تشير إلى الجالس على العَرش أي إلى الـمَلك الحامل الصَّولجان. إنَّ الكلام عن الـمِنجل والحَصاد يذكِّرنا بِمَثل الزُّؤان والقَمح الّذي أعطاه الربّ في الإنجيل، وفيه طَلب العبيد إلى السَّيد السّماح لهم بِنَزع الزُّؤان من القَمح، فرَفض مخافةَ أن يتمّ اقتلاع القمح مع الزؤان، طالبًا إليهم انتظار وقت الحِصاد للقيام بذلك. إنّ عبارة "يَبِسَ حَصادُ الأرض" تُشير إلى أنَّ الوَقت قد حان للحِصاد. في هذا الإصحاح، الّذي يُكلِّمنا على اليوم الأخير، نلاحِظ أنّ دَور الملائكة قد تعاظَم، إذ أصبَحوا يقومون بِكُلِّ شيءٍ. في سِفر إشعيا(5: 1)، يقول لنا النبيّ: "لأُنشِدَّن لحبيبي نَشيد مُحبِّي لكرمه"، فيُخبرنا أنّ حبيبه يملِك كَرم عِنَبٍ، وقد أوكلَه لأناسٍ ليهتّموا به، فكان الحِصاد عِنبًا رديئًا، ممّا بَرهَن عن سوء اهتمام هؤلاء الوُكلاء بالكَرم، فَلم تُعطِ الأرض أجوَد ما عِندها. إنَّ عبارة "جَتسِمانية" في العِبريّة تعني "الأرض الّتي تُعطي ثمرًا جيِّدًا". إنّ اليَهود قد أعطوا ثِمارًا رديئةً إذ إنَّهم تركوا الإله الحقّ وتَبعوا آلهةٍ وثنيّة، أمّا الربُّ فقَدْ أعطى عِنبًا جيِّدًا، الّذي تحوّل إلى خمرٍ سيشربُ منه الربُّ في اليوم الأخير في العرس المسيحاني في الملكوت. إنّ الربَّ أعطى تلاميذه كأس الخَمر ليشربوها معه في العشاء السِّري، قائلاً لهم إنّه سيعود ويشرب معهم هذه الكأس في ملكوت أبيه، أي في اليوم الأخير. إنّ مَعصرَة غَضب الله هي الـمَعصرة الّتي أعطت ثمارًا رديئةً، والثَّمر الرَّديء هو جميع الّذين تركوا الله الحيّ من أجل عبادة آلهةٍ وثنيّة، ولذا يقول لنا كاتب هذا السِّفر إنَّ هذه الـمَعصرة قد دِيسَت خارج المدينة، في مقارنةٍ لِما فَعلوه عُظماء اليهود بالربّ، الّذي أعطى ثمرًا جيِّدًا، فصَلبوه أيضًا خارج أورشليم، المدينة المقدَّسة. إنّ يسوع المسيح هو الـمَعصرة الّتي دِيسَت خارج المدينة. من خلال هذا الكلام، أراد كاتب هذا السِّفر تعزيةَ المؤمنِين، بالقول لهم إنّ جميع الّذين تركوا الله سَيُداسون في اليوم الأخير، خارج المدينة الإلهيّة، أورشليم السّماويّة، الّتي سَيَستَفيض كاتب هذا السِّفر في إخبارنا عنها في الإصحاحَين 20 و21. إنّ مسافة "ألف وستمئة غلوة"، تُشير إلى مسافة بعيدة.

إذًا، في هذا الإصحاح، أقام كاتب هذا السِّفر مقارنةً بين المسيح وشَعب اسرائيل القديم: إنَّ شعب اسرائيل قد سَقط في الخطيئة، فأعطى عِنبًا رَديئًا؛ أمّا يسوع فقد أعطى الخمرة الجديدة. في عرس قانا الجليل، حوَّل الربُّ الماءَ إلى خَمرٍ، فقدِّمت الخمرة الجيِّدة في نهاية العرس على عكس العادة الّتي كان يُعمَل بها في ذلك الزّمان في الأعراس. إنّ الخمرة الصّالحة الّتي بقيَت حتّى نهاية عرس قانا الجليل هي عمل المسيح على الصّليب من أجل البشريّة جمعاء. على الصَّليب خَرجَتْ من جنب المسيح الخمرة الجيّدة، وهي دَم المسيح الـمُحيي. في عرس قانا الجليل، كانت العذراء حاضرة وكذلك عند أقدام الصَّليب. في عرس قانا الجليل، قال يسوع للعذراء مريم:"يا امرأة"، وكذلك عند أقدام الصَّليب قال الربُّ لأمِّه العذراء: يا "امرأة". في عرس قانا الجليل، تمّ إعلان مَجد الله، وعلى الصَّليب أعلن قائد المئة مَجد الله. إنَّ آية عرس قانا الجليل تمَّت في اليوم السّابع، وقيامة الربّ حَصَلت في النِّهاية، في اليوم الأخير. إذًا، في هذا الإصحاح، يَضعنا الكاتب على مَقرُبَة من رؤية عمل الله الأخير في نفوس مُحبِّيه. هذه هي الصّورة الّتي يريد إعطاءنا إيّاها الرَّسول في هذا الإصحاح، على الرُّغم مِن كلّ الصُوَر المخيفة الّتي قدَّمها لنا في هذا النَّص.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف. تتمة...
4/2/2021 سِفر رؤيا القدّيس يوحنَا - الإصحاح الثالث عشر حبّ الله للمؤمن
https://youtu.be/5fwPTYUb1hk

تفسير الكتاب المقدَّس
رؤيا القدِّيس يوحنّا
الإصحاح الثالث عشر
الأب ابراهيم سَعِد

4/2/2021

"ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى رَمْلِ الْبَحْرِ، فَرَأَيْتُ وَحْشًا طَالِعًا مِنَ الْبَحْرِ لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى قُرُونِهِ عَشَرَةُ تِيجَانٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِ اسْمُ تَجْدِيفٍ. وَالْوَحْشُ الَّذِي رَأَيْتُهُ كَانَ شِبْهَ نَمِرٍ، وَقَوَائِمُهُ كَقَوَائِمِ دُبٍّ، وَفَمُهُ كَفَمِ أَسَدٍ. وَأَعْطَاهُ التِّنِّينُ قُدْرَتَهُ وَعَرْشَهُ وَسُلْطَانًا عَظِيمًا. وَرَأَيْتُ وَاحِدًا مِنْ رُؤُوسِهِ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ لِلْمَوْتِ، وَجُرْحُهُ الْمُمِيتُ قَدْ شُفِيَ. وَتَعَجَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ وَرَاءَ الْوَحْشِ، وَسَجَدُوا لِلتِّنِّينِ الَّذِي أَعْطَى السُّلْطَانَ لِلْوَحْشِ، وَسَجَدُوا لِلْوَحْشِ قَائِلِينَ: «مَنْ هُوَ مِثْلُ الْوَحْشِ؟ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَارِبَهُ؟» وَأُعْطِيَ فَمًا يَتَكَلَّمُ بِعَظَائِمَ وَتَجَادِيفَ، وَأُعْطِيَ سُلْطَانًا أَنْ يَفْعَلَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا. فَفَتَحَ فَمَهُ بِالتَّجْدِيفِ عَلَى اللهِ، لِيُجَدِّفَ عَلَى اسْمِهِ، وَعَلَى مَسْكَنِهِ، وَعَلَى السَّاكِنِينَ فِي السَّمَاءِ. وَأُعْطِيَ أَنْ يَصْنَعَ حَرْبًا مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَيَغْلِبَهُمْ، وَأُعْطِيَ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَأُمَّةٍ. فَسَيَسْجُدُ لَهُ جَمِيعُ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ، الَّذِينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْخَرُوفِ الَّذِي ذُبِحَ. مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَجْمَعُ سَبْيًا، فَإِلَى السَّبْيِ يَذْهَبُ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَقْتُلُ بِالسَّيْفِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ بِالسَّيْفِ. هُنَا صَبْرُ الْقِدِّيسِينَ وَإِيمَانُهُمْ. ثُمَّ رَأَيْتُ وَحْشًا آخَرَ طَالِعًا مِنَ الأَرْضِ، وَكَانَ لَهُ قَرْنَانِ شِبْهُ خَرُوفٍ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ كَتِنِّينٍ، وَيَعْمَلُ بِكُلِّ سُلْطَانِ الْوَحْشِ الأَوَّلِ أَمَامَهُ، وَيَجْعَلُ الأَرْضَ وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا يَسْجُدُونَ لِلْوَحْشِ الأَوَّلِ الَّذِي شُفِيَ جُرْحُهُ الْمُمِيتُ، وَيَصْنَعُ آيَاتٍ عَظِيمَةً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْعَلُ نَارًا تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الأَرْضِ قُدَّامَ النَّاسِ، وَيُضِلُّ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ بِالآيَاتِ الَّتِي أُعْطِيَ أَنْ يَصْنَعَهَا أَمَامَ الْوَحْشِ، قَائِلاً لِلسَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَصْنَعُوا صُورَةً لِلْوَحْشِ الَّذِي كَانَ بِهِ جُرْحُ السَّيْفِ وَعَاشَ. وَأُعْطِيَ أَنْ يُعْطِيَ رُوحًا لِصُورَةِ الْوَحْشِ، حَتَّى تَتَكَلَّمَ صُورَةُ الْوَحْشِ، وَيَجْعَلَ جَمِيعَ الَّذِينَ لاَ يَسْجُدُونَ لِصُورَةِ الْوَحْشِ يُقْتَلُونَ. وَيَجْعَلَ الْجَمِيعَ: الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ، وَالأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ، وَالأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ، تُصْنَعُ لَهُمْ سِمَةٌ عَلَى يَدِهِمِ الْيُمْنَى أَوْ عَلَى جَبْهَتِهِمْ، وَأَنْ لاَ يَقْدِرَ أَحَدٌ أَنْ يَشْتَرِيَ أَوْ يَبِيعَ، إِلَّا مَنْ لَهُ السِّمَةُ أَوِ اسْمُ الْوَحْشِ أَوْ عَدَدُ اسْمِهِ. هُنَا الْحِكْمَةُ! مَنْ لَهُ فَهْمٌ فَلْيَحْسُبْ عَدَدَ الْوَحْشِ، فَإِنَّهُ عَدَدُ إِنْسَانٍ، وَعَدَدُهُ: سِتُّمِئَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ."

أودُّ البدء في شرح هذا النَّص انطلاقًا من الآية الأخيرة، كي يتسنَّى لنا أن نفَهم مَن هو المقصود بعبارة "الوَحش"، فَنَتمكَّن من فَهم النَّص بشكلٍ أفضَل. وهذه الآية الأخيرة تقول:"هُنَا الْحِكْمَةُ! مَنْ لَهُ فَهْمٌ فَلْيَحْسُبْ عَدَدَ الْوَحْشِ، فَإِنَّهُ عَدَدُ إِنْسَانٍ، وَعَدَدُهُ: سِتُّمِئَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ". في هذه الآية، يُخبرنا الرَّسول يوحنّا، كاتب هذا السِّفر، أنّ هذا الوَحش هو إنسانٌ وعدد اسمه هو سِتُّمئةٍ وستَّةٌ وسِتُّون. قديمًا، في الأبجديّة اليونانيّة، كان كلُّ حرفٍ يرمز إلى عددٍ مُعيَّن، فالحروف العَشرة الأولى ترمز إلى الأعداد من واحد إلى عشرة بحسب تَسلسُلِها الأبجديّ، أمّا ما يلي الحرف العاشر، فلا يُحسب عدده أحَدَ عشر بل عِشرين، ثمّ الحرف الّذي يليه، ثلاثين، وبعد الانتهاء مِن العَشرات نَنتقل إلى المِئات: هكذا يُحسَب تعداد الحروف حتّى آخر حرفٍ في الأبجديّة اليونانيّة. وبالتّالي، استنادًا إلى لائحة الأعداد المقابلة للحروف الأبجديّة، إذا جَمَعنا حروف اسم "نيرون" نحصل على الرَّقم ستُّمئةٍ وَسِتَّةٌ وسِتُّون. وهنا أودُّ الإشارة إلى أنَّه في التَّرجمة اللاتنيّة، لا يُقال "نَيرون" بل "نِيرو"، لذا تمّ استبدال الرَّقم ستُّمئة وستَّةٌ وسِتُّون بالرَّقم ستُّمئةٍ وستَّةُ عشر، إذ تمّ حَذف حرف النُّون الّذي يَرمز إلى العدد خمسين.
إنَّ الهَدَف من كتابة سِفر الرُّؤيا هو تعزية المؤمِنين وتقويَتهم وحثِّهم على احتمال ما يتعرَّضون له من اضطهاد، مُتَمسِّكين بالصَّبر. كان الامبراطور الرُّوماني يضطهد المؤمنِين بِهَدف إخضاعهم لعبادة إلهه، ودَفعِهم إلى التخلِّي عن عبادتهم للإله الحقّ. إنّ المؤمِنِين الّذين رَفضوا الخضوع لعبادة إله الامبرطور دَفعوا ثَمن ثباتهم: الموت قَتلاً. كان المؤمِنون يَخضعون لِسُلطة الامبراطور، كونهم كانوا يعيشون في أراضٍ تابعة للامبراطوريّة، ولكنَّهم رَفضوا الخضوع لعبادة إله الامبراطور. عند مواجهته للاضطهاد، على المؤمن الاختيار بين أمَرَين: إمّا المحافظة على حياته الأرضية على حساب شهادته للربّ، أو الشهادة للربّ على حساب حياته الأرضيّة، والقرار يعود إلى المؤمن وَحده. وعند اتِّخاذه القرار الصَّحيح، على المؤمن التحلِّي بِصَبر القدِّيسِين.
إنّ بعض النَّاس قد استغلُّوا ما يحدث في مجتمعنا لِمآرِب خاصَّة، فاعتبروا أنّ أحداث اليوم تؤكّد صِحَّة سِفر الرُّؤيا. وهذا ما حَدَث أيضًا في القرن الماضي، وإليكم مِثالٌ على ذلك: في التّرجمة الإنكليزية لِسِفر النبيّ حزقيال، وبخاصَّة في كلامه عن الحرب الأهليّة (حزقيال 38)، استغلّ البعض عبارة spoil الواردة في هذا النَّص والّتي تعني "غنيمة"، فاعتبروا أنّ النبيّ قد تنبّأ عن الحرب على البترول؛ كما قد تمّ استغلال كلمة "ماشك"، الواردة في النّص ذاته في سِفر حزقيال، والّتي تعني في العِبريّة "ماسك القضيب"، أي الـمَلِك، وفسَّروها على أنّها تعني موسكو. إخوتي، إنّ المؤمن بالربّ لا يُفسِّر أحداث اليوم على أنّها تحقيق لنبوءات الكِتاب المقدَّس، بل يقرأ الكِتاب المقدَّس، ليتمكّن من فَهم أحداث اليوم بشكلٍ صحيح. فإنّ تفسير أحداث اليوم على أنّها تحقيق لنبوءات الكِتاب المقدَّس يزرع في نفوس المؤمنِين الهلَع والخوف.
إذًا، إخوتي، بالعودة إلى تفسير نصّ سِفر الرؤيا الّذي نعالجه اليوم، نجد أنّ المقصود بعبارة "الوَحش" هو الامبراطور "نَيرون". إنَّ سِفر الرُّؤيا قد كُتِب لا في أيّام الامبراطور "نَيرون" بل في أيّام الامبراطور "دومتيانوس" الّذي خَلفَ الامبراطور نَيرون. إنَّ الامبراطور نَيرون، قد اضطهد المسيحيِين، ولكنَّ اضطهاده لهم كان اضطهادًا فوضَوِّيًا عشوائيًّا، غير إيديولوجيّ، أي غير مبنيّ على عقيدة. أمّا اضطهاد الامبراطور دومتيانوس للمسيحيّين فكان اضطهادًا ممنهجًا، إيديولوجيًّا، أي مبنيًّا على عقيدة، تقوم على رَفض الدِّين المسيحيّ وإجبار المسيحيِّين على التخلِّي عن إيمانهم والخضوع لإله الامبراطور، أي العبادة الوثنيّة.

"ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى رَمْلِ الْبَحْرِ، فَرَأَيْتُ وَحْشًا طَالِعًا مِنَ الْبَحْرِ لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ، وَعَلَى قُرُونِهِ عَشَرَةُ تِيجَانٍ، وَعَلَى رُؤُوسِهِ اسْمُ تَجْدِيفٍ. وَالْوَحْشُ الَّذِي رَأَيْتُهُ كَانَ شِبْهَ نَمِرٍ، وَقَوَائِمُهُ كَقَوَائِمِ دُبٍّ، وَفَمُهُ كَفَمِ أَسَدٍ. وَأَعْطَاهُ التِّنِّينُ قُدْرَتَهُ وَعَرْشَهُ وَسُلْطَانًا عَظِيمًا". من خلال هذا الكلام، أراد كاتب هذا السِّفر أن يُخبِر المؤمنِين بالربّ أنَّ الامبراطور دومتيانوس يُشبه مِن حيث الأفعال والأقوال، الامبراطور نَيرون، الّذي قَتل العديد من المؤمنِين وأهمُّهم الرَّسولَين بُطرس وبولس، لا بل إنّ الامبراطور دومتيانوس هو أكثر ضَرواةٍ في اضطهاده للمسيحيِّين مِن سَلَفِه. وبالتّالي، يُدرِك المؤمنون عند سماعهم هذا الكلام أنّ الامبراطور نَيرون، الّذي مات في آواخِر سِتِينيَّات القرن الأوّل للمسيحيّة، قد عاد إلى الحياة مِن خلال الامبراطور دومتيانوس، لأنّ الاضطهاد لم يتوقَّف بل ازدادَ شدَّةً. إنّ التِّيجان تُشير إلى أنّ الوَحش هو مَلِك، وعبارة "عشرة قرون وعشرة تيجان"، تُشير إلى امبراطوريّة روما. ثمّ يُضيف يوحنّا الرَّسول فيقول لنا إنّ على رؤوس هذا الوحَش اسم تَجديف، وهذا يعني أنَّ مَلِكَ روما، أي الامبراطور، يَحثُّ المؤمنِين على نُكران إلَههم والخضوع لإلهه الوثنيّ، بقوّة السُّلطان الـمُعطى له، كونه حاكم الامبراطوريّة. إنّ يوحنّا الرَّسول قد استخَدم هنا صُوَرًا مأخوذةً من سِفر النيّ دانيال. إنّ النَّمر هو حيوانٌ سريع التقدُّم، والدُّب هو حيوانٌ ذاتُ قوائمَ كبيرةٍ وثابتةٍ، والأسد هو حيوانٌ يُزمجر فيُرعِب بِصَوته بقيّة الحيوانات. إذًا من خلال هذه الصُّوَر، أراد يوحنّا الرَّسول إخبارنا عن سرعة وقوّة الاضطهاد الّذي يتعرَّض له المؤمنون بالربّ، والرُّعب الّذي يسعى الامبراطور إلى زَرعه في نفوس المؤمِنِين من خلال اضطهاده للمسيحيِّين. إنّ عبارة "التِّنين"، تُشير إلى العِبادات الوثنيّة، أي إله الامبراطور.

"وَرَأَيْتُ وَاحِدًا مِنْ رُؤُوسِهِ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ لِلْمَوْتِ، وَجُرْحُهُ الْمُمِيتُ قَدْ شُفِيَ. وَتَعَجَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ وَرَاءَ الْوَحْشِ، وَسَجَدُوا لِلتِّنِّينِ الَّذِي أَعْطَى السُّلْطَانَ لِلْوَحْشِ، وَسَجَدُوا لِلْوَحْشِ قَائِلِينَ: «مَنْ هُوَ مِثْلُ الْوَحْشِ؟ مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَارِبَهُ؟» وَأُعْطِيَ فَمًا يَتَكَلَّمُ بِعَظَائِمَ وَتَجَادِيفَ، وَأُعْطِيَ سُلْطَانًا أَنْ يَفْعَلَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ شَهْرًا". مِن خلال هذا الكلام، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول عن سجود بعض المؤمنِين للتِّنين أي لإله الامبراطور، الّذي مَنح الامبراطور هذا السُّلطان. إنّ المؤمنِين الّذين سَجدوا لإله الامبراطور، قد استبدلوا عبارة "مَن مِثل إلهنا؟"، الّتي كان يردِّدها الشَّعب المؤمن في العهد القديم، بعبارةٍ مُشابهةٍ لها، وهي:"مَن هو مِثلُ الوَحش؟ مَن يستطيعُ أن يُحاربُه؟". إذًا، استبدل المؤمنِون الّذين سَجدوا لإله الامبراطور نشيد التَّعظيم لله، بنشيدِ تَعظيمٍ للآلهة الوثنيّة، أي للشَّيطان. هذا هو هَدفُ الشَّيطان: إبعاد المؤمِنِين عن عبادة الله الحيّ. إنّ الشَّيطان يربح ويَصل إلى هدفه، عندما يسجد له بعض المؤمنِين، نتيجة إمّا خوفهم من الامبراطور الّذي يعمَد إلى ترهيبهم، وإمَّا قبولهم بالاغراءات المقدَّمة لهم مِن الامبراطور بهدف دَفعهم إلى السُّجود لإله الامبرارطور. أمّا البعضُ الآخَر من المؤمِنِين، فقد رَفضوا الابتعاد عن الله، مهما كلَّفهم الأمر. إنَّ سِفر الرُّؤيا موجَّهٌ لا إلى المؤمِنين الّذين سَجدوا لإله الامبراطور، إنّما إلى المؤمنِين الّذين يجاهدون في ظلّ الاضطهاد الّذي يتعرَّضون له، للثَّبات في إيمانهم بالربِّ يسوع، وهُم يُظهِرون استعدادًا إلى الاستشهاد في سبيل المحافظة على إيمانهم. إنّ العدد "إثنين وأربعين شهرًا" يساوي ثلاث سنوات ونِصف السَّنة، وهذا يعني أنَّ الاضطهاد لن يدوم إلى الأبد، إذ مَهما طال فإنّه لا بُدَّ له مِن أن ينتهي، ولكنْ "مَن يَصبُر إلى المنتهى، فَذاكَ يَخلُص".

"فَفَتَحَ فَمَهُ بِالتَّجْدِيفِ عَلَى اللهِ، لِيُجَدِّفَ عَلَى اسْمِهِ، وَعَلَى مَسْكَنِهِ، وَعَلَى السَّاكِنِينَ فِي السَّمَاءِ. وَأُعْطِيَ أَنْ يَصْنَعَ حَرْبًا مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَيَغْلِبَهُمْ، وَأُعْطِيَ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَأُمَّةٍ. فَسَيَسْجُدُ لَهُ جَمِيعُ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ، الَّذِينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْخَرُوفِ الَّذِي ذُبِحَ. مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ! إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَجْمَعُ سَبْيًا، فَإِلَى السَّبْيِ يَذْهَبُ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَقْتُلُ بِالسَّيْفِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْتَلَ بِالسَّيْفِ. هُنَا صَبْرُ الْقِدِّيسِينَ وَإِيمَانُهُمْ". إنّ هذا الكلام، يُقدِّم لنا صورةً واضحة عن الحرب الّتي يقودها الشَّيطان، فَهو يقود حربًا ضِدَّ الله، وضِدَّ كلِّ مَن يتبَع الله. إنّ الاسم يُشير إلى حضور الشَّخص وإلى تاريخه، وبالتّالي حين يَشنُّ الشَّيطانُ حربًا على اسم الله، فإنّه يَشنُّها على حضور الله في هذا العالم، لذا يقوم الشَّيطان باضطهاد المسيحيِّين مِن خلال حَثّهم على التَّجديف على اسم الله، في محاولةٍ منه لإلغاء حضور الله في هذا العالَم. في هذا الإصحاح، يُخبرنا الرَّسول أنَّ بعض المؤمنِين سيسجدون للشَّيطان، وهذا ما سيدفَع هذا الأخير إلى إعلان انتصاره في هذا العالَم، إلّا أنّه لن يتمكَّن من إخضاع المؤمنِين المكتوبة أسماؤهم في سِفر حياة الخروف المَذبوح، أي في سِفر المسيح يسوع. في بداية هذا السِّفر، كلَّمَنا يوحنّا الرَّسول عن الخروف الـمَذبوح الّذي يجلس على العرش السَّماويّ، وقد انتصر في معركته على الشَّر، فأدرَكْنا أنَّه يُحدِّثنا عن الربِّ يسوع. في هذا الإصحاح، يقول لنا يوحنّا الرَّسول إنّ أسماء المؤمنِين الّذين لن يسجدوا للشَّيطان مكتوبةٌ في "سِفر حياة الخروف الـمَذبوح منذ تأسيس هذا العالَم"، هذا الكلام لا يعني أنّ الله قد سَبَق واختار هؤلاء المؤمنِين دون سواهم للثَّبات في الإيمان الصَّحيح منذ إنشاء العالَم على الرُّغم من كلّ ما سيتعرَّضون له من اضطهادات، بل يعني أنّ الله سيَعرِفُ مُسبَقًا عند تعرُّضِك للاضطهاد، بالقرار الّذي ستتخِذُّه قَبْل تنفيذِك له. إذًا، ليس الموضوعُ موضوعَ تعيين الله لأشخاصٍ مُعَيَّنين للثّبات في إيمانهم به، إنّما الموضوع هو معرفةُ الله الـمُسبقة بِقَرار الإنسان، فالله لا يُجبِر أحدًا على اتِّباعه بل يترك للإنسان حريّة الاختيار ويَحترِم قراره. قد يتمكَّن الشَّيطان مِن قَتلِ المؤمنِين وتعذيبهم، ولكنّه لا يستطيع التأثير على حريّتهم والتحكُّم بإخلاصهم لله. في هذا الإصحاح، يُكرِّرُ يوحنّا الرَّسول عبارة ذَكَرها سبعَ مرّات في الإصحاحات الثَّلاثة الأولى مِن هذا السِّفر، وهي: "مَن له أُذُنٌ فليسمَع"؛ ولكنّ الفرق بين هذه الجملة في هذا الإصحاح وبين ذِكر هذه الجملة في الإصحاحات الثلاثة الأُوَل، هو أنَّه في الإصحاحات الثلاثة الأُوَل، تُذكر هذه الجملة مُضافٌ إليها عبارةٌ أخرى وهي: "ما يقوله الرّوح للكنائس"، أمّا في هذا الإصحاح فقد اكتَفى الرَّسول بِذِكر القِسم الأوَّل مِن هذه الآية. في هذا الإصحاح، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول أنّ المؤمِنين سيتعرَّضون للسَّبي والقَتل والتَّهجير وكافّة أنواع الاضطهاد، ولكن على المؤمنِين التحلِّي بِصَبر القدِّيسِين كي يتمكَّنوا مِن اجتياز هذه الـمَرحلة وَهُم ثابتون على إيمانهم بالربّ. إنّ كلمة "قدِّيس" في العهد الجديد، تَعني "المعمَّدون"، فكلُّ مُعمَّدٍ بالنِّسبة إلى كاتب هذا السِّفر هو قدِّيس. وكذلك بولس الرَّسول يستخدم هذه العبارة في رسائله للإشارة إلى المؤمِنِين الّذي قَبلوا العِماد، إذ بالنِّسبة إليه، كلّ مُعمَّدٍ باسم الربِّ يسوع هو مدعوٌّ إلى السُّلوك في طريق القداسة.
"ثُمَّ رَأَيْتُ وَحْشًا آخَرَ طَالِعًا مِنَ الأَرْضِ، وَكَانَ لَهُ قَرْنَانِ شِبْهُ خَرُوفٍ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ كَتِنِّينٍ، وَيَعْمَلُ بِكُلِّ سُلْطَانِ الْوَحْشِ الأَوَّلِ أَمَامَهُ، وَيَجْعَلُ الأَرْضَ وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا يَسْجُدُونَ لِلْوَحْشِ الأَوَّلِ الَّذِي شُفِيَ جُرْحُهُ الْمُمِيتُ، وَيَصْنَعُ آيَاتٍ عَظِيمَةً، حَتَّى إِنَّهُ يَجْعَلُ نَارًا تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الأَرْضِ قُدَّامَ النَّاسِ، وَيُضِلُّ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ بِالآيَاتِ الَّتِي أُعْطِيَ أَنْ يَصْنَعَهَا أَمَامَ الْوَحْشِ، قَائِلًا لِلسَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَصْنَعُوا صُورَةً لِلْوَحْشِ الَّذِي كَانَ بِهِ جُرْحُ السَّيْفِ وَعَاشَ". مِن خلال هذا الكلام، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول عن رؤيته لِوَحشٍ ثانٍ، هو الامبراطور دومتيانوس، وهو وَحشٌ ضَعيف، إذ إنّ قرونه هي قرون خروفٍ، وبالتّالي أراد الرَّسول تشجيع المؤمنِين على عدم الخوف من اضطهاد هذا الامبراطور لهم، لأنّه على الرُّغم من كلِّ سُلطانه وجبروته، فإنّه يبقى ضَعيفًا. إنّ هذا الوَحش يتكلَّم كتِّنين، أي أنّه يتابع مسيرة التِّنين في نَقلِ الكُفر إلى العالم من خلال محاربة المؤمِنِين وحثِّهم على نُكران إيمانهم. إنّ الوَحش سَيَقوم بآياتٍ عَظيمة، على مِثال الله، فيُضلِّل المؤمِنِين بالمسيح، إذ أصبح الوحش من خلال هذه الأعمال الخارقة مسيحًا دَجَّالاً. في التَّرجمة اليونانيّة للكِتاب المقدَّس، تُستَخدم عبارة "ضِدَّ المسيح"، للإشارة إلى المسيح الدَّجال. إنّ المؤمن الَّذي يسعى إلى بناء علاقة مع المسيح، سيتمكَّن من التمييز بين المسيح الدَّجال والمسيح الحقيقيّ؛ أمَّا المؤمن الذي لا يسعى إلى تلك العلاقة مع الربّ، فإنّه لن يتمكَّن مِن التمييز بين المسيح الدَّجال والمسيح الحقيقيّ، فيَتَضَلَّل. إنّ بعض المؤمنِين سيَقعون في الضَّلال ويتركون المسيح الحقيقيّ لاتِّباع مسيح دجّال، مُتمثِّلٌ في الامبراطور، الّذي يملِك القوّة والسُلطان، لذا هو قادرٌ على تأمين الاحتياجات الأرضيّة للتّابِعين له. من خلال اغراءاته، سينجح الشَّيطان، المتمثِّل في الامبراطور، في دَفع بعض المؤمِنِين إلى ترك الإله الحقيقيّ الذي قد يبدو ضَعيفًا في نَظرهم، إذ تعرَّض للإهانة والصَّلب من شَعبه، لاتِّباع إلهٍ وثنيّ قويٍّ في نَظَرهم لأنّه يُعطيهم كلّ ما يريدونه. وهذا ما نلاحظه في مجتمعنا الشَّرقي، إذ إنَّ القدِّيسَين الأكثر شُهرةً في مناطقنا والّتي تُشاد على اسمَيهما الكنائس، هما مار الياس ومار جرجس؛ فبِحَسَب التَّقليد، يُصوَّر لنا الأوّل حاملاً سيفًا قَتل به كهنة بَعل الّذين يرمزون إلى العبادة الوثنيّة، وأمّا الثّاني فيُصوَّر لنا حاملاً رُمحًا قَتَل به التِّنين الّذي يرمز إلى الشَّيطان. وفي ظلّ الاضطهاد، يسعى المؤمنون إلى اتِّباع إلهٍ قويّ قادٍر على الدِّفاع عنهم ودَرء الاضطهاد عنهم. بفضل إيمان مار الياس ومار جرجس وثباتهما في إيمانهما بالله، ازداد تمسُّك المؤمنِين بإيمانهم بالربّ وقد اتَّخذا هذين القدِّيسَين شَفيعَين لهما، اللّذين انتصرا على الشِّرير وقَهرا الآلهة الوثنيّة الّتي لها عيون ولا تَرى، لها آذانٌ ولا تَسمَع، لها أفواهٌ ولا تتكلَّم. وقد صَنَع المؤمنون الّذين سجدوا للوَحش صورةً له، ليَعبُدوه مِن خلالها.
"وَأُعْطِيَ أَنْ يُعْطِيَ رُوحًا لِصُورَةِ الْوَحْشِ، حَتَّى تَتَكَلَّمَ صُورَةُ الْوَحْشِ، وَيَجْعَلَ جَمِيعَ الَّذِينَ لاَ يَسْجُدُونَ لِصُورَةِ الْوَحْشِ يُقْتَلُونَ". لقد خاف بعض المؤمنِين من قوَّة وعظمة الامبراطور فسَجدوا لإلهه، الّذي تمّ إنشاء صورةٍ له لعِبادته، إذ اعتبروه إلهًا حيًّا؛ هذا هو الوَهم الّذي يلجأ الشَّيطان إلى زرعه في نفوس المؤمِنِين ليَتَمَكَّن من تَضليلهم عن الإيمان الحقّ. إنّ الّذين سيسجدون للإله الوثنيّ سيكونون في حماية الامبراطور، ولن يتعرَّضوا لأيّ اضطهادٍ، ولكنَّهم سيَخسرون فُرصة مشاهدة الخروف المذبوح الجالس على العرش السَّماويّ؛ أمّا الّذين سيرفضون الخضوع للإله الوثنيّ، فإنَّ الاضطهاد سيُلاحقهم حتّى يتمكَّن مِنهم ويَقتلهم.

"وَيَجْعَلَ الْجَمِيعَ: الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ، وَالأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ، وَالأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ، تُصْنَعُ لَهُمْ سِمَةٌ عَلَى يَدِهِمِ الْيُمْنَى أَوْ عَلَى جَبْهَتِهِمْ، وَأَنْ لاَ يَقْدِرَ أَحَدٌ أَنْ يَشْتَرِيَ أَوْ يَبِيعَ، إِلَّا مَنْ لَهُ السِّمَةُ أَوِ اسْمُ الْوَحْشِ أَوْ عَدَدُ اسْمِهِ. هُنَا الْحِكْمَةُ! مَنْ لَهُ فَهْمٌ فَلْيَحْسُبْ عَدَدَ الْوَحْشِ، فَإِنَّهُ عَدَدُ إِنْسَانٍ، وَعَدَدُهُ: سِتُّمِئَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ". في القديم، كان النَّاس يضعون الأوشام على أجسادهم تعبيرًا عن انْتِمائهم. إنّ الميرون الّذي يُمنَح للمُعمَّد هو خَتمٌ يوسَم به المؤمِن تعبيرًا عن انتمائه إلى الكنيسة. وفي هذا الإطار، في أثناء الاحتفال بِسِّرّ الميرون في الكنيسة الأرثوذكسيّة، يقول الكاهن للمُعمَّد إنّه ينال "خَتمَ الرُّوح القدس"، ويمسحه الكاهن بالميرون على حواسه الخمسة، تعبيرًا عن انتماء كلّ هذه الحواس إلى الربَّ يسوع، إذ أصبح مدعوًّا كي يرى ويسمع ويسلك كما سَلك المسيح يسوع. في المعموديّة، يُمهَر المؤمن بالخَتم المقدَّس، فتُعرَف مرجعيَّته. ثمّ يتابع الرّسول يوحنّا كلامه للمؤمِنِين فيطلب إليهم التحلِّي بِصَبر القدِّيسِين، كي يتمكَّنوا من الثّبات في إيمانهم على الرُّغم من الاضطهاد. إنّ الجميع سيكونون تحت سُلطة الشِّرير، مَن يتراجع عن إيمانه يخسر الملكوت، ومَن يثبت في إيمانه ينال نعمة مشاهدة الربّ الجالس على العرش السَّماويّ. إنّ اليَد اليُمنى، تُشير إلى التَّعامل مع الآخَرين. أمَّا الجَبهة، فكان اليهود قديمًا يَضعون عليها عصائب مُدَوَّنٌ عليها وصايا الله، كي تبقى تلك الوصايا نُصبَ عيونهم، فلا يَحيدون عنها. ومن خِلال هذا الكلام، يُخبرنا يوحنّا الرَّسول أن الّذين سَجدوا للوَحش، قد استبدلوا العصائب الّتي كان يدوِّن عليها وصايا الله، بعصائب أخرى مدوَّن عليها وصايا التِّنين، فلا يَحيدون عنها تعبيرًا عن إيمانهم بالشِّرير، فيُدرِك جميع الرائين لهم أنَّ هؤلاء القَوم قد ابتَعدوا عن الله. ويتابع يوحنّا الرَّسول فيُخبرنا أنَّ البَيع والشِّراء أصبح مَحصورًا بِيَد غير المؤمِنِين إذ لم يَعد باستطاعة المؤمنون شراءَ ما يحتاجون إليه؛ بِمعنى آخر، أصبح المؤمنون غير الخاضِعين للوَحش مهدَّدون بِالطَرد من وظائفهم، وبالتّالي خسارة مَورَد رِزقهم، ما يجعلهم يعانون من خَطَر الموت جوعًا.
إذًا، إنّ الحالة الّتي نعيشها اليوم في مجتمعنا، هي نفسها حالة المؤمنِين في سِفر الرُّؤيا: ففي هذه المرحلة من حياتنا، نواجه صعوباتٍ كثيرة، إذ نجد ذواتنا أمام تحدٍّ يفرِض علينا الاختيار ما بين اتِّباع الربّ أو آلهةٍ أخرى، حتّى نجتاز هذه المرحلة ونحن ثابِتون في إيماننا بالربّ. إنَّ سِفر الرُّؤيا لا يَبطُل أبدًا، إذ إنَّ المؤمن لا يزال يواجه، بِغَضِّ النَّظر عن كورونا، العبادات الوثنيّة والشَّر والشَّيطان، في أدَّق تفاصيل حياته. فالمؤمن يبقى باستمرار في حالة خوفٍ من أن يتعرّضَ للطَرد من عَمَلِه بسبب ثباته في إيمانه ورَفضه كلَّ ما لا يتماشى مع تعاليم الربّ.
إنّ ما نسمعه اليوم في عالَمنا عن الجِباه والأوشام والرَّقم ستمئةٍ وستَّةٌ وستُّون، لا يعني أبدًا أنَّ مجيء الربِّ أصبح قريبًا. فالربّ يأتي في كلّ لحظةٍ في حياة المؤمن وهو لا يترك المؤمن أبدًا. ولكنَّ السُّؤال الّذي يُطرَح هو: هل سيبقى المؤمن مع الربّ على الدَّوام، في زمن السّلام كما في زمن الاضطهاد؟ هل سيبقى المؤمن مع الربّ في أيّام شبابه وكذلك في أيّام شيخوخته؟ هل سيبقى المؤمن مع الربّ في الغِنى وفي الفَقر، في الحريّة وفي العبوديّة؟ إذًا، في هذه الحياة، على المؤمن أن يتَّخِّذ موقفًا واضحًا يُعبِّر عن إيمانه، وهذا الموقف ينطَلِقُ من صورة الإله الموجودة نُصبَ عينَي المؤمن، أكانت صورة الوَحش، أم صورة الخروف الـمَذبوح الّذي غلب أولاً على الصَّليب والّذي سيغلِب في اليوم الأخير والّذي سيمسح كلَّ دَمعةٍ من عيون المؤمنِين به. إذاً، أمام التحدِّيات، تَظهر قوّة إيمان الإنسان ومدى ثباته في إيمانه، وصَبره على احتمال الشَّدائد في سبيل شهادته للربّ، الّذي عليها أن تُضاهي قوّة الوَحش وسلطانه. هذا الزَّمن هو زمان المؤمن، فيه يتَخِّذ الإنسان موقفه الصَّريح الّذي يُعبِّر عن إيمانه، ولكن على المؤمن أن يتذكَّر أنّه مهما طال زمن الاضطهاد فإنّه سيبقى قصيرًا قياسًا بِزَمن الله الّذي لا ينتهي وهو زمن الأبديّة. مهما كانت قوّة الامبراطور الوثنيّ عظيمة في اضطهاد المؤمنِين فإنّ زمنه سيبقى 666، ولن يُصبح أبدًا 777، الّذي يُعبِّر عن زمن الله. فزمن الامبراطور الوثنيّ يبقى زمنًا ناقصًا، أمّا زمن الله فهو زمنًا كاملاً، يُعبِّر عن كمال الله وقدرته وقوّته، فالله هو القدير على كلِّ شيء وهو ضابطُ الكُلّ. إنّ زمن التِّنين يبقى ناقصًا ولن يتمكَّن المؤمن من الانتصار عليه إلّا بقوّة المسيح، أي بِثَباته في إيمانه بالربِّ يسوع.
إنّ إخلاص المؤمن للمسيح يسوع لا يَظهر في الاضطهاد الصَّغير، بل في الاضطهاد الكبير الّذي يقود إلى الموت والاستشهاد. فعندما يكون المؤمن غير قادرٍ على احتمال الاضطهاد، يكون الوقت قد حان كي تَظهَر صورة الحَمل الـمَذبوح في عينَي المؤمن وفي حياته، فينال القوّة من الربّ على الصَّبر على الاضطهاد. مهما طال الاضطهاد فإنه لا بُدّ له من أن ينتهي، إذ لا شيءَ يدوم إلّا وَجهُ الله.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بتصرُّف.