البحث في الموقع

كلمة الحياة

العظات

2/11/2021 تذكار الموتى الأب توفيق أبو خليل
https://youtu.be/mNEi6UVAhUs

عِظة الأب توفيق أبو خليل
القدَّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
"تذكار الموتى"
كنيسة مار تقلا- سدّ البوشريّة

2/11/2021

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

الموتُ كلمةٌ مرعبةٌ. فعلى الرُّغم من أنّنا أُناسٌ مؤمِنون ونأتي إلى الكنيسة كثيرًا، نرتعِب ما إنْ نسمع بكلمة "الموت". هذه الكلمة تُخيفُنا على الرُّغم من أنّ إيمانَنا المسيحيّ يَنظر إلى الموت على أنّه عبورٌ إلى الحياة الأبديّة: "أنا لا أموتُ أبدًا بل أدخل الحياة". أريد اليوم أن أفكِّر وإيّاكم حول ثلاث نقاط، هي: لماذا نخاف من الموت؟ كيف نموت؟ لماذا نموت؟ وفي الخِتام، خلاصةٌ لحديثنا.

لماذا نخاف من الموت؟ سَنُعالج هذا السّؤال مُستَندِين إلى ثلاث نَظراتٍ مختلفةٍ للموت.
النَّظرة الأولى هي نَظرةُ الأحبّاء للموت. هذه النَّظرةُ مبنيّةٌ على الحُبّ الّذي يجمع بَيني وبين الإنسان الّذي أَمضَيتُ مَعه العمر كلَّه، وقد مات. نحن نخاف من الموت، لأنّنا نخاف من أن نخسَر هذه الصُّورة، صورة الحُبّ الّتي تجسَّدَتْ بِصَوت هذا الإنسان الّذي مات، وَصورَته ووَجهه: إذ بالموت، غاب عنّا الصَّوت فِعليًّا كما غابت الصُّورة والوجه. نخاف من الموت، لأنّنا نخاف من أن تتوقَّف هذه الصُّورة مِن أن تكون حاضرةً أمامِنا. نخاف من مناداة أحبائنا الموتى، الّذين ذَكرنا أسماءهم في بداية هذه الذبيحة الإلهيّة، مِن دون أن نلقى ردًّا على مناداتِنا. نخاف من أن ننظر إلى المكان الّذي كان يَجلس فيه أحد أحبّائنا الموتى ولا نَراه. نخاف مِن وَضع الصَّحن الخاصّ به على المائدة، ورؤيته فارغًا. هذه نَظرةُ الأحبّاء إلى الموت، إذ يخافون من أن يخسروا مَن يُحبّونَهم، وهذه النَّظرة هي نَظرةٌ مُحِقَّة. نخاف أن نخسر أحبّاءنا، إذ إنّ صورَتَهم قد طُبِعت فينا، مِن شِدَّة حبِّنا لهم. لذلك، نحن نَذكُر أحبّاءنا في كُلِّ قُدَّاسٍ، وفي كلّ مُناسبةٍ، ونتساءل: كيف نستطيع أن نستمرَّ في هذه الحياة من دونِهم، من دون هذا الصَّوت، وهذه الصّورة، وهذا الوجه؟
النَّظرة الثانية هي نظرةُ الإنسان بِحَدِّ ذاته إلى الموت، فَكُلُّ واحدٍ مِنّا هو مَعْنِيّ مباشرةً بالموت. في حياتنا اليوميّة، عندما نفكِّر في الموت نعتقد أنّه بَعيدٌ عنّا، لأنَّنا نعتقد أنّه من غير المعقول أن يَدُقَّ بابنا. نحن ننظر دائمًا إلى الموت على أنّه قد يُصيب الآخَرين فقط ونستصعب أن يدقّ الموتُ بابنا، إذ إنّنا نذهب إلى تقديم التعازي بِرَحيلِ الآخَرين عن هذه الأرض. نحن نتَنَكَّر للموت، ونحاول أنْ نتناسى هذه الحقيقة الّتي هي الموت. نحن نسعى كي ننسى أو نتناسى بأنّ هناك نهايةٌ، من خلال التلهّي بأمورٍ دنيويّةٍ في هذه الحياة وحثِّ الآخَرين على حذو حذونا في عدم التفكير في حقيقة الموت، علّنا ننسى تلك النِّهاية الّتي تُرعِبنا لمجرَّد التَّفكير فيها. إنّ هذه النِّهاية، أي الموت، ما زالت تُرعبنا وتُخيفنا لأنّنا لم نكتَشِف بَعد أنَّ هذه النّهاية هي بِحَدِّ ذاتها البداية، لذلك نُفضِّل أن ننسى، ونتناسى أنَّ هناك موت.
إنّ آباءنا القدِّيسِين وخصوصًا الحُبَساء مِنهم، كانوا يَضعون في محابِسهم جماجمَ بشريّة، كي لا يَغيب عن ذهنِهم في يومٍ من الأيّام أنّ كلَّ واحدٍ مِنهم هو "مِن التُّراب وإلى التّراب سَيَعود". كانوا يضعون الجماجم في محابسهم كي لا يَغيب عن ذهنهم ولو حتّى لحظة، أنّهم قد وُجِدوا في هذه الحياة كي يَستثمروا نِعَم الربِّ ومواهبه الّتي أعطاهم إيّاها، حتى يَعبُروا من هذه الحياة إلى الحياة الأبديّة. نُسمِّيه موتٌ ولكنّه في الحقيقة عبورٌ، بابٌ إلى الحياة الأبديّة. وأنا أقول لكم: إذا تذكَّر كلُّ واحدٍ وواحدةٍ منّا، بشكلٍ دائمٍ غير منقَطِع، أنّه ستأتي لحظةٌ في حياته كي تَسرقَه من هذه الدُّنيا إلى الحياة الأبديّة، عندها من دون شكّ سيسعى الجميع إلى عَيش القداسة، الّتي لن يرى فيها إلّا الحياة الأبديّة. ولكنْ، حين نَضعُ الحياة الأبديّة جانبًا ونتناسى كلّ ما يتعلَّق بها، فنَقوم بما يحلو لنا، فإنّه لا محالة عندما يَضعفُ جسدنا ويتَعَب، سنأتي إلى الكنيسة مُسرِعين قائلين لله: "ارحَمنا يا ربّ". ولكن السُّؤال هو أين نكون حين يكون جسدنا قويًّا وفي عزِّ عطائه، أي حين تكون صورَتُنا نقيّةً، بهيّةً، ومُشِّعّة، ويكون وجهنا مُنَوَّرًا؟! عندما يكون جسدنا في عزِّ شبابه، علينا أن نضع كلّ مواهبنا وطاقاتنا في خِدمة العالَم وتَمجيد الله.

النَّظرة الثالثة هي نظرة الكنيسة في المجمع الفاتيكاني الثاني. في هذا الإطار، يقول لنا الـمَجمَع الفاتيكاني: إنّ الإنسان بِطبيعته يرفض الفناء، بِطَبيعته يسعى دائمًا إلى الكمال، لأنّ في داخل كلِّ إنسان، رغبةٌ وتوقٌ إلى اللّامحدود. فهذا الإنسان النّاقص يتوق دائمًا إلى الكمال. لذلك، نجد عند الإنسان ثورةً على الموت، لأنّه يرغب في أنْ يعيش هذه الحياة؛ ولكن حين يكتشف هذا الأخير مع مرور الوقت، أنّ الحياة الحقيقيّة هي مَعرِفةُ الله، يُصبح عاشقًا للحياة الجديدة، عاشقًا للحياة الأبديّة، تلك الحياة الّتي لا تنتهي، والّتي لا يوجد فيها لا ضُغفٌ، ولا ألمٌ، ولا وَجعٌ ولا موتٌ، تلك الحياة نعيشها وَجهًا لِوَجهٍ مع يسوع المسيح. كي نتمكَّن مِن عَيش تلك الحياة الأبديّة، علينا أن نكتَشِف أنَّ ملء الحياة هي أن نَعرف الله الآب.

أمّا النقطة الثانية الّتي أريد أن أتأمَّل فيها هي: كيف نموت؟ وهنا إخوتي، فلنَدَعْ العِلمَ يُجيب عن هذا السُّؤال. قد نموت بسكتتةٍ قلبيّة أو نتيجة إصابة بسرطان، أو بمرَضٍ مُعيَّن، أو نتيجة حادثِ سيّارة.

أمّا النقطة الأخيرة الّتي أريد أن أتأمَّل فيها وإيّاكم، فَهي: لماذا نموت؟ بل السُّؤال الأصحّ: لماذا نعيش، إنْ كان لا بُدَّ من الموت؟ أو بعبارةٍ أُخرى: ما نفع الحياة، إنْ كُنّا سنَموت؟ أو لماذا خُلِقنا، إنْ كُنّا سنَموت؟ عندما يكون الموتُ أمامَنا في كلِّ حينٍ، فإنَّ هذا الأمر يُساعدنا كي نكتَشِف معنى الحياة أكثر فأكثر. فإنّه إنْ لم يكن هناك من نهايةٍ للأمور، فهي من دون أدنى شكّ، سَتَفقِدُ معناها، إذ إنّ المعنى يتجلَّى في النِّهايات. تخيّلوا معي النَّهار، فإنّه مهما كان جميلاً ورائعًا بالنِّسبة إلينا، لا بُدَّ له من أن ينتهي. وتخيّلوا معي: ماذا لو كان دوام عملكم لا نهاية له؟! وأيضًا تخيّلوا معي لو أنّ طفولتكم لم يكن لها نهاية؟ تخيّلوا معي لو أنَّ فرحكم كان بلا نهاية؟ في هذه الحالة، يفقد الفرح معناه. كيف نكتشف معنى الفرح؟ نكتشفه عندما نختبر الألم والحزن. كيف نكتشف معنى حياتنا؟ عندما نعيش اختبار الموت. إذًا، المعنى كلّ المعنى يكمن في النِّهايات. ولا تخافوا من النِّهايات لأنّه في المسيحيّة، كلُّ نهايةٍ هي في حدِّ ذاتها بدايةٌ جديدة.

في النِّهاية سنَموت جميعنا، ولائحة أَسماء الأحبّاء الّتي سمعتموها اليوم في بداية الذبيحة الإلهيّة، ستضمُّ أسماءنا جميعًا في يومٍ ما، وأنا أوَّلُهم. فإذا كُنّا كُلُّنا كلّنا سنَموت، فلنَسعَ كي نموت كما يجب. إنّ القدِّيس إغناطيوس الإنطاكي يقول: "قَرُبَت السّاعة الّتي سأُولَد فيها"، لأنّ الموت هو ولادةٌ وخاتمةٌ لهذه الحياة.
إخوتي الأحبّاء، الموتُ هو حقٌّ لا تُفرِّط به، بل أَتمِم السَّعي إلى إنجاز هذا الحقّ وملاقاة الحبيب. وهنا أستطيع أن أصرخ مع بولس الرُّسول: "ما أحلاكَ يا موت، حين أكون مع المسيح"(فيلبي1: 21). إنّ الموت حلوٌ، فهل ما زِلنا نخاف منه؟
ملاحظة: دُوِّنَتْ مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف.

تتمة...
9/11/2019 "مثل السامريّ الصالح" الأب انطوان النَّداف

عِظة في "مثل السامريّ الصالح"
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
كنيسة مار الياس الحيّ - الخنشارة
( الأحد الثامن بعد الصّليب)

بقلم الأب انطوان النَّداف

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

9/11/2019

أخواتي، إخوتي،
مَثلُ السّامريّ الرَّحيم هو مِن أهمُّ الأمثلة الّتي تدعو إلى محبَّة القريب ومحبَّة العدّو. يبدأ بحوارٍ بين أحد علماء النّاموس والسّيِّد المسيح. غالبًا ما كان هذا من الفرِّيسيِّن الّذين يُؤمِنون بالحياة الأبديّة بعد الموت.
ردَّ يسوع سؤله بسؤال: "ماذا كُتِبَ في النّاموس، كيف تقرأ؟" أجاب وقال: "أحبِبْ الربَّ إلهَك بكلِّ قلبك وبكلِّ نفسك وبكلِّ قُدرَتِكَ وبكلِّ ذهنك وقريبك كنفسك". بعد ذلك، أجاب يسوع: "بالصَّواب أجَبْت، إفعل ذلك فتَحيا". ثمّ سأل عالم النّاموس: "ومَن قَريبي؟" عندئذٍ أَخَذَ يسوع يقصُّ عليه قصَّةً، أهمُّ ما فيها، أنّها تُظهِرُ سامِريًّا (أحد مناوئي اليهود) يهتمّ بيهوديّ مجروح، مرميّ على الطَّريق بين حيٍّ وميت، ويعالجه. تخطّى السامريّ الفرق الدِّينيّ واعتنى بأمرِ هذا الغريب. يقول آباؤنا القدِّيسون أنَّ سامريّ الـمَثَل هذا رمزٌ للمسيح الّذي ليس عنده غريب، وهو الّذي يعتني بالجميع بمحبَّته ورأفته، ويَهَبُهم إنعامات موته وقيامته. لنُلاحِظ أنَّ عالم النّاموس سأل يسوع: "مَن قريبي؟" فأتته الإجابة بسؤال:"أيُّ هؤلاء الثلاثة تحسِبه صار قريبًا للّذي وَقع بين اللّصوص: اللّاوي، أم الكاهن، أم السامريّ؟" جاء الجواب: الّذي صنع إليه الرّحمة".

أخي المؤمِن، بالمحبَّة الّتي تُحِبّ بها، تجعل الآخر قريبك. كلُّ إنسانٍ هو قريبك أيًّا كان دينه أو لونه أو وطنه، إن كان بحاجة لرعايتك. أنتَ أخٌ لكلِّ محتاج، لكن قُم بعمل شرعاية واهتمام ليشعر أنّه أخوك وأنّه قريبك. المحبَّة حركة تنعدم عندها الفوارق والأنساب، المحبّة تهدم الفوارق بين جميع النّاس، تُنقِّي النّفس وتجعلك إنسانًا آخر فتشعر حينئذٍ أنَّك حقًّا ابن الله. أُذكر عندما تُصلِّي في الصّلاة الربيّة: "أبانا الّذي في السَّماوات..." أنَّك تُعلن أنَّ البشر جميعًا، خَطِئوا أم لم يُخطأوا هُم أبناء الله، وافهَمْ أنَّ الملكوت يبدأ الآن في قلوب الـمُحبِّين وفي قلوب مَن يرعاهم الـمُحبُّون. فتِّش عَمَّن هم أكثر حاجة لأنَّ الربَّ قريب إليهم كثيرًا. آمين.

تتمة...
9/7/2019 شهادة المؤمن في الاضطهاد الأب موريس عوض

عظة الأب موريس معوَّض
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى العاشرة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
كنيسة مار تقلا- المروج

9/7/2019
باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في هذا المساء، نجتمع معًا في هذه الذبيحة الإلهيّة، لنحتفل بالذكرى العاشرة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك" في رعيّتنا، في كنيسة مار تقلا- المروج.
إنَّ هذا النَّص الإنجيليّ (مر 13: 9-13) الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، يدفعنا إلى طَرحِ السُّؤال: ما الّذي يطلبه منّا الربُّ اليوم مِن خلال هذا الكلام؟ يتمحوّر هذا النَّص حول الاضطهاد الّذي سيُعانيه الرُّسل في إعلانهم البشارة الإنجيليّة. إنّ اضطهاد الرُّسل جرى أثناء الـحُكم الرُّومانيّ، وأدَّى إلى شهادتهم الدَّمويّة. أمّا اليوم، فلا وجود للاضطهاد المباشر بسبب إيماننا بالربّ، ولا وجود لسُلطةٍ غريبة حاكمة في بلادنا، فنحن نعيش في سلام خارجيّ، على الرُّغم من وجود مخالفات يرتكبها المسؤولون بحقِّ المواطنِين.

إنّ الاضطهاد لا يقتصر على العذاب الجسديّ، الّذي يتعرَّض له الإنسان بسبب إيمانه، بل قد يتَّخذ أشكالًا متعدِّدة، وما أكثرها اليوم في عالمنا. في عالمنا اليوم لا ضرورة لشهادة الدَّم إنّما للشَّهادة البيضاء، الّتي تقوم على شهادة المؤمِن للربِّ يسوع في حياته اليوميّة من خلال أعماله وتصرُّفاته مع الآخَرين. وهنا يُطرح السّؤال: إلى أيّة درجة تتطابق حياتنا مع حياة الربِّ يسوع المسيح وتعاليمه؟ وإليكم مِثال عن مؤمِنٍ قد أصبح قدِّيسًا على الرُّغم من صِغَر سنِّه، لأنّ حياته كانت مطابقة لتعاليم الربِّ يسوع، وهو القدِّيس دومنيكو سافيو. كان القدِّيس دومنيكو سافيو أحد تلاميذ القدِّيس دون بوسكو. سأل يومًا القدِّيس دون بوسكو تلاميذه: ماذا تفعلون إذا عَلمْتُم أنّكم على بُعد ساعة من لقائكم الأبديّ بالربِّ يسوع؟ تعدَّدتْ أجوبةُ التّلاميذ ما بين الإسراع في التَّوبة وطلب المغفرة، وما بين قضاء السَّاعات الباقية من حياتهم في الصّلاة، وسواها من الأجوبة المماثلة لذلك. أمّا جواب القدِّيس دومينكو سافيو فكان لافتًا إذ قال لمعلِّمه إنَّه يستمرُّ في اللَّعب لأنّه مستعدٌّ وحاضرٌ للقاء الربِّ يسوع في كلِّ آنٍ، لأنَّه يمجِّد الله في كلِّ عملٍ يقوم به. إذًا، كان القدِّيس دومنيكو سافيو قادرًا على عيشِ تعاليم الربِّ على الرُّغم مِن صِغَر سنِّه.

انطلاقًا من هذا المثل وإنجيل اليوم، يُطرَح علينا السُّؤال:كيف نتصرَّف إذا عَلِمنا أنَّ ساعة انتقالِنا من هذا العالم قد أصبحت قريبةً جدًّا؟ إنَّ الماضي مهمٌّ جدًّا في حياتنا. فالإيمان ليس وليد السّاعة، ولا الحياة الروحيّة للمؤمِن، ولا التَّوبة ولا الغفران. فكما أنَّ الإنسان لا يصل إلى أعلى المراتب في الدِّراسة والشَّهادات الجامعيّة، إلّا بعد أنْ يتدَّرج في مراحل علميّة متعدِّدة، كذلك لا يستطيع المؤمِن الوصول إلى قمّة الإيمان وقمّة الحياة الروحيّة مع الربِّ إلَّا من خلال مروره بِعِدّة امتحانات وتجارب تشدِّده وتمنحه القوَّة وتدفعه إلى اختبار الله. للأسف، إنَّ بعض المؤمِنِين يعيشون حالة انفصام في حياتهم، إذ يسعون إلى تحقيق ما فشلوا في إنجازه في حياتهم الخاصّة من خلال أبنائهم. إنَّ المؤمِنِين يسعون إلى دَفع أبنائهم إلى التفوُّق في العِلم، ولكن هذا لا يعطيهم الحقّ لِدَفعهم إلى تحقيق أحلام والِدِيهم غير المحقَّقة بسبب عدم توافر الموارد الماليّة، في صِغرهم عند أهاليهم أو لأسبابٍ أخرى. إنَّ تَفوُّق أبنائنا في الدِّراسة لا يشير أبدًا إلى نجاحهم في علاقتهم بالربّ، فإنَّ الكثيرين من أبنائنا فاشلون على هذا المستوى بدليل عدم التزامهم في الكنيسة، وعدم التزامهم بالجماعات الرَّسوليّة كالطَّلائع والفرسان وما إلى هنالك من جماعاتٍ روحيّة.

لم يعد الاضطهاد في أيّامِنا مُرتكِزًا على الشَّهادة الدَّمويّة، ولكنَّه اتَّخذ أشكالاً متعدِّدة منها: اضطهادٌ اقتصاديٌّ وكذلك اجتماعيٌّ. إنّ مجتمعنا اليوم لا يسمع صوت دَويّ القذائف، بسبب انعدام الحروب الخارجيّة الظّاهرة، ففي بعض الأماكن من العالم هناك حروب اقتصاديَّة. إنَّ أشرس حربٍ يعاني منها مجتمعنا هي حرب وسائل التَّواصل الاجتماعيّ، لأنّها حربٌ صامتةٌ مدّمرة لشبيبتنا بِنَوعٍ خاصّ، إذ تُمرِّر لهم في البداية أمورًا صالحة لِتَشُّدهم إليها، ولكنّها فيما بعد تشجِّعهم على أمور غير منسجمة مع تعاليم الربِّ يسوع المسيح. إنَّ شبيبتنا وأطفالنا، وبخاصّة غير الملتزمين بجماعاتٍ كنسيّة، قد يواجهون صعوبة في التَّمييز في الأمور الّتي تقدِّمها لهم وسائل التواصل الاجتماعيّ، بين ما هو منسجمٌ مع تعاليم الربّ وما هو غير منسجمٍ معها، بسبب عدم التزامهم الكنسيّ وخبرتهم المتواضعة في الحياة. وهنا يكمن الخطر على أطفالنا وشبابنا، إذ تشكِّل وسائل التواصل الاجتماعيّ أحد أحدث أنواع الاضطهاد الجديد في عالمِنا. إنّ إحدى وسائل مواجهة هذا النَّوع الجديد من الاضطهاد هو الشَهادة البيضاء: إذ على المؤمِن أن يسعى إلى أن يكون شاهدًا في حياته على تعاليم الربِّ من خلال سلوكيّاته في المجتمع مع الآخَرين. فالإيمان إخوتي، لا يُعبَّر عنه فقط على المستوى الفرديّ بل يُعبَّر عنه ضِمن مجموعات بشريّة كالعائلة، فالعائلة المؤمِنة تُصبح علامةً مضيئة وشهادة حيّة في قلب المجتمع، نتيجة عيشها لإيمانها بالربِّ يسوع. من خلال هذا النَّص الإنجيليّ، يريد الربُّ أن يقول لنا إنّ أنواع الاضطهادت ستختلف عبر العصور ولكنَّها ستبقى مستمِّرة، لذا علينا نحن المؤمِنِين المحافظة على ذواتنا وعلى عائلاتنا من التَّعاليم المخالفة لتعاليم الربِّ يسوع.
في الختام، أجدِّد معايدتي لجماعة "أذكرني في ملكوتك"، بأعضائها المتواجِدين في هذه الرعيّة، وللجماعة ككلّ في لبنان وفي العالم كلِّه. في هذه المناسبة السَّعيدة، نسأل الله أن يمنحنا النِّعمة لنكون مستعدِّين للقائه الأبديّ، وأن يمنحنا الجرأة الّتي تَمتَّع بها لصِّ اليمين، فنبني علاقة روحيّة مميَّزة مع الربِّ يسوع، فلا نتردَّد في طلبِنا: "أُذكرنا يا ربّ متى أتيتَ في ملكوتك".

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
4/7/2019 الرَّاحة الأبديّة هي دَعوةٌ مِن الله الأب مخايل عوض

عظة الأب مخايل عوض
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى الرابعة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
في كنيسة مار الياس الحيّ- عين الصفصاف

4/7/2019

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
المجد لله، دائمًا لله.
إخوتي، لِيبارككم الله وليُقدِّسكم، في هذا الزّمن المبارك. إنَّ كلّ لحظةٍ في حياة الكنيسة هي لحظةٌ مباركة ومقدَّسة، فلو لم تكن لحظات الكنيسة مباركة، لما كانت الكنيسة موجودة. إنّ بركة الكنيسة تنبع من حضور المسيح فيها. فليزِدكم الربّ نِعمًا وبركات وقداسة وإيمان ورجاء ومحبَّة وعبادة وبشارة.

إنّ هذا الإنجيل الّذي تُلِي على مسامِعنا، في عيد قلب يسوع الّذي نحتفل به اليوم، هو إنجيل يوم الخميس الرَّابع مِن زمن العنصرة، أي إنجيل اليوم. في هذا النَّص، يقول لنا الربُّ يسوع: "تعالَوا إليَّ يا جَميعَ المتعَبين والرَّازحين تحت أثقالِكم وأنا أريحكم."(متى 11: 28)، وقد دَفعنا هذا الكلام إلى التَّفكير معًا في موضوع الرَّاحة الأبديّة، في هذه الذبيحة الإلهيّة الّتي نصلِّي فيها لموتانا.
إنّ الرَّاحة الأبديّة هي دَعوةٌ مِن الله لكلِّ إنسان: فطالما أنَّ الإنسان يعيش بعيدًا عن الله، طالما أنّه يشعر بالتَّعب ولن يصل إلى الرَّاحة الّتي يُنشِدها. فيا أيّها الإنسان الّذي خَرجْتَ مِن صُلبِ الله، وتَركْتَهُ مُفَضِّلاً العيش بعيدًا عنه، ها هو الربُّ يدعوك اليوم، كما في كلّ لحظةٍ مِن حياتك للعَودة إليه، فإنّ ابتعادك عن الله يُعبِّر عن تَبَنِّيك للتَّعب في حياتك، ولذا ستَشعر بأنَّ أحمالك وأثقالك قد زادَ حِملُها عليك، لأنَّك وَضَعت الله جانبًا. يقول الربُّ لنا: "إحمِلوا نيري، وتعلَّموا منِّي تَجِدُوا الرَّاحة لنفوسِكم" (متّى 11: 29)، "نِيري هَيِّنٌ وحِملي خَفيفٌ"(متى 11: 30)، أي أنَّنا إذا سَلَّمْنا أتعابنا وأحمالَنا للربِّ يسوع، فَلَن نعود نشعر بعد بثِقلها، لأنَّ الربَّ سيَحمِلَها عنَّا. وبالتَّالي، إذا ابتعدنا عن الله وتَركناه، فَلن يكون هناك مَن يشارِكنا أحمالَنا كما يفعل الربُّ يسوع، وسنشعر بالتَّعب، إذ إنّنا لن نتمكَّن من حَملِها وَحدنا، وسَنَرزَح تحت أثقالها، وستُدِّمرنا إذ إنّنا سنشعر بعدم قُدرَتنا على الوقوف مِن جديد. إنَّ الربَّ يسوع يقول لنا إنَّه إذا قرَّرنا الابتعاد عنه، رافِضين وجوده في حياتنا، فَسنَرزح تحت عبء الخطيئة التّي ستُدمِّرنا، إذ إنّها ستُوهِمنا بقُدرِتنا على الاكتفاء بذواتنا من دون حاجَتنا إلى الله، فنغرق في أنانيّتنا وكبريائنا، ما يُشعِرنا بالتَّعب. لذا يدعونا الربُّ اليوم من خلال هذا الإنجيل إلى اللُّجوء إليه، والسَّماح له بمشارَكتنا أحمالِنا، لأنّه هو الوَحيد القادِر على إعطائنا الرَّاحة الدَّاخليّة.

إنَّ المال، بالنِّسبة للكثيرين، هو وسيلةٌ للرَّاحة الدَّاخليّة في حين أنَّه في الحقيقة مَصدَر لَوجع الضَّمير وللقلق وفقدان الرّاحة عند الإنسان. إنَّ الإنسان سيتعرَّض لوَجع الضَّمير حين يُمسِك يَدَه عن أخيه المحتاج إلى مالِه، وسَيَشعر بالقلق والخوف من السَّرقة نتيجة توافر المالِ مَعه؛ وبالتّالي، يتحوَّل المال إلى سببٍ لِلهَمِّ والغَمّ عند الإنسان. إنّ المال هو سببٌ للَهمّ والغَم لا عند الإنسان الغنيّ وحسب، بل عند الإنسان الفقير أيضًا: فالفقير الَّذي يعيش حياته في حَسرةٍ مُتَمنيًّا أن يُصبح غنيًا هو إنسانٌ لا يعرف الرَّاحة الدَّاخليّة، لأنّه لا يعيش بحسب الصّلاة الرَّبيّة التّي نطلب فيها من الربِّ: "خُبزَنا الجوهريّ أَعْطِنا اليوم"، فأمثال هذا الفقير يَشعرُون بعدم اكتفائهم بالله وهذا ما يُسبِّب لهم التَّعب وعدم الرَّاحة. إنَّ الإنسان الـمُكتفي بالله، يسعى إلى شُكرِ الله على كُلِّ نِعَمِه، أمّا الإنسان الفقير غير المكتفي بالله فَهو يماثِل الإنسان الغنيّ، في اكتفائه بذاتِه. إنَّ الإنسان الفقير المحتاج هو إنسانٌ، على الرُّغم مِن عَوَزِه للمال، يشعر بالرَّاحة والفرح لأنَّ الربَّ يملأ حياته. إنَّ الإنسان الغنيّ يشعر أيضًا بالفرح والرَّاحة الدَّاخليّة، على الرُّغم مِن توافر المال معه، إنْ كان ممتلئًا مِن الله. وهنا يُطرَح السّؤال: أين هي تلك الرَّاحة الّتي يمنحها المال للإنسان؟ إنَّ الرَّاحة تأتي عندما يُساعد الإنسان الميسور ماديًّا، أخاه المحتاج، مِن مالِه الّذي هو ثمرة تَعبِه وعَرَقُ جبينه، لا ثمرة ميراثٍ لم يتعب في الحصول عليه. إنّ المال الّذي يحصل عليه الإنسان نتيجة ميراثٍ، يُبذِّره الإنسان سريعًا لأنَّه لا يعرف قيمته إذ إنَّه نالَه من دون تعبٍ. إذًا، على الإنسان أن يساعد الآخَرين من خلال الخيرات الَّتي يَمنحه إيَّاها الله. إليكم مِثالٌ من واقع لحياة: جاءَني في أحد الأيّام شابٌّ، قائلاً لي: أبتِ، أنا لا أشعر بالفرح الدَّاخليّ، على الرُّغم من أنَّ الله قد أفاضَ عليّ مالاً كثيرًا. عندها طَرحت عليه بعض الأسئلة: هل جميع أفراد عائلتك بصحَّة جيِّدة؟ فكان جوابه إيجابيًّا. فطرحت عليه سؤالاً آخر: هل أنت ملتزم بإيمانك بالربّ؟ فكان جوابه إيجابيّا. عندها قُلتُ له: يُنقُصُكَ أمرٌ واحدٌ كي تشعر بالفرح الدَّاخلي، وهو أن تساعد الآخَرين المحتاجين بالخيرات الماليّة والماديّة الّتي أفاضها الربُّ عليك. فانصرف من عندي هذا الشَّاب، مفكِّرًا في ما قُلته له، في سبيل تحقيق الرَّاحة الدَّاخليّة الّتي يُنشِدُها. إنّ العطاء هو مغبوطٌ أكثر من الأخذ. إنَّ الإنسان السلبيّ في الحياة، هو الإنسان الكثير التطلُّب للأمور الأرضيّة، وهو يُشبه الدَّلو المثقوب، إذ لا يستطيع هذا الدَّلو المحافظة على الماء الموضوع فيه، بل يتسرَّب منه. كذلك الإنسان السلبيّ لا يستطيع المحافظة على الخيرات الّتي ينالها مِن الربِّ، بل يرميها خارجًا من دون أن يستفيد منها أحدٌ. أمّا الإنسان الإيجابيّ فَهو إنسانٌ مُحبٌّ غير أنانيّ، إذ يستقبل الإيجابيّة مِن الله، أي الخيرات من الله، ويشارك الآخَرين بها، فيمتلئ هو والآخَرون حُبًّا وفَرَحًا مِن الله، وينالون حياةً جديدة من الله، مبنيّة على العطاء. إذًا، إنّ الأنانيّة والأخِذ لا يمكنهما أن يمنحا الإنسان الرَّاحة، بل ينال الإنسان الرَّاحة الدَّاخليّة، حين يسعى إلى إفراح الآخَرين من خلال عطاءاته لهم.

إنَّ الله قد دعانا مِن العَدَم، إذ قال الله لكلِّ واحدٍ منّا إنّه قد اختارَه منذ البدء، ودعاه في هذا الزَّمن إلى الوجود على الأرض، ليكون إنسانًا، في المحيط الّذي اختاره الله له، ليعيش فيه القداسة. إنّ الله لا يتوقَّف عن دَعوَتنا إلى العودة إليه باستمرار وعدم الابتعاد عنه، وعدم نكرانه، وعدم التَّجديف على اسمه القدُّوس. إنّ الله يَدعونا في كلِّ لحظةٍ من حياتنا إلى العودة إليه قائلاً لنا: تَعالَوا إليَّ يا مَن خَلَقتُهم، تعالَوا إليّ أيّها المتعَبونَ مِن هذه الحياة، تَعالَوا إلى مَن مَنحَكم الحياة. إنّ الإنسان لا يستطيع أن ينال الرَّاحة إلّا إذا أبقى نَظَره مُصَوَّبًا نحو الربّ. وهنا يُطرَح السّؤال: هل ينتهي نداء الربِّ للإنسان بعد ممات هذا الأخير؟ في الحقيقة، لا ينتهي نداءُ الربِّ للإنسان، إذ حتّى بَعد الموت الجسديّ، يدعو الربُّ الإنسان إلى الحياة الأبديّة. إنَّ الإنسان الَّذي يقبل بدَعوة الله له للعيش معه في هذه الحياة، لا بُدَّ له مِن أن ينال الحياة الأبديّة بعد موتِه الجسديّ، فالإنسان على هذه الأرض يختار إمّا حياة القداسة باتِّباعه الربَّ في حياته الأرضية، وإمّا العيش في جهنَّم بعد الموت، مِن خلال رَفضِه للربِّ في حياته. إنَّ حياة القداسة تبدأ على هذه الأرض، حين يسعى الإنسان إلى تلبية نداءات الله له، في هذه الأرض، على الرُّغم من كلِّ العراقيل والعوائق الّتي قَد تواجهه في هذه الحياة في سبيل مَنعِه من تحقيق مشيئة الله في حياته. يستطيع الإنسان أن يتخطَّى كلّ الحواجز الّتي تُعيق مسيرته نحو الآب، من خلال نِعمة الله، الّتي تمنحه الثّبات في إيمانه بالربّ، فيتمكَّن من الانتقال إلى الحياة الأبديّة مع الربّ بعد انتقالِه الجسديّ. إنَّ الحياة الأبدية الَّتي يدعونا إليها الربُّ هي التعمُّق في معرفة الله، أكثر فأكثر.

نحن نصلِّي لأمواتنا قائلين: "الرّاحة الدَّائمة أعطِهم يا ربّ، ونورُك الأزليّ فليُضئ لهم". إنَّ أمواتنا ينالون الرَّاحة الأبديّة، عندما يتمكَّنون بفَضلِ صلواتنا لهم من رؤية الله وَجهًا لوَجهٍ، في السّماء. في هذه الأرض، يعجز الإنسان عن رؤية الله وجهًا لوَجهٍ، أمَّا في الحياة الأبديّة، فالله سيمنحنا القدرة على احتمال نور الله. عندما يُعاين أمواتنا نور الله في السّماء، سيتمكَّنون من التعمُّق أكثر في معرفة الله واكتشافِه، يومًا بعد يومٍ، وسنةً بعد سنةٍ، وأَبديّة لا نهاية لها، فالربُّ يريد أَن يعطينا الحياة الأبديّة، لذا قال لنا: "الحياة الأبديّة هي أن يَعرفوك أنتَ الإله الحقّ وَحَدَكَ، وأن يَعرفوا يَسوعَ الـمَسيح الّذي أَرسَلتَه"(يو17: 3). إذًا، الحياة الأبديّة هي معرِفة الله، وهنا يُطرح السُّؤال: كيف يستطيع الإنسان أن يتعرَّف على الله، إنْ كان بعيدًا عنه، أي في جهنمّ؟ في هذا الصدَّد، يقول لنا بولس الرَّسول: "فالّذين يسلكون سبيل الجسد، يهتمُّون بأمور الجسد، والّذين يسلكون سبيل الرُّوح، يهتمُّون بأمور الرُّوح. والاهتمام بالجَسَد موتٌ، وأمَّا الاهتمام بالرُّوح فَحَياةٌ وسَلامٌ. لذلك يدعونا بولس الرَّسول إلى الثَّبات في إيماننا، وفي الرَّجاء وفي المحبَّة، كي لا نقع في تجارب الشِّرير.
إخوتي الأحبّاء، في هذا المساء، نصلِّي إلى الله من أجل أمواتنا طالبين منه أن يُضيء بنور وجهه عليهم وأن يمنحهم الحياة الأبديّة. إنّ صلاتنا لأمواتنا: "الرَّاحة الأبديّة أعطِهم يا ربّ، ونورُك الأزليّ فليُضئ لهم"، تُعبِّر عن عمقٍ في اللّاهوت المسيحيّ. فَمِن خلال هذه الصّلاة، نكتشف أن الرَّاحة الأبديّة والنُّور الأزليّ مرتبطَان بعضهما ببعض.

في الختام، أطلب من الله أن يبارككم إخوتي، طالبًا منه أن يثمر فيكم إيمانكم به محبَّةً ورجاء وعبادة وبشارة، بنعمة الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
6/6/2019 أذكرنا يا ربّ في ملكوتك الأب أنطوان خليل

عظة الأب أنطوان خليل
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
في دير مار يوسف- المتين

6/6/2019

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

إخوتي وأخواتي،
نحن في زمن القيامة. وبعد خميس الصُّعود، ننتظر عيد العنصرة في الأحد الـمقبل. ها نحن نجتمع اليوم، مع جماعة "أذكرني في ملكوتك"، لِنَذكر أمواتنا لا فقط الّذين دوَّنَّا أسماءهم في السجلّ الخاصّ بهذه الجماعة، إنَّما لِنَذكُر أيضًا جميع أمواتنا الّذين جَمعَتْنا بهم علاقة محبّة وتضحيّة متبادلة. كما نذكر في هذا القدَّاس الشَّهريّ لجماعة "أذكرني في ملكوتك"، جميع الموتى المؤمِنِين في الكنيسة جمعاء، أَكُنَّا نعرِفهم أم لا نعرفهم. تعيش الكنيسة في شراكة دائمةٍ فيما بينها، إذ يلتقي المؤمِنون المجاهِدون في هذه الأرض، بإخوتهم المنتقِلين من هذا العالم، من خلال شركة الصّلاة. وفي لقائنا بأمواتنا في الصّلاة، نتذكَّر أنّه ما مِن أحدٍ خالدٍ في هذا العالم، فكلّ الأشياء في هذه الحياة، وحتّى الإنسان نفسه، ذاهبةٌ نحو الزّوال. ولكنْ عندما نذكر أحبّاءنا المنتَقِلين من هذا العالم بأسمائهم، فإنّنا نجعلهم حاضِرين في وِجداننا، هم الموجودون في سِفر الله، إذ نؤمِن بقيامة الموتى.

إنَّ النبيّ إشعيا، الّذي وَرَد اسمه في الإنحيل الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، هو بالنِّسبة للكثير من المؤمِنِين، الإنجيليّ الخامس، إذ تمحورت نبوءاته حول المسيح وتجسُّدِه في أرضِنا. إخوتي، فلنسأل الربَّ من خلال صلاتنا لأمواتنا، أن يهبنا النِّعمة والحكمة، في عيد العنصرة، من خلال حلول روحه القدس علينا في العنصرة، كي نُدرِك أنّنا زائلون. إنّ الربّ يسير معنا في هذه الأرض، كما سار مع تِلميذَي عمّاوس، لذا نحن مدعوُّون كي نراه في كلِّ كبيرٍ وصغير نلتقيه في حياتنا، فنشهد أمامهم لحضور الربِّ في حياتنا. إنّ إخوتنا الّذين سبقونا وانتقلوا إلى بيت الآب، قد تركوا لنا إرثًا مهمًّا جدًّا، وهو الإيمان بالربّ يسوع، والاتِّكال على نِعمته في حياتنا، والعيش في خوف الله. ليس المقصود بعبارة "الخوف من الله"، العيش في حالةٍ من الفزع من التقرُّب من الله، بل تعني العيش وِفقًا لمشيئته في حياتنا. كلّما تَطَوّر العالم من حولنا وتقدَّمَ، كلَّما ازدادت صعوبة عيشِنا وَفق مشيئة الله، وازدادت صعوبة التَّعامل مع إخوتنا البشر. في تعامُلِه مع إخوته البشر، على الإنسان أن يتمتَّع بنعمة التَّمييز فيُدرك مَن الّذي يدفعه إلى فِعل الخير ومَن الّذي يدفعه إلى فِعل الشَّر. إنّ الصُّعوبات الّتي تعترِض حياتنا، تدفعنا في بعض الأحيان، لا إلى الشَّك فقط في الآخَرين إنّما أيضًا إلى الشَّك في ذواتنا. عندما نَذكر أمواتنا في صلاتنا، فإنّنا نستحضِرهم في ذاكِرَتنا، فنتذكَّر كلماتهم، ومواقفهم، وتعاليمهم ورعايتهم لنا، فنتعلَّم منهم بساطة عيش الإيمان المبنيّ على الاتِّكال على بركة الله، ومحبّة الآخَرين والتَّضامن مع الآخَرين في مِحَنِهم. فلنَسعَ إخوتي، إلى استثمار هذا الميراث: ميراث إيمان أجدادنا، ساعِين إلى العمل على نموِّه فينا، ونَقلِه إلى أبنائنا.
إنَّ لقاءنا الشَّهري مع جماعة "أذكرني في ملكوتك"، هو لقاءٌ مثمر، إذ نعيش الشراكة مع أمواتنا في الصّلاة، فنتعلَّم منها أنّ الخلود هو لله فقط، مردِّدين عبارة زمن الدِّنح، قائلِين: "الدَّائم دائم". إنَّ الربَّ يسوع هو الوحيد الدّائم في هذه الحياة وفي الحياة الثانية، وهو الوحيد الّذي سيبقى معنا على الدّوام، فكلّ ما سِواه في هذه الأرض هو حُطام زائل، لا نفع فيه. ونحن السّائرون على دروب هذه الحياة نأمل أن تكون مسيرتنا الأرضيّة لما فيه نموُّنا الروحيّ في الحكمة والنِّعمة، أمام الله وأمام النّاس، فنتمكَّن من التعرُّف إلى الربِّ في طرقات حياتنا على الرُّغم من الصُّعوبات الّتي تواجهنا فيها.
إخوتي، سنحتفل الأحد الـمُقبل سنحتفل بعيد العنصرة، لذا فلنطلب من الربِّ في هذه المناسبة أنْ يَهبنا الحكمة والنّعِمة لكي نتمكَّن من رؤيته، هو الإله المتجسِّد والمتواضع والنَّقي في وجوه إخوتنا الّذين نلتقيهم على دُروب حياتنا. وعندما نتمكَّن من رؤية الربِّ المتجسِّد من أجلنا، في إخوتنا البشر، سنتمكّن مِن محبّتهم والثِّقة بهم، بفِعل نعمة حلول الرُّوح القدس علينا، على الرُّغم من صعوبات الحياة الّتي تدفعنا في الكثير من الأحيان إلى فقدان الثِّقة بالآخَرين. نحن مدعوُّون إلى المثابرة في محبّة إخوتنا والثِّقة بهم، لا فقط إخوتنا الّذين انتقلوا من بيننا، إنّما بالأكثر إخوتنا الّذين لا يزالون أحياء في هذه الأرض، فنسارع إلى مساعدتهم ومساندتهم في صعوباتهم، فنتعرَّف من خلالهم أيضًا على الربّ يسوع.

إنَّ جماعة "أذكرني في ملكوتك"، تُصلِّي لله قائلةً: "أُذكرنا يا ربّ مَتى أتينا في ملكوتك"، لأنّنا جميعنا خطأة، وبحاجةٍ إلى مغفرتك لذنوبنا في هذه الأرض. كما تُصلِّي هذه الجماعة من أجل أمواتنا، كي يرحمهم الربُّ ويذكرهم في ملكوته السماويّ. نسأل الله أن يمنحنا النِّعمة فنتعلَّم مِنَ الّذين سبقونا إلى الملكوت، طريقة عيشهم للخدمة والإيمان والمحبّة، إذ ما مِن شيءٍ باقٍ في هذه الأرض؛ ونتذكَّر من خلال مرافقتِنا لإخوتنا الأحياء في هذه الأرض، أنّ الربّ يسير معنا في هذه الحياة من خلالهم، ليقودنا إلى الحياة الأبديّة، فإيماننا بالقيامة لا يظهر للعَلن إلّا من خلال أعمالنا وتصرُّفاتنا، مع الآخَرين.
المسيح قام، حقًّا قام.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
6/6/2019 جماعةٌ مختارةٌ من الله الخوري جوزف سلوم

عظة الخوري جوزف سلوم
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
في الذكرى السنويّة الثالثة عشرة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"
في كنيسة مار فوقا- غادير

6/6/2019

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

إخوتي الأحبّاء،
نحتفل اليوم معًا، في الذِّكرى السَنويّة الثّالثة عشرة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"، تحت نَظَرِ الربّ الـمُعَلَّق على الصّليب. إنَّ جماعة "أذكرني في ملكوتك"، ترمز إلى الجماعة المسيحيّة، الواقفة عند أقدام الصَّليب، طالبةً من الربِّ على مِثال لصّ اليمين، أن يذكرها حين يأتي في ملكوته.

لا بُدَّ لنا في الذكرى الثّالثة عشرة لتأسيس جماعة "أذكرني في ملكوتك"، من العودة إلى بدايات نشأة هذه الجماعة.
إنَّ جماعة "أذكرني في ملكوتك" هي جماعةٌ مختارةٌ من الله. لقد دعا الربُّ مؤمِنِين إلى تلبية رغبة قلبه، فزرع كلمته في قلوبهم، فأصغوا إليها ولبّوها، فكانت انطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"، رسالة الرَّجاء والتعزية في كنيستنا ومجتمعنا. إنَّ جماعة "أذكرني في ملكوتك"، هي جماعةٌ مختارةٌ من الله، أي أنَّ الله قد دعاها لرسالة محدَّدة، ولذا هو ينتظر جوابها على ندائه لها، فكان الجواب على ثلاثة مستويات: أوّلاً، مِن قِبَل الّذين سَمعوا صوت الربّ، وقد لبّى هؤلاء نداء الربِّ لهم إذ انطلقوا في تأسيس هذه الجماعة، وتكرَّسوا لخدمة الصّلاة من أجل الرّاقدين. ثانيًا، على مستوى الكنيسة، فأعطت الكنيسة بركَتها لهذه الجماعة. ثالثًا: على المستوى الفرديّ، إذ على كلِّ مؤمِن أن يُعطي جوابه الخاصّ على هذه الجماعة، فيُعبِّر عن تجاوبه مع هذه الدَّعوة الإلهيّة للكنيسة بقوله "نعم"، لرسالة هذه الجماعة معتمدًا نهجها ورسالتها في مسيرته الإيمانيّة.

إنَّ جماعة "أُذكرني في ملكوتك"، هي جماعةُ رجاء، في قلب عالمٍ مليءٍ بعلامات الموت واليأس والإحباط، وخاصّة عندما يقرع جرحُ الموت، باب عائلاتنا وبيوتنا. وهُنا نكتشف أهميّة هذه الجماعة الّتي تُذَكِّرنا بحقيقة إيمانيّة أساسيّة، وهي إيماننا بقيامة الموتى.
إنَّ جماعة "أذكرني في ملكوتك"، هي جماعة "مُخلَّصين"، إذ يُدرِك كلّ فردٍ من أفراد هذه الجماعة تعاليم الربِّ يسوع وتعاليم كنيسته المقدَّسة، فيَعي أنَّه مخلَّصٌ بواسطة يسوع المسيح، ولذا يجد نفسه مدعوًّا الاجتهاد في السَّير وَفقَ مشيئة الله في حياته اليوميّة، تعبيرًا على قبوله الخلاص. وهنا يُطرَح السؤال: ما نفعُ كلّ ما يقوم به المؤمِن مِن أعمال رحمة وصلوات، إن لم يكن على يقين بأنَّه سينال الخلاص؟ إخوتي، على كلِّ مؤمِنٍ أن يسعى أوّلاً إلى تحقيق خلاصِه، قَبل حثِّ الآخَرين على القبول بخلاص الآخَرين. إذًا، إنَّ جماعة "أذكرني في ملكوتك"، هي "جماعة رجاء"، ثمّ "جماعة مخلَّصين"، وبالتّالي يُدرِك كلُّ مؤمِنٍ ينتمي إلى هذه الجماعة سرّ الفداء الّذي قام به الربّ من أجل خلاص البشر، أي موت الربّ وقيامته الّتي أفاضَ الربُّ من خلالها على المؤمِنِين فيض مراحمه، فجعلَهم أهلاً للخلاص.
إنّ جماعة "أذكرني في ملكوتك"، هي جماعة شراكة. إنَّ الشراكة لا تكون فقط على مستوى الأفراد إذ يعيشون كعائلةٍ واحدة، أو على مستوى انتشار الجماعة في كافة أقطار المسكونة، بل تكون شراكة الجماعة الحقيقيّة مع الربّ من خلال ذِكر أفرادها للموتى المؤمِنِين في صلاتهم. إنَّ سرّ الشراكة مع موتانا لا ينتهي، حتَّى بعد مرور زمنٍ طويلٍ على انتقال أحبَّائنا مِن هذه الأرض. إنَّ شراكتنا مع أمواتنا لا تستند على العاطفة الّتي نكنّها لهم، ولا على واجباتنا تجاههم، بل تستند على رابط الحبّ الّذي يجمعنا بهم. إنَّ هذه الشراكة لا نحياها فقط مع موتانا، بل نحياها أيضًا مع الربّ، ومع إخوتنا الأحياء في هذا العالم، وبخاصّة الفقراء منهم، أي اللِّعازَرِيين. وهنا لا أقصد الجماعة الرُّهبانيّة، إنّما أقصد كلّ "لِعازر" في هذا العالم، لِعازر الّذي أخبرنا عنه إنجيل لوقا (لو16: 19-31)، إذ قال فيه إنّه كان مَرمِيًا على باب الغنيّ. إنَّنا ننال كلَّ مفهوم الخلاص، من خلال كلّ "لِعازر" جالسٍ على باب بيتنا، حين نسعى إلى مساعَدته. فنَحنُ، إذًا، في شراكة مع كلِّ فقيرٍ، وكلّ متألِّم، مع كلّ "لعازر".

إنّ رسالة هذه الجماعة هي "رسالة شفاء وتعزية". إنّها رسالة شفاءٍ، إذ ننال الشِّفاء من أحزاننا بفعل الرُّوح القدس، الّذي يتكلَّم فينا، ويلمس قلوبنا ويشفيها من أحزانها. إنّ غياب أحبّائنا، يُسبِّب لنا حزنًا كبيرًا ويتآكَلنا مِن الدَّاخِل. من خلال كلمته المقدَّسة ومن خلال روحه القدُّوس، يمنح الربُّ شفاءً لقلوبنا، كما يشفي ذاكِرَتنا ويمنحنا التَّعزية. إنّ مَصدر هذه التَّعزيات الروحيّة هو الله، لا البشر. إخوتي، إنّ قيمة الإنسان المتوفّي لا تُقاس بعدد الكهنة الموجودين، ولا بتحضيرات الدَّفن بل تُقاس بصلاتنا له وبأعمال الرَّحمة الّتي نقوم بها تجاه الفقراء طالبين من الربِّ بواسطتها الرَّحمة لأمواتنا. هذه هي التَّعزية الحقيقيّة لقلوبنا، وهذه هي "القيمة المضافة" لأمواتنا. إنَّ صلاتنا لأمواتنا وأعمال الرَّحمة الّتي نقوم بها، تُعزِّر الرَّجاء في قلوبنا، وتساعدنا على مواجهة كلِّ علامات الموت في حياتنا، وبخاصّةٍ عند موت أحد أحبّائنا. إنَّ إعطاءنا القيمة للإنسان المتوفِّي لا تكون في يوم دَفنه، إنّما في حياته الأرضيّة في وَسَطنا، أي عند زيارتنا له خلال فترة مرضِه والاهتمام به. على المؤمِن لا الاهتمام بما يقوله النّاس عنه، إنَّما بما سيقوله الربُّ عنه في يوم الدَّينونة. لذا إخوتي، فلنسعَ إلى مساعدة العائلات المستورة، عِوَضَ تبذير المال في يوم دَفن المنتقل من بيننا، على أمورٍ لا نفع له منها. فلنسعَ إلى عيش الرَّجاء المسيحيّ والتَّعزية المسيحيّة في غياب أحبّائنا.
نصلِّي اليوم من أجل هذه الجماعة، ومن أجل موتانا: نصلِّي من أجل هذه الجماعة حتّى تنمو بالرُّوح، فتكون مصدر إشعاعٍ للآخَرين، وتُحقِّق رسالتها في عالمنا المليء بعلامات الموت. ونصلِّي أيضًا من أجلنا، كي نتذكّر كلّ أمواتنا الأحبّاء، فنعيش في راحة وسلام وقداسة في شراكةٍ مع الأبرار والقدِّيسين، آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
2/6/2019 رسالة إيمان ورجاء الأب نايف الزيناتي

عظة الأب نايف الزيناتي
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى الحادية عشر لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
في كنيسة مار يوسف- المطيلب

2/6/2019

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

ها نحن اليوم مجتمعِون للاحتفال بالذكرى الحادية عشر لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"، في هذه الرعيّة المباركة.
إنّ رسالة جماعة "أذكرني في ملكوتك" هي أن تكون علامة رجاء في هذه الرعيّة. لا يمكننا الكلام عن الرَّجاء في أيّام الفرح والبحبوحة، إنّما في أوقات الحزن والشِّدة، فالرَّجاء يقوم على وقوف الإنسان جنبًا إلى جنب مع أخيه الإنسان لا على المستوى الماديّ أو المستوى الكلاميّ، إنّما على المستوى الإيمانيّ، أي بالصّلاة من أجل تَثبيت الآخَرين في الإيمان. تُذَكِّرنا هذه الجماعة بأنَّ إيماننا بالربّ هو ثابتٌ وحقيقيّ. عند انتقال أحد أحبّائنا بالموت، يكون الإنسان عاجزًا عن رؤية الأمور على حقيقتها إذ يُغشَّى على عَيْنَيه بسبب تلك الصُّعوبة الّتي اعترَضَته. إنَّ دَور هذه الجماعة يقوم على تذكيرِنا بضرورة الصّلاة لتَجاوزِ هذه الأزمة، وبوجود الربِّ في حياتنا على الرُّغم مِن صعوباتنا الّتي نواجهها. عند وفاة حبيبٍ أو عزيزٍ، يعتقد بعضُ المؤمِنِين أنَّ الربَّ يسوع قد تَرَكهم إذ انتزع منهم أحبّاءهم، إذ أخذَهم إليه، وهذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا، لأنَّ الله يُحبُّنا ولا يرغب في رؤيتنا حزانى. إذًا، إنَّ دَور جماعة "أذكرني في ملكوتك"، يقوم على دَعوَتنا للثّبات في الرَّجاء الحقيقيّ، عبر تذكيرِنا بأنَّ الربَّ يسوع المسيح الّذي "هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد"، سيبقى صَخرتَنا الحقيقيّة الّتي عليها نستطيع الاستناد لا في أوقات الحُزن فقط، إنَّما في كلِّ أوقات حياتنا.

إنَّ الربَّ يسوع قد أوصانا بالمحبَّة، وهذه المحبّة لا نعيشها مع إخوتنا بعد انتقالهم من هذا العالم، أي بعد موتِهم، إنَّما علينا عَيْشُها وممارستها مع إخوتنا، وهُم على قَيد الحياة. وهنا يُطرَح السُّؤال: كيف باستطاعَتنا محبّة مَن أساء إلينا ومسامَحته؟ يظهر الرَّجاء المسيحيّ الحقيقيّ والإيمان والثِّقة بالربّ، لا عند موت أحبّائنا، إنّما عند مسامَحَتنا لهم. إذًا، نحن مدعوُّون كي نتذكَّر على الدَّوام وصيّة الربِّ الّتي تدعونا إلى محبّة بعضنا البعض، لا إلى القيام بأعمال عظيمة: عندما نفكِّر بعظمة محبّة الله لنا على الرُّغم من خطايانا، سنجد سهولةً في محبّة الآخَرين وبخاصّة الّذين أساؤوا إلينا. وهنا نُصبح علامة الرَّجاء للآخَرين من خلال محبّتنا للربِّ يسوع، وبمحبّتنا لبعضنا البعض. على المؤمِن أن يُحِبّ إخوته البشر في حياتهم الأرضيّة، كما في مماتهم، فيصلِّي لهم، مُعبِّرًا لله عن محبَّته لإخوتِه. إنَّ فكرَ الله مُخالِفٌ لفِكرنا البشريّ: ففِكرنا

البشريّ مَبنيّ على "الواسطة"، أمّا فكِر الله فَمَبنيّ على الثِّقة والوفاء: فالله وَفِيٌ لنا وواثقٌ بنا، وهذا ما يدعونا إلى محبّته والوفاء له، من خلال صلاتنا لأمواتنا تعبيرًا عن محبّتنا له.
فلنُصلِّ إخوتي في هذا الصّباح المبارك، من أجل جماعة "أذكرني في ملكوتك"، كي تبقى علامة الرَّجاء في حياتِنا، فنتذكَّر على الدّوام أنَّ إيماننا مبنيٌّ على الصَّخر أي يسوع المسيح، لذا مهما حَدَث في حياتنا، فيسوع المسيح سيبقى هو الأوّل والأخير فيها، له المجد إلى الأبد.آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
28/5/2019 عيد الصعود الإلهي الأب مخايل عوض

عظة الأب مخايل عوض
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
في كنيسة مار الياس الحيّ- عين الصَّفصاف

28/5/2019

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

اليوم، هو عيد صعود الربِّ يسوع المسيح بالنَّفس والجسد إلى السّماء، عساه يكون مليئًا بالخيرات والبركات، على الجميع، وعلى الكنيسة. ونصلِّي اليوم من أجل ثبات المسيحيِّين، في حالة النِّعمة، ومن أجل ارتداد الخطأة بالتَّوبة، وارتداد غير المؤمِنِين إلى نور الإنجيل، ومن أجل راحة أنفس الموتى المؤمنين.

إنَّ عيد الصُّعود هو مِن الأعياد الكُبرى والأساسيّة والختاميّة في حياتنا المسيحيّة. إنَّ خاتمة الأعياد المسيحيّة هي عيد العنصرة، ولكن لولا عيد صعود الربِّ يسوع إلى السّماء، لَما كانت هناك حاجة إلى إرسال الرُّوح القدس إلينا، ولَمَا تمَّت العنصرة. إذًا، إنَّ حَدَث الصُّعود هو في غاية الأهميّة، لأنّه من دون صُعود المسيح إلى السّماء، لا يكتمل مشروع الله الخلاصيّ؛ وكذلك هو عيدُ القيامة، فمِن دون قيامة الربّ لَما كان مشروع الله الخلاصيّ قد اكتمل. لذلك هذان العِيدان هُما مِن الأعياد الكُبرى والجوهريّة في حياتنا المسيحيّة.
إنَّ جسدنا التَّرابيّ، المؤلَّف مِن اللَّحم والدَّم، لا يصعد إلى السّماء بعد انتقالِنا من هذا العالم بالموت، بل إنّ ما يصعَد إلى السّماء هو جسدُنا الممَّجد، الجسد القِياميّ، إذ بموتنا البشريّ، تَسترجِع الأرض ما لها، ويسترجِعُ الله ما له. صحيحٌ أنّ جسدنا التُّرابيّ لن يصعد إلى السّماء، ولكننّا سنتمكَّن من معرفة بعضنا البعض في السّماء، من خلال جَسَدنا النُّورانيّ الممجَّد. في العهد القديم، أي قبل قيامة المسيح وصعوده، كان مِن المستحيل أن يصعد الإنسان بجسده الأرضيّ إلى السّماء، إلّا إذ كان الإنسان نبيًّا عظيمًا راضيًا الله في حياته الأرضيّة، على مِثال مار الياس الحيّ الّذي صَعِدَ بجسده إلى السّماء. يستند هذا التّعليم اللّاهوتيّ على كلام الرَّسول بولس. إنَّ جَسَدنا النُّورانيّ الممجَّد يكون خفيفًا، لطيفًا، يخترق كلّ العوائق، وهذا يعني أنّ المادّة فقَدت كلَّ قوّتها البشريّة، فالجسد التّرابي يتلاشى، ولكنّ الجسد النُّورانيّ يُشِّع بالضِّياء. إنَّ جسدنا الترابيّ يتبدّل إلى جسد نورانيّ بعد الموت، ولكنَّ الإنسان يبقى هو هو، ونستطيع معرفة أحبّائنا المنتقلِين عند رؤيتنا لهم. هذا ما تُعلِّمنا إيّاه أمّنا الكنيسة في هذا الإطار. ما أجمل هذه الصلّاة الّتي نردِّدها في رتبة القدّاس، إذ نقول: "لـمّا أتْمَمْتَ التَّدبير الّذي مِن أجلِنا ووَحَّدتَ ما على الأرض بالسّماويات، صَعِدت بمجدٍ أيّها المسيح الإله، دون أن تبرح مكانًا، بل لابسًا غير مفارِقٍ"، أي أنّ المسيح هو في السّماء وعلى الأرض في آنٍ، وهو على الرُّغم مِن لِبسِه الجسد البشريّ لم يخسر مجده ولا ألوهيّته، اللّذين أخَذَهما مِن أبيه السّماويّ. وهذا سِرٌّ يَعجزُ الإنسان عن إدراكُه بعقله البشريّ من دون الاستعانة بالإيمان.

إذًا، إخوتي الأحبّاء، عندما نتأمَّل في هذه الحقيقة، حقيقة كلِّ إنسان في هذه الأرض: نُدرِك أنَّ موتنا لا يشكِّل نهاية لنا، كما حال الحيوانات عند موتها، فالحيوانات لا تملك إلّا نفسًا تُحرِّك جسدها في هذه الأرض، وتعود إلى العَدم بموت الحيوان، ولذا هي لا تنال الخلاص. أمّا بالنِّسبة للإنسان فليس الأمرُ كَذَلِك، إذ جاء مِن العَدَم، ولكنّه يصعَد بعد موته البشريّ، بيسوع المسيح إلى السّماء، إلى الآب الأزليّ، إلى الـمَصدَر الأوّل والأخير، وهذا ما يُميِّزُ الإنسان عن سائر المخلوقات. إذًا، إنَّ قيمة الإنسان الروحيّة عظيمةٌ جدًّا عند الله. إنَّ الربَّ يسوع يقول لنا: "أُطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرَّه، وكلّ تلك الأشياء تُزاد لكم" (متى 6: 23)، أي أنَّه علينا أن نتوجَّه إلى الله بالصّلاة طالِبِين الرُّوحيّات لا الأمور الاجتماعيّة الزائلة، ومتطلِّبات الحياة. للأسف، في حياتنا اليوميّة، أصبحنا نهتمّ بالأمور الاجتماعيّة ونُهمِل الرُّوحيّات، بدليل أنّنا نُفرِّط بمجيئنا إلى الكنيسة يوم الأحد للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة. في يوم الدَّينونة، سيسألنا الله عن سبب عدم وصولِنا إلى القداسة، ما ستكون مُبرِّراتِنا الّتي سنُقدِّمها للربّ؟ إنّ الله قد أعطانا النِّعمة كي نكون قدِّيسين وكاملِين على مِثاله، فإنْ لم نتمكَّن مِن الوصول إلى القداسة في حياتنا الأرضيّة، فهذا دليلٌ على انشغالِنا بالزائلات أكثر مِن السّماويّات. إنّ كلَّ مُبرِّراتنا لله لن تكون نافعة، فالربُّ يسوع قد عانى في حياته الأرضيّة مِن الآلام والعذابات، وعلى الرُّغم من ذلك، تمكَّن مِن الوصول مجدَّدًا إلى السّماء بعد موته. إنَّ جميع البشر سيُطرَح عليهم هذا السُّؤال: مُكرَّسًا كان أم عِلمانيّا، شيخًا أم طِفلاً، رَجُلاً أم امرأة، عندما يَقفون أمام عرش الدَّيان في اليوم الأخير. إنَّ الطِّفل الرَّضيع يَفهم بالرُّوحانيّات، لأنّ الرُّوح موجودة فيه، ولكنّه كطفلٍ لا يستطيع أنْ يقوم بِرَدَّةِ فعلٍ على ما يسمعه، ولكن كلَّ ما يسمعه يَترَّسخ فيه، لذلك لا تتهاوَنوا بالتكلُّم عن الرُّوحانيّات أمام أبنائكم، فإنّه حين يكبر الطِّفل سيقوم بِرَدّاتِ فِعلٍ على ما ترسَّخ فيه، استنادًا إلى ما سَمِعه. فلا تتعجبوا حينئذٍ من تصرُّفاتهم ولا تستغربوها. قد يقول لنا البعض إنّ يوم الأحد، هو يوم الرَّاحة الوحيد في الأسبوع، لذا يسعون إلى القيام بمشاريعهم الخاصّة عِوَض الحضور إلى الكنيسة. إخوتي، إنّ الله هو الوحيد الّذي يستطيع أن يُريحنا مِن أوساخ الخطيئة، لذا فلنتقدَّم مِن سرّ الاعتراف لنتخلَّص مِن كلّ ما يُثَقِّل علينا، ولنتقرَّب مِن سرّ القربان المقدّس ونتناول جسد الربِّ ودَمَه. إنَّ الإنسان يُدرِك أنّ سبب عدم وُصوله إلى القداسة هو قساوة قلبه، والتهاؤه بالأرضيّات وابتعاده عن الربّ، وهنا نتذكَّر قول الربّ في العهد القديم لشعبه: "إنّ هذا الشَّعب يُكرِمني بِشَفَتَيه، أمّا قلبُه فبَعيدٌ عَنِّي. إنَّ الربَّ يسوع قد أتمَّ تدبير الله الآب، كما قُلنا في الصّلاة، وهنا السُّؤال يُطرَح: ما الّذي أفعلُه أنا في حياتي الأرضيّة، بالنِّعم الّتي يمنحني إيّاها الله، للوصول إلى القداسة؟
ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
10/3/2019 "تعال وانظر" يو: 46:1 الأب يوحنا داوود
https://youtu.be/cjlFrEJsN4I

عظة الأب يوحنّا داود
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى السادسة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"
في كنيسة سيّدة العناية - البوشريّة

10/3/2019

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في داخلِ كلِّ إنسانٍ، رغبةٌ عميقةٌ وَشَوقٌ عظيمٌ لرؤيةِ وجه الله. ولكن سقوطه في الخطيئة وانفصاله عن الله، يُفقِدُ الإنسان قُدرته على رؤية الله واستعداده لذلك.
في العهد القديم، كُثُرٌ كان البشر الّذين حاولوا رؤية وجه الله، ولكنْ عَبثًا حاولوا إذ إنَّ كلَّ محاولاتهم باءت بالفشل: لقد طلب النَبيّ موسى من الله رؤية وجهه، فأجابه الله أنّه مِن المستحيل على البشر أن يروا وجه الله، ولكنْ باستطاعتهم سماع صوته والشُّعور بِلَمساتِه في حياتهم. كذلك، طلب النبيّ إيلّيا من الله السّماح له برؤية وجهه، ولكنَّه لم يتمكَّن من ذلك إذ إنَّه نال الجواب نفسه الّذي حصل عليه النبيّ موسى. إذًا، رغبة الإنسان العميقة في رؤية وجه الله، موجودة منذ القديم، غير أنَّ الإنسان لم يتمكَّن من ذلك، إلّا مِن خلال أعماله وعظائمه في حياته، ومن خلال الأنبياء الّذين نقلوا كلام الله للبشر. إنَّ الله قد أحبّ البشر للغاية، لذا لم يكن بإمكانه أن يتجاهل رغبة الإنسان العميقة في رؤية وجهه، فأرسل لهم "في ملء الزَّمن ابنه الوحيد، مولودًا من امرأة، مولودًا تحت النّاموس، صائرًا في شبه البشر" (غل 4: 4)، فتمكَّن عندها الإنسان من رؤية وجه الله في وجه ابن الله، ربّنا يسوع المسيح.

في الإنجيل الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، يُخبرنا الإنجيليّ يوحنّا أنّ فيلبُّس قد دعا نتنائيل إلى رؤية المسيح قائلاً له:"تعال وانظر" (يو 1: 46). وحين كان الربُّ يسوع يُخبر تلاميذه عن الآب، قال فيلبُّس الرَّسول لِيَسوع: "يا ربّ، أرِنا الله وحسبُنا" (يو 14: 8)، فكان جواب الربِّ له: "مَن رآني قد رأى الآب"(يو 14: 9)، "أنا والآب واحد"(يو 14: 11). إذًا، لا يستطيع الإنسان رؤية وجه الله إلّا من خلال ربّنا يسوع المسيح.

إنَّ الأحد الأوّل من الصّوم، في الكنيسة البِيزنطيّة، هو أحد تذكار انتصار الكنيسة على بِدعة حرق الإيقونات وتحطيمها. ومن خلال هذا الأحد، تُخبِرنا الكنيسة أنّ على الإنسان الّذي يرغب في رؤية وجه الله، أنْ يَضَع نفسَه في حضرة الله، ويتأمَّل في كلمته المقدَّسة ويتَّحد بابنه الوحيد ربّنا يسوع المسيح، لكي تَنْطَبِع فيه صورة وجه الله، ويتمكَّن الآخَرون من رؤية وجه الله في وجهه. من خلال أيقونات القدِّيسين، تدعونا الكنيسة قائلةً لنا: "تعالوا وانظروا" إلى وجه الله الـمُشِعّ في وجوه هؤلاء المؤمِنِين الّذين تمرَّسوا في التأمُّل في كلمة الله، فانطبعت في وجوههم صورة ابن الله، يسوع المسيح.

إخوتي الأحبّاء، يُصادف اليوم العاشر من آذار، ذِكرى السّنوات السِّت لانطلاقة هذه الجماعة في رعيّتنا، الّتي بدأت عملَها في هذه الرعيّة في العاشر من آذار 2013. ومنذ ذلك الحين، ونحن نحتفل مع جميع أبناء الرعيّة، في الخميس الأوّل من كلّ شهر، بالذبيحة الإلهيّة، من أجل أحبّائنا الراقدين. وليس من باب الصُّدفة، أن تُصادفِ الذِّكرى السادسة لانطلاقة هذه الجماعة في هذه الرعيّة، في أحد تذكار الأيقونات، إذ إنَّها تُظهر وجه الله للمؤمِنِين. إنَّ الموت يُدخِل المؤمِنِين في حالةٍ من الحزن واليأس، ولكن هذه الجماعة ذكَّرتنا بإيماننا المسيحيّ بالربّ قائلةً لكلِّ مَن فقَد عزيزًا أو حبيبًا: "تعال وانظر"، إلى الربّ القائم من الموت، فيتحوَّل الموت إلى مَصدَر رجاءٍ وفرح. إنَّ كلّ جماعة مسيحيّة هي جماعة رجاء، وبالتّالي فإنَّ كلّ جماعة مدعوَّة إلى أن تعكس للآخرين وجه الله، من خلال عيشها للرَّجاء وانتظارها قيامة الأموات في اليوم الأخير، فيمجِّد الآخَرون الله من خلال تلك الجماعات المسيحيّة. في عهد آبائنا الرُّسل والآباء القدِّيسين، كان المؤمِنون يسيرون في الجنّازات المسيحيّة مرتِّلين تراتيل فرحٍ وتسبيحٍ لله، فكانوا شهادة حيّة للرَّجاء الّذي يؤمِنون به، أمام الآخَرين. أمّا اليوم، فللأسف، فإنَّ جنّازاتِنا مليئةٌ بالنُّواح والبكاء، وما هذا إلّا دليلٌ على ابتعادِنا عن إيماننا بالله.
في هذه الذِّكرى لجماعة "أذكرني في ملكوتك"، نجدِّد الدَّعوة إلى جميع أبناء هذه الرعيّة، إلى استعادة الرَّجاء المسيحيّ بالقيامة، فنكون شهودًا حقيقيّين للمسيح في عالمنا اليوم. ونقدِّم ذبيحتنا اليوم، على نيّة هذه الجماعة بكلّ أعضائها، كي تزداد انتشارًا أوسع في الكنيسة، فيتجلّى وجه الربّ فيها أكثر فأكثر، أينما تواجدَت، ويَتمكَّن كلّ واحدٍ منّا من دعوة الآخَرين قائلاً لهم:"تعالوا وانظروا"، إلى جماعةٍ تحيا على رجاء القيامة. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
14/2/2019 "الحبّ والوفاء لأمواتنا" الأباتي أنطوان راجح

عظة الأباتي أنطوان راجح
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى العاشرة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"
في دير مار الياس- انطلياس

14/2/2019

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في هذا اليوم، الّذي تُكرِّسه المجتمعات للاحتفال بِعِيد الحبّ، مع كلِّ ما تَحمِلُه كلمةُ "حُبّ" مِن حَيويّة، وما تَتَضمّنه من بَذلٍ وعطاءٍ، مِن تكامُلٍ وانصهار، مِن حضورٍ وَوقوفٍ للذَّات، مِن شراكةٍ وخَصب؛ نحتفل اليوم معًا في ذكرى مرور عشر سنواتٍ على انطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"، الّتي تسعى إلى إظهار ديمومة الحبّ بَعد الغياب، تحت عنوانٍ واضحٍ هو "الوفاء". وقد حظِيَت هذه الجماعة بدَعمٍ وتشجيع من رئيس الدِّير آنذاك، الأب جوزيف عبد السّاتر، الحاضر معنا اليوم. وفي هذه الجماعة، عددٌ من سَيِّدات هذه الرعيّة، وفي طَليعَتِهِنَّ السَّيِّدة أنطوانيت الرَّموز، المشهودُ لَهُنَّ بالثَّبات والتَّقوى والالتزام الكنسيّ، والنَّخوَةِ الدَائمةِ التَجدُّدِ. إنَّ عملَ هذه الجماعة مَبنيٌّ على الصّلاة من أجل الموتى، وهو يلتقي مع المناسبة اللِّيتورجيّة الكنسيّة الّتي نحتفل بها في هذا الزَّمن الـمُمتَدّ على ثلاثة أسابيع، قَبْلَ بداية الصّوم. في هذا الزّمن، زمن التذكارات، نُصلِّي في الأسبوع الأوّل، الّذي يبدأ اليوم، من أجل الكهنة المنتقِلِين من بينِنا، كما سَنُصلِّي في الأسبوع الـمُقبِل من أجل الأبرار والصِّديقين، وفي الأسبوع الأخير، سنَذكُر الموتى عمومًا في صَلواتنا. ليس هناك ما يدعُو للعَجَب، في رَبطِنا بين عيد الحبّ وسرّ الموت؛ فكلمةُ "حُبّ" في اللّغة اللّاتينيّة مؤلَّفةٌ من كَلِمَتين هما: "a" وتعني النَّفي، والثّانية هي "mortis" وتعني الموت؛ وبالتّالي، فالحبّ يعني "لا للموت". عندما يُعبِّر الحبيب عن حبِّه للمحبوب، بالقولِ له: "أُحبُّك"، فإنّه يُعبِّر من خلال تلك الكلمة عن رَفضِه لموت المحبوب، قائلاً له إنَّه سيبقى حيًّا في ضميره ووِجدانه وضميره، حتّى ولو غاب المحبوب عن نَظرِ حبيبِه الأرضيّ، فَمَهما ابتعد الحَبيبَان عن بعضهما البعض، فَهُما سيَبْقَيان حاضِرَين في قلب الله الّذي يُؤمِنان به.

إنَّ احتفالنا اليوم بمرور عشر سنوات على انطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك" في هذه الرعيّة، يُشكِّل مناسبةً لنا لِشُكْرِ الربّ أوّلاً على هذه الجماعة بكلِّ أعضائها، ثانيًا على عِنايته بنا وتدبيرهِ الإلهيّ، وأخيرًا على القوّة والثّبات اللّذين يمنحهما الربُّ لكلِّ مكرَّسٍ للخِدمة الرَّسوليّة في الكنيسة. إنَّ احتفالَنا اليوم يُشكِّل مُناسبةً لتجديد العزيمة على الاستمرار في هذا النَّشاط الروحيّ، كما يُشكِّل دعوةً لنا لتجديد تلك الانطلاقة الروحيّة، باحِثِين دائمًا عن الأجدى والأنفع لمسيرِتنا الإيمانيّة.
إنَّ المؤمِنِين في هذه الرعيّة، وأنا كمسؤول فيها، نُدرِك أنّ الهَدَف الأوّل لهذه الجماعة هي الصّلاة من أجل الرَّاحِلين، المبنيّة على إيمانها الرَّاسخ بالمسيح، وعلى عاطِفتها تجاه المنتقِلين من بيننا، خاصّةً أنّ الموت هو لحظةٌ مِفصليّة تعكس جَدليّة الـحُضور في الغياب. ولكنْ لهذه الجماعة، إضافةً إلى الصّلاة من أجل الموتى، أهدافًا أخرى، ينصّ عليها القانون الأساسيّ الخاصّ بها، هي: أوّلاً، تَمرُّس أعضائها في الصّلاة الشَّخصيّة من أجل النُّمو في الحياة الروحيّة ممّا يساهم في خلاص النَّفس؛ ثانيًا، تنشئةُ المؤمِنِين على تعاليم الكنيسة المقدَّسة وأسرارِها وإيمانِها بالحياة الأبديّة، وأخيرًا نَشرِ رعويّة صحيحة لمفهوم سرّ الموت في الكنيسة، ومساعدة المؤمِنين على تطبيقها، لذلك تقوم هذه الجماعة بأعمال رَحمة وتقديم الصَّدقات للآخرين. وهذه السّنة، أضافت هذه الجماعة ممارسةً إيمانيّة جديدة تَصُبُّ في خِدمة هدفِها الأساسيّ وهي مرافقة المنتقِلين من بيننا بالصّلاة، وهذا ما يمارسه أعضاء هذه الجماعة في الرعيّة بالحضور الباكر إلى الكنيسة للصّلاة مع الجثمان، كي لا يُترَك أخونا المنتقل في ساعة انتقاله من هذا العالم وَحيدًا، حين يكون أهلُه منشَغِلين في تَقبُّل التَّعازي به إثر فُقدانهم له.

إنَّ الموت، هو ظاهِرَةٌ لا يَعرِفها الإنسان في ذاته، إذ يُشارِك الإنسان في الصَّلاة الجنائزيّة لدى موت أحد أحبّائه، لا في موتِه الخاصّ، فالموت في الحقل الإدراكيّ للإنسان هو موت الآخر لا موته هو. إنَّ الموت شَبيهٌ بالنّوم الّذي يختبره الإنسان في كلِّ يوم، مع فَرقٍ وحيدٍ، هو أنَّ الإنسان قد يتذكَّر ساعة نومِه الأرضيّ وساعة استيقاظه منه، ولكنّه لن يتذكَّر ساعة موته، لأنَّه حين يموت الإنسان يعيش هذا الحدث بطريقة أبديّة، أي دون إمكانيّة رُجوعِه إلى هذه الحياة مرّةً أخرى. إذًا، الموت هو ظاهرةٌ في الواقع الإنسانيّ، لا ظاهِرةٌ في الذّات، إذ لا يستطيع الإنسان إعادة اختبار موته الجسديّ، ولكنّ الإنسان يستنتج مِن خلال اختباره لموت الآخَرين أنَّ جميع البشر مائتون، وبالتّالي نكتشف أنّ سرّ الموت يَطالُنا جميعًا. في هذا الإطار، يقول لنا شارل مالك، في كتابة "المقدِّمة"، إنَّ الإنسان يُدرِك، من خلال اختباراته في هذه الحياة أنّ الموت هو أَمرٌ مُحتَّم عليه، أي أنّ لا مَفرَّ للإنسان من اختبار الموت في جسده، عاجلاً أم آجلاً؛ ويُضيف قائلاً، إنَّ الإنسان عاجزٌ عن معرفة ساعة موته الخاصّ، وأنَّه مُعرَّضٌ في كلّ لحظةٍ من حياته للموت، فالموت لا يُشكِّل نهايةً للحياة، إنَّما هو فقط نهاية مرحلةٍ منها لِبِداية مرحلةٍ جديدة. إنَّ الموت الجسديّ يمنع الإنسان من اللّقاء بِفَقيدِه مجددًّا بطريقة ملموسة ومحسوسة. ويُتابع شارل مالك كلامه، فيقول لنا إنَّ الإنسان يشعر بالوِحدة، حين يموت، على الرُّغم من إحاطة الأحبّاء له، فالإنسان لا يستطيع الموت بدلاً عن أحد أحبّائه، لِتَجنِيبه هذا الاختبار. ويُكمِل شارل مالك حديثه عن "الظُهوريّة"، فيقول إنَّ الموت يُشكِّل تحدِّيًا كبيرًا وفي غاية القساوة، لا يستطيع الإنسان التَّغلُب عليه إلّا بإيمانه القويّ ورجائه بأنَّ الموت الجسديّ ما هو إلّا مرحلةٌ انتقالية من هذه الحياة إلى حياةٍ أخرى أفضل.

إنَّ الموت يَضَع الإنسان أمام تحدٍّ مجبولٍ بالحبّ، هو تحدِّي غياب الأحبّة بِسِرّ الموت، ولا يستطيع الإنسان مواجهة هذا التَّحدي إلّا بالوفاء لِمَن غابوا في الحضور. إنَّ الوفاء فضيلةٌ تقوم على معاملة الإنسان للّذين كان لهم فَضلٌ في صناعة حاضِره ووجوده، بلُطفٍ ومحبّة، حتّى بعد غيابهم الجسديّ عنه. إنَّ الوفاء هو محاولة الثّبات في الحبّ على الرُّغم مِن مفعول الزّمن، وعلى الرُّغم من قُدرة الإنسان على النِّسيان، فلولا نِعمة النِّسيان لَأَمضى الإنسان حياته في البكاء والنَّحيب على أحبّائه الّذين فارقوه جسديًّا. ليس الوفاءُ إذاً مَوقفًا عاطِفيًّا تجاه أحبّائنا، بل هو موقِفٌ إيجابيّ يُعبِّر عن إرادة الإنسان في ذِكر الّذين كان لهم فَضلٌ عليه، مُعلِنًا أنّهم لا زالوا حاضِرين في ذهنه وقلبه، حاضرًا ومُستقبلاً، على الرُّغم من فراقِهم الجسديّ بالموت.

إنَّ الكنيسة، منذ نشأتها، داوَمَت على ذِكر الموت، ولا زالت محافظة على ذلك إلى يومِنا هذا، بدليل صَلواتنا الّتي نَتلوها في الإفخارستّيا الّتي تتضّمن ذِكرًا للموت في البعض منها. إنَّ صلاتنا في الذبيحة الإلهيّة للمنتقلِين مِن بيننا، تُشكِّل وسيلة "إسعافٍ" وتَشفُّعٍ لهم من جهة، كما أنّها من جهةٍ أخرى، تُعبِّر عن شراكتِنا مع القدِّيسين أي مع أحبّائنا الّذين غادروا هذا العالَم، وهم اليوم يُعاينون وجه الله في الملكوت. إنَّ صلاتنا لأجل الموتى، تُعبِّر عن الوَحدة والتّضامُن بين أعضاء جسد المسيح السريّ، في كافة حالاتها. إنَّ المجمع الفاتيكانيّ الثاني يُوضِح لنا هذا الأمَر، قائلاً لنا: "في انتظار مجيء الربِّ في جلاله، يُواصل بعضٌ من تلاميذ المسيح رحلتَهم على الأرض، ويَكون بعضُهم الآخر وقد أدركهم الموت يتطهَّرون، ويكون بعضهم في المجد يشاهدون الله الواحد والمثلَّث الأقانيم كما هو في كمال النُّور. ولكنّنا نشترك كلُّنا على درجاتٍ وأنماط مختلفة في المحبّة لله والقريب." فالصّلاة من أجل الموتى هي إحدى وسائل التّضامن الروحيّ الّذي يجمع أبناء الكنيسة برباطٍ غير منقطع من المحبّة والرَّجاء، بِشَركة القدِّيسين، أي الكنيسة أحياءً وأمواتًا. إنَّ صلاة الكنيسة لموتاها، يُظهِرُها للآخَرين شبكةَ قداسةٍ ومغفرة، ممّا يدفع المؤمِن فيها إلى الشُّعور بالرّاحة لإدراكه أنّه سيجد مَن يُصلِّي له في هذه الأرض بعد انتقاله من هذا العالم، وهذا ما يُساهم في الإسراع في عمليّة تنقيَته وتطهيره، بعد انتقاله من هذا العالم. إنَّ الصّلاة من أجل الموتى، الّتي تُحفِّز عليها جماعة "أذكرني في ملكوتك" المؤمِنِين هي ممارسة إيمانيّة تعكس لاهوت الكنيسة، إذ تُجسّد قِيَم الحبِّ والوفاء لأحبّائنا، وإيماننا بالمسيح الّذي وَعَدنا بالقيامة من بين الأموات بعد انتقالنا من هذا العالم الفاني. لا يستطيع الإنسان بِناء علاقة شخصيّة مع الربَّ إلّا إذا كان مؤمِنًا به، فيشهد من خلال اختباراته اليوميّة على عَمل الله الخلاصيّ في حياته، ناقلاً بشارة الإنجيل للآخَرين. إنّ المؤمِن يُقوِّي علاقته بالربّ من خلال تكثيف السُّجود للربّ والإطّلاع على تعاليم الكنيسة بشكلٍ مستمرّ. إنّ هذه الجماعة، كما كلّ الجماعات في الرعيّة، لن تتمكّن من إعطاء شهادة للآخَرين حول المسيح، إلّا إذا كان أعضاؤها مُثابِرين على الصّلاة الشَّخصيّة مع الربّ، وعلى محبّة بعضهم البعض كما أوصانا الربّ يسوع في إنجيله، وهذا ما يتطلَّب جُهدًا على الغفران لبعضنا البعض. إنّ هذه المناسبة الّتي نحتفل بها اليوم، تدعونا إلى إعادة صَقل حُبِّنا للربّ، كي تعكس جماعَتُنا حُبَّ المسيح للآخَرين من خلال صلاتها للموتى المؤمِنِين. إنّ صلاتنا للموتى، انطلاقًا من إيماننا المسيحيّ يجب أن تكون مدعاة للفرح، لا للبكاء والنَّحيب على فُراق أحبّائنا، إذ علينا أن ننظر إلى الموت لا على أنّه فاجعةٌ أحاطت بنا، بل على أنَّه مجرَّد مرحلةٍ انتقاليّة على الإنسان اجتيازها للوصول إلى الحياة الثانية. إنَّ الموت هو وسيلةُ لقاءٍ بين الأحبّة تتخطّى البُعد الجسدي الملموس، وهذا يُشكِّل سببًا في تَعزيَتنا إثر فقدان أحبّائنا. لذلك، علينا اليوم، أن ندعو المسيح يسوع إلى هذه الانطلاقة، كي يُعطينا دَفعًا جديدًا للاستعداد إلى ساعة انتقالِنا من هذا العالم، مُتَحلِّين بالشَّجاعة وقوّة الرُّوح، فنتمكّن من إظهار لُطف الله ومحبّته للبشر،كما يقول لنا بولس الرّسول.
في هذا المساء، نقدِّم هذه الذبيحة الإلهيّة من أجل أعضاء هذه الجماعة، كما نُقدِّمها أيضًا من أجل أمواتنا الرّاقدين على رجاء القيامة، ومن أجل كلّ مَن طلبَ منّا أن نَذكُرَه في صَلواتِنا. ألا بارَك الله عَمَلكم الروحيّ هذا، وكافأكم على صلواتكم وتضحياتكم، طالِبين من الله أن يكون "الحبّ والوفاء لأمواتنا" عنوانًا رئيسيًا لخِدمتكم في هذا العمل الرسوليّ، فتكونوا "خميرة حُبٍّ" في هذه الرعيّة. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
8/2/2019 مؤاساة الحزانى الأب طوني عيد

عظة الأب طوني عيد
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
في الذكرى الخامسة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"
في كنيسة مار مارون - الأنطونيّة، الحدث

8/2/2019

باسم الآب والابن والرّوح القدس، الإله الواحد، آمين.
إخوتي الأحبّاء، أخواتي،
جماعة "أذكرني في ملكوتك"،
في هذه المناسبة السَّنويّة، تُليَ على مسامِعنا إنجيل غَسلِ الربِّ يسوع لأرجُلِ تلاميذه. إنَّ هذا النَّص الإنجيليّ يدفعُنا إلى طَرح السُّؤال حول كيفيّة غسْلِنا للحزن مِن قلوب الحزانى الّذين تعرَّضوا لِفُقدانِ عزيزٍ مِن عائلتهم.
في الرِّسالة الشَّهريّة الّتي تُصدِرها جماعة "أُذكرني في ملكوتك"، والّتي كتبها هذا الشَّهر الأب جورج نخول، خادم رعيّة مار افرام في كفرذبيان، تمَّ التركيز فيها على أهميّة تعزية الحزانى. إنَّ تعزية الحزانى لا تقوم فقط على وجودنا بالقرب منهم في أيّام التَّعازي أو يوم الدَّفن وحسب، بل تقوم تعزيَتنا الفعليّة بمساندتنا لهم بعد انتهاء أيّام التَّعازي. إنَّ وجودنا بالقرب من المحزون في أيّام التَّعازيّ يُعبِّر عن تَضامُننا مع مشاعر الحزن الّتي تُعاني منها العائلة نتيجة فقدانهم لعزيز. وفي هذا الصَّدد، يقول لنا البابا فرنسيس، إنَّ مؤاساة الحزانى هي مِن أفعال الرَّحمة، إذ تقوم لا على حضورنا بالقرب من المحزون وحسب، إنَّما على رغبتنا في مساندتهم في تخطِّي ألَمِهم من خلال السَّعي لِبَثّ روح الإيمان بالربّ يسوع المسيح الفادي والمخلِّص، الّذي منحنا بقيامته الرَّجاء بالحياة الأبديّة.
إنَّ جماعة "أذكرني في ملكوتك"، تسعى إلى تعزية الحزانى من خلال الصّلاة معهم في كُتَيِّب الصّلوات الّتي قامت الجماعة بنشره، وهو يتضمَّن نصوصًا كتابيّة مختارة بما يتلاءم مع المناسبة، فكلمة الله هي الوحيدة القادرة على مساعدة المحزون في تَخطِّي ألمِ الفراق. إنَّ الفقيد برحيله يترك أثرَه في منزل عائلته، فكلّ زاويةٍ من زوايا البيت تحتوي على ذِكرى منه، ممّا يؤدِّي بالمحزون إلى عيش الوِحدة إثر غياب فقيده الغالي. لذلك، على المؤمِنِين الرّاغبين في مشاركة هذه العائلة حُزنها ومؤاساتها أن يسعوا إلى تأمين أوقات صلواتٍ يتشاركون فيها، مع المحزون، في قراءة كلمة الله والتأمُّل بها، فيتمكَّنوا معًا مِن اكتشاف حضور الله الفعّال في حياتهم والشَّهادة لإيمانهم بالربِّ يسوع القائم من الموت. إنَّ هذه التَّعزيَة للمحزون تتطلَّب من المؤمِن تكريس وَقتٍ من أجل تأمين حضوره مع العائلة المحزونة. إنَّ هذه التَّعزية تُعبِّر عن شعورٍ مُرهف بالأُخوَّة بين المؤمِن وأخيه المحزون، كما تُعبِّر عن شعور المؤمِنِين بِنِعمة حضور الربِّ في وَسَطِهم مِن خلال مساندتهم لبعضهم البعض.
منذ القرون الأولى للمسيحيّة، حثَّت الكنيسة المؤمِنِين على ذِكر إخوتهم الرَّاقدين في صلواتهم من خلال استنادها على النُّصوص المقدَّسة. إنّ أمواتنا الّذين فارقوا هذه الحياة يتطهَّرون في طريقهم لمعاينة وجه الله القدُّوس والممجَّد (ا بط 1: 7). يقول القدِّيس غريغوريوس إنَّه لا بُدَّ للمؤمِن مِنَ التطهُّر مِن جميع ذنوبه الخفيفة، هذا ما يشير إليه الربُّ يسوع إذ يقول لنا: "كُلُّ خطيئةٍ وتجديفٍ يُغفَر للنّاسِ، وأمّا التَّجديف على الرُّوح القدس فَلَنْ يُغفَر لهم. وَمَن قال كلمةً على ابن الإنسانِ يُغفر له، وأمّا مَن قال على الرُّوح القدس، فَلن يُغفَر له، لا في هذه الدُّنيا ولا في الآخِرة" (متّى 12: 31 - 32). إذًا، استنادًا إلى قول الربِّ يسوع، وهو صادقٌ في ما يقول، هناك غفرانٌ في هذه الحياة وكذلك في الدَّهر الآتي. وبالتَّالي، إنَّ صلواتنا للّذين انتقلوا من هذه الحياة تعود بالفائدة عليهم إذ تساهم في تطهيرهم من خطاياهم، إذ نطلب لهم من الربِّ غفران ذنوبهم. وفي هذا الصَّدد أيضًا، يقول لنا القدِّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم، إنَّه علينا أن نَـمُدَّ العون لأمواتنا ذاكِرين إيّاهم في الصّلوات. فإذا كانت ذبيحة أيّوب الصدِّيق قد ساهَمَت في التَّكفير عن خطايا أبنائه، لماذا نشكُّ في مقدرتنا على تقديم التعزية لأمواتنا، من خلال الذبائح الإلهيّة والصّلوات الّتي نقدِّمها لأجلِهم بعد انتقالهم من هذه الحياة؟ إنّ ذبيحة ربِّنا يسوع المسيح الّتي يُقدِّمها المؤمِن من أجل موتاه إلى الله الآب، تقوم على استعانتنا بالربِّ يسوع في شفاعته لهم، وهذه الشَّفاعة لا تُردُّ عند الآب. تعلِّمُنا الكنيسة أنَّنا نحن الّذين نؤمِن بالمسيح سنموت معه ونقوم معه للحياة الأبديّة.
ونحن اليوم، في هذا الأسبوع نُصلِّي من أجل الكهنة الّذين خَدَموا الكلمة الإلهيّة وأسرار الكنيسة. إنّ رسالة جماعة "أذكرني في ملكوتك"، الَّتي انطلقت سنة 2006، مبنيّة على الإيمان وخِدمة الآخَرين وبناء علاقاتٍ أساسها المحبّة والشَّفافيّة. إنّنا مدعوُّون إلى اتِّخاذ الربِّ يسوع مِثالاً لنا في المحبّة والخِدمة، ونحن مِن خلال إيماننا بالربِّ يسوع ننال تعزيَتنا إذ نُدرِك أنّ فيه خلاصَنا. إنَّ علاقَتَنا الشَّفافة مع الآخَرين تعكس نور ربِّنا فينا، كما تعكس قداستنا فنُصبح من الطوباويِّين. نحن نصلِّي أوَّلاً،من أجلنا، نحن الأحياء، كي نكون خدَّامًا أمناء للربّ، كما سَمِعنا في الرِّسالة الّتي تُليَت على مسامِعنا اليوم، فنحن لسنا فقط كهنةً للربّ، بل خُدّامًا لكلمته، فنحن المؤمِنين ننتمي إلى شعب الله الكهنوتيّ من خلال المعموديّة، ممّا يدفعنا إلى تعزيَة بعضنا البعض كما تفعل جماعة "أذكرني في ملكوتك"، فكلُّ إنسانٍ معمَّدٍ مدعوٌّ إلى إعطاء كلمة التّعزية للآخَرين الّتي يُلهمه عليها الرُّوح القدس. إذًا، نحن جميعًا مدعوُّون إلى تعزية بعضنا البعض والمساهمة في غسلِ الحزن من قلوب الحزانى بيننا، الّتي أعماها فقدانها لأحد الأعزّاء عن رؤية إيمانها بالربّ القائم. إنّ صلاتنا وحضورنا مع الحزانى وتعزيَتنا لهم، تساهم من خلال نعمة الرُّوح القدس في تحويل الأشخاص الحزانى من أشخاصٍ يائيسين إثر فقدانِ عزيزٍ إلى أشخاصٍ يملؤهم الرَّجاء، رجاء القيامة، رجاء الحياة الّتي لا دموع فيها ولا أحزان، ولا مرضٌ ولا ألم، فنمجِّد الله ونشكره على خلاصه لنا، إلى أبد الأبدين. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
4/2/2019 سرّ الموت الأب ميلاد أنطون

أهمّ ما جاء في عظة الأب ميلاد أنطون
في القداس الإلهيّ من أجل الراقِدين على رجاء القيامة
الذكرى الأولى لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"
في كنيسة سيّدة الورديّة - ذوق مصبح

4/2/2019

باسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في هذا المساء، نحتفل بالذبيحة الإلهيّة مع جماعة "أذكرني في ملكوتك"، فنصلِّي معًا من أجل راحة أنفس جميع الموتى المؤمِنِين الراقدين على رجاء القيامة؛ كما نقدِّم هذه الذبيحة تعبيرَ شكرٍ لله على الذكرى السنويّة الأولى لانطلاقة الجماعة في رعيّتنا.

إنّ سرّ الموت لا يُفهَم إلّا في ضوء سرّ القيامة. في الذبيحة الإلهيّة، على اختلاف ليتورجيّاتنا الكنسيّة، نصلِّي إلى الله قائلِين إنّنا نتذكَّر موته وقيامته مِن بين الأموات. إذًا، إنّ هذين السِّرَّين يكمِّلان واحدهما الآخر إذ لا يمكننا الكلام عن القيامة من دون الكلام عن الموت. في كلامه عن موته وصلبه، قال الربّ يسوع: "لقد حانت السَّاعة الّتي يُمجَّد فيها ابن الإنسان" (يو12: 23). يتمجَّد الله حين يُحقِّق الإنسان مشيئة الله الآب في حياته، حتّى ولو قادَه ذلك إلى بَذلِ حياته، فلا يعود الموت حينها موتًا بل رُقادًا.

في ليتورجيّاتها، تُطلِق الكنيسة على الموت أسماءً عديدةً، ومنها: أوّلاً، الرُّقاد. في كتاب الجنّازات المارونيّة، تُصلِّي الكنيسة إلى أبنائها المنتقلِين من هذا العالم إلى الملكوت، مستخدِمةً عبارة: "إخوتِنا الراقدين على رجاء القيامة". كما ينتقل النَّائم من الواقع إلى الأحلام، من خلال نومِه ولا يعود إلى الواقع إلّا بعد استيقاظِه، كذلك يَنتَقِلُ المؤمِن الرَّاقد على رجاء القيامة من حالةٍ إلى حالةٍ من خلال الموت الجسديّ، وكأنَّه في حُلمٍ ينتهي عند موته الجسديّ. في هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول، إنَّ الإنسان في هذه الحياة هو "كَمَن ينظُر في المرآة"، ولن يتمكَّن من رؤية الحقيقة إلّا حين يُعاين وجه الله وجهًا لوجه في الملكوت، أي بقيامته من الموت.

كما تُطلِق الكنيسة على الموت اسمًا آخر، وهو "النِّياح". هناك عدَّة كنائس بُنِيَت واتَّخذت العذراء "سيِّدة النِّياح" شفيعةً لها، كما أنّ هناك عدَّة قرى لبنانيّة تُدعى "نيحا"؛ وفي صلواتنا السُّريانيّة، في رُتبة وَضع البَخور، نقول: "نيُوحو لَعَنيدِه مَهَيِمْنِه". إنَّ النِّياحة تعني الراحة والرُّقاد، وبالتّالي فإنّ أمواتنا الرّاقدين قد ارتاحوا مِن عذاب هذا العالم، مِن وادي الدُّموع.
كما تستخدِم الكنيسة أيضًا تعبيرًا آخر للدَّلالة على الموت، وهو "العبور الفِصحيّ": فكما عَبَرَ المسيح من هذه الحياة الأرضيّة الفانية، إلى الحياة الأبديّة الخالدة، بالموت والقيامة؛ كذلك أيضًا يَعبُر الإنسان من حالة الخطيئة إلى حالة النِّعمة بالعِماد، الّذي هو أحد أشكال العُبور الفِصحيّ. إنَّ الموت هو الفِصحُ الأكبر، ويُعبِّر اللبنانيّ عن هذا العبور من حالةٍ إلى أخرى، من خلال استخدامه بعض العبارات مِثل "فَشَخَ" للتَّعبير عن حالة عبور الإنسان من مكانٍ إلى آخر.

في صلواتِنا لإخوتِنا الراقدِين على رجاء القيامة، نرُكِّز على طلب الغفران من الربّ لأمواتِنا على خطاياهم الّتي ارتكبوها في هذه الفانية. لذلك نُصلِّي في بداية صلاة الجنَّار المسيحيّ، مزمور:"ارحَمني يا الله". في صلاتها للرّاقدين، تُصلِّي كنيسة الأرض، الّتي تتألّف من المؤمِنِين الأحياء في هذه الأرض، إلى الله طالبةً منه الغفران للمنتقِلين مِن بينها.

اليوم، يُطرَح علينا السؤال: لماذا الموت؟ أو بعبارةٍ أخرى، لماذا الحياة؟ إنَّ الموت هو جزءٌ لا يتجزّأ من الحياة، ولذلك اختبر الربّ يسوع الموت، وإلّا لم يكن هناك من ضرورة ليختبره الربّ. إنَّ الربّ قد شَرِبَ كأس الموت، وأطلق عليها اسم "ساعة المجد". لماذا الحياة؟ إنَّ الغاية من وجود الملائكة هي خِدمة الله في ملكوته، أمّا الغاية من وجود الإنسان فهي مُشارَكَتُه في المجد في الملكوت، حسب المفهوم اللّاهوتيّ. وبالتّالي فإنّ هذه الحياة، أكانت قصيرةً أم طويلةً من حيث عدد السِّنِين، ما هي إلّا فرصةٌ علينا انتهازها، للوصول إلى الحياة الأبديّة.
في هذا المساء، نصلِّي من أجل جميع الموتى المؤمِنِين ونقدِّم لله الآب، ما يعجز الآب عن رفضه، ألا وهي ذبيحة ابنه الوحيد على الصَّليب، الّتي نعيشها في كلّ قدّاس. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة من قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
26/1/2019 الولادة الجديدة الخوري الياس عازار

عِظة الخوري الياس عازار
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
كنيسة سيّدة الخلاص- مرجبا

26/1/2019

إنَّ هذا الإنجيل (يو 3: 1-18) الّذي تُلي على مسامِعنا، هو حوارٌ بين مُعلِّمَين: مُعلِّم الشريعة اليهوديّة وهو نيقوديموس، ومُعلِّم العهد الجديد وهو يسوع. إنّ كلمة "مُعلِّم" تُطلَق عادةً على الإنسان الّذي يترك أثرًا في حياتنا، فمثلاً الّذي يقوم بِبِناء البيوت، ندعوه "مُعلِّمٌ" لأنّه ترك فينا أثَرَه من خلال عَمَلِه.
إنَّ نيقوديموس هو معلِّمٌ مِن مُعلِّمي النّاموس، بالنِّسبة إلى اليهود، لا لأنّه ترك فيهم أثرًا، بل لأنّه أعطاهم دُروسًا حول الشريعة اليهوديّة. أمّا يسوع، فكان معلِّمًا حقيقيًّا إذ ترَك أثرًا أوّلاً في نفوس تلاميذه بدليل قَولِ بطرس له:
"يا ربّ، إلى مَن نذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك؟" (يو6: 68)، وثانيًا ترَك أثرًا في نفوس رؤساء اليهود، بدليل مجيء نيقوديموس إليه ليلاً، بعدما رأى هذا الأخير أعمال الربّ في عيد الفِصح وذُهِل فيها. جاء نيقوديموس إلى يسوع ليلاً ليسأله عن الحقيقة، فكان جواب الربّ له بأنّه عليه أن يُولَد من جديد. إنَّ الولادة الجديدة هي ولادةُ الإنسان من الرُّوح القدس، لأنّه حَسب قَولِ يسوع: "ما مِن أحدٍ يُمكِنُه أن يَدخُل ملكوت الله، إلّا إذا وُلِدَ من الماء والرُّوح" (يو 3: 5). إنَّ الولادة من الرُّوح هي المعموديّة، وهي شَرطٌ أساسيّ لدُخول الإنسان إلى ملكوت السماوات. ثمّ يتابع الربُّ حديثه مع نيقوديموس قائلاً له: "فإنْ كُنتُم لا تُؤمِنون عندما أُكلِّمُكم في أمور الأرض، فكَيف تؤمنون إذا كلَّمتُكم في أمور السَّماء؟" ( يو3: 12).
إنّ الولادة من الرُّوح تجعل الإنسان قادرًا على فَهْم أمور السَّماء، وبما أنَّ اليهود لم ينالوا معموديّة الرُّوح، أي أنَّهم لم يدخلوا في سرّ المسيح الفِصحيّ، فَهُم لم يتمكَّنوا من فَهْمِ أمور السَّماء الّتي كلَّمهم بها يسوع. عند اقتبال المؤمِن سرّ المعموديّة، يدخل في سرّ المسيح الفِصحيّ، أي أنّه يموت مع المسيح عندما يُرَشّ عليه ماء العماد أو يُغطَّس به، ويقوم مع الربّ عند خروجه من ماء العِماد. في يوم معموديته، يشترك المؤمِن في سرّ موت المسيح وقيامته، أي أنَّه ينال الحياة الأبديّة.
إنَّ الربّ يسوع يختم حديثه مع نيقوديموس بالقَول: "فإنَّ الله أحبَّ العالم حتّى أنّه جادَ بابنِه الوحيد، لكي لا يهلِكَ كلُّ مَن يُؤمِن به" (يو 3: 16). ويضيف الربَّ في مكانٍ آخر: "مَن آمَن بي واعتمد، يخلُص" (مر 16:16). إذًا، لقد تجسَّد الربُّ في أرضِنا لكي ينال كلُّ واحدٍ منّا الخلاص، بواسطة سرّ المعموديّة، معموديّة الرُّوح. وبالتّالي، يتوجَّب علينا نحن المؤمِنِين السَّعي لِعَيش المعموديّة، فنشهد للربّ بأنّنا إخوته من خلال أعمالنا مع الآخَرين. وبالتّالي، علينا التخلِّي عن الخوف من الموت، لأنَّ الربّ يسوع قد كَسَر شوكَة الموت، مُعطيًا المؤمِنِين به الحياة الأبديّة. إنَّ الربّ قد أحبّنا للغاية، فأعطانا الخلاص من دون استحقاقٍ منّا، فَلنُعَبِّر عن إيماننا به شاهِدِين له في حياتنا اليوميّة، لتكون لنا الحياة الأبديّة الّتي وَعد بها جميع المؤمِنِين به. ملاحظة: دُوِّنت الكلمة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
6/1/2019 عيد الدِّنح الأب فاروق زغيب

عظة الأب فاروق زغيب
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
كنيسة مار الياس - العقيبة

6/1/2019

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

الله معكم إخوتي الأحبّاء،
في هذا العيد المبارك، أتوجّه بالمعايدة القلبيّة سائلاً الله أن يكون هذا العيد عيدًا مباركًا لكم ولعائلاتكم، مُتَمَنِيًا أن يبقى الربّ يسوع المسيح هو "الدائم دائم" في قلوبكم.
إنّ "عيد الدِنح"، أو كما هو معروف شعبيًّا بــــ"عيد الغطاس"، يحمل في هاتين العبارتَين اللّتين تدلّان عليه، مَعنَيَيْنِ أساسيّين، هما جوهر دعوتنا المسيحيّة. إنّ عبارة "الدِّنح"، هي عبارة سريانيّة الأصل "دِنْحُو"، وتعني الظّهور الإلهيّ، وهذا ما حَدَثَ فِعلاً في يوم معموديّة يسوع، إذ اعتلن لنا الثّالوث الأقدس: الآب في الصَوت الّذي سُمِع من السَّماء، الابن في يسوع المسيح الإنسان الّذي نال العِماد على يد يوحنّا المعمدان، والرُّوح القدس في الحمامة الّتي ظهرت فوق رأس يسوع. إذًا، في ظهوره ثالوثًا على نهر الأردنّ، أراد الله القول للبشريّة جمعاء، إنّه منبع الحياة وهو منبع المحبّة المطلقة. ولذلك، فإنّ معموديّة يسوع على نهر الأردنّ تدفعنا إلى التفكير مجدّدًا في معموديّتنا نحن، الّتي منَحنا الثّالوث الأقدس من خلالها كلّ طاقة الحياة.

إنّ عيد الدِّنح، يُسمّى أيضًا عيد الغطاس، وهذه العبارة تدلّ على معنى هذا العيد، إذ فيه غطس الربّ في مياه نهر الأردنّ، مُقتبلاً المعموديّة على يد يوحنّا المعمدان. بنزوله في مياه الأردنّ وصعوده منها، شرح لنا الربُّ يسوع كلّ مفهوم الموت والقيامة؛ إنّ غَطْسَ يسوع في المياه، يرمز إلى موت الإنسان، أمّا صُعوده منها، فهو يرمز إلى الحياة الجديدة الّـتي ينالها الإنسان في المعموديّة.
إنّ معموديّة يسوع كانت إعلان لبداية رسالته التبشيريّة، ولكنّها كانت أيضًا إعلانًا عن الهَدف الّذي يصبو إليه من خلال تلك الرِّسالة، ألا وهو موته على الصَّليب في سبيل إعطاء الحياة الجديدة للإنسان. إذًا، منذ بداية رسالته التبشيريّة في المعموديّة، عَكَسَ لنا الربُّ يسوع صورةَ الصَّليب والقيامة: ففي صَلبه، نال الربّ يسوع معموديّة الدَّم، ولكنّه انتصر على الموت بقيامته، مُعطِيًا إيّانا الحياة الجديدة. في هذا العيد المبارك، على كلّ مؤمِنٍ أن يتذكَّر معموديَّته، فيتذكَّر أنّه في هذا اليوم أعلن ارتباطه بالمسيح والاتِّحاد به، فيُدرِك أنّ عليه المحافظة على اتِّحاده بيسوع، على الرُّغم من كلّ صعوبات الحياة ومشاكِلها. إنّ هذا العيد، عيد الدِّنح، يدعونا إلى تجديد مفاعيل معموديّتنا، وإلى تجديد اتِّحادنا بالمسيح، من خلال التخلِّي عن إنساننا القديم الخاطئ، كي نتمكَّن من الحصول على الحياة الجديدة في المسيح يسوع. في المعموديّة، يتخلَّى الإنسان عن آدم القديم، عن إنسانه القديم المرتبط بالخطيئة ومفاعيلها، ليُصبح إنسانًا جديدًا على مِثال آدم الجديد، يعيش في حالة البرارة والطهارة والقداسة. إنَّ هذا العيد يدعونا إلى وقفةٍ مع الذّات، من أجل الاختيار ما بين الاستمرار في العيش في حالة الخطيئة، وما بين الحصول على حالة النِّعمة المرتبطة بقبولِنا للمسيح في حياتنا. والقرار مرتبطٌ فقط بالإنسان الّذي يتوجّب عليه الاختيار بين هاتين الحالَتين.
إخوتي، أتيتم اليوم إلى الكنيسة، وبأيديكم عبواتُ مياهٍ، أحضرتموها معكم كي تتقدَّس في هذا اليوم المبارك، فتأخذوها إلى بيوتكم وتتباركوا منها. إنّ هذه المياه المباركة لا تُستعمَل، من أجل إبعاد الحشرات عن البيوت الّتي تُرشّ بها وحسب، بل هي تُستَعمل لتُبارك البيوت، فتتمكَّن تلك من إعلان ارتباطها مجدَّدًا بالمسيح، على مستوى فرديّ، وعلى مستوى عائلي. في يوم عِمادِنا، نِلنا الرُّوح القدس، الّذي جَعلَنا مُسحاء جُدد لهذا العالم، أي أنّه علينا إعلان بشارة الإنجيل من داخل بيوتنا إلى العالم كلِّه، فتكون عائلاتنا انعكاسًا لصورة المسيح في هذا العالم. إنّ مجتمعنا لن يصطلِح إلّا من خلال إعلاننا كعائلاتٍ، ارتباطنا بالمسيح، ساهِرين على إظهار صورة المسيح في هذا العالم من خلالِنا.

في الختام، نسأل الله أن يُفيض علينا بركاته وخيراته من خلال هذه المياه الّتي تُرَشُّ علينا، فنتحوَّل من جديد إلى مسحاء جُدد لهذا العالم. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بتصرّف.

تتمة...
9/11/2018 "لا أدعوكم عبيدًا بعد اليوم بل أحبّاء" (يو 15: 15-21). الأب ايلي مظلوم

أهم ما جاء في عظة الأب إيلي مظلوم
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى الخامسة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"
في كائدرائية مار عبدا - بكفيا

9/11/2018

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

أحبّائي،
في هذا المساء المبارك، نلتقي مع جماعة "أذكرني في ملكوتك"، في القدّاس الشهريّ، لنصلِّي معًا من أجل راحة أنفس أمواتنا. إنّها لفرحةٌ كبيرة أن نلتقي مجدّدًا معكم في شَرِكةِ صلاةٍ بين كنيسة الأرض وكنيسة السَّماء، فنُعبِّر سويًّا عن إيماننا بالحياة الأبديّة من خلال صلاتنا لإخوتنا الراقدين. إنّ صلاتَنا لإخوتِنا الراقدين هي علامة وفاء منّا لأحبَّائِنا الّذين غادروا هذا العالم، فَهِي وسيلة تَواصُلِنا الوحيدة معهم. إنّنا نصلِّي لأمواتنا في هذه الذبيحة الإلهيّة طالبين من الربّ أن يرحمهم وأن يغفر لهم خطاياهم، وسائلين إيّاه أن يهب التعزية لعائلاتهم، من خلال تذكيرهم بالخِصال الحميدة للمنتقلِين من بيننا.
في بداية هذه السَّنة الطقسيّة الجديدة، يذكِّرنا الربّ يسوع من خلال إنجيله الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، بأنّه قد حرّرنا من كلّ عبوديّة، وجَعَلنا أبناء لله الآب من جديد، بِقَولِه لنا: "لا أدعوكم عبيدًا بعد اليوم بل أحبّاء" (يو 15: 15-21). إنّ الربَّ يسوع قد خلَّصنا من العبوديّة، ورَفعنا إلى مستوى الأحبّاء، بل أكثر من ذلك، إذ جَعَلنا أبناءه، فالعَبدُ لا يعلم ماذا يفعل سيِّده. إنّ الله قد تبنّانا بيسوع المسيح ودعانا إلى أن نُعطي ثَمرًا في هذا العالم، قائلاً لنا: "لم تختاروني أنتم، بل أنا اخترتكم وأقمتكم، لتذهبوا وتُثمروا ويبقى ثَمَرُكم" (يو 15: 16). إنّ الثِّمار الّـتي تُعبِّر عن قبولِنا البُنوّة لله، والّتي يريدها الله هي: المحبّة والصِّدق والشفافيّة والصّلاح والبرارة والطّهارة والحقّ والعدالة، بمعنى آخر، إنّها كلّ القِيَم الّتي يحتاجها عالمنا اليوم، والّتي علينا أن ننقلَها إليه نحن المسيحيّين. مع بداية هذه السَّنة الطقسيّة، وفي أُسبوع تقديس البيعة، تدعونا كلمة الله اليوم إلى تقديس ذواتِنا أولاً، ساعين إلى حثّ كلِّ مَن حَولِنا إلى السَّعي للقداسة.

إنّه شرفٌ عظيمٌ لنا نحن البشر، خَصَّنا به الله، إذ جَعلنا من أبنائه. وبالتّالي علينا أن نُعبِّر عن قبولِنا بتلك العطيّة فنُعبِّر عن محبّتنا لله من خلال محبّتنا للآخرين، طالبين من الربّ النِّعمة لنتمكّن مع مَن حَولِنا من الوصول إلى القداسة. من خلال محبّتنا للآخرين، نحقِّق وصيّة الربِّ لنا بأن نُحبّ بعضنا بعضًا كما هو أَحبَّنا. إنّ مَحبَّتنا للآخرين تُتَرجم بالقول والفِعل: من خلال خِدمتِنا لهم، ومساندتهم ومسامِحتهم على أخطائهم، فالمحبّة الّتي يطلبها منّا الربّ تدفَعُنا إلى بناء الجسور مع الآخرين، المحيطين بنا، كما تدعونا إلى بناء الجسور أيضًا مع إخوتنا الّذين سَبَقونا إلى السَّماء.

في هذه الذبيحة الإلهيّة، نصلِّي إخوتي إلى الربّ، من أجل إخوتنا المنتقلِين من بيننا، كي يفيض الربُّ عليهم مراحمه، طالبين من الربّ أن يعلِّمنا كيفيّة العيش في هذه الحياة، كأبناءٍ لله، فتُثمر حياتنا، ثمارًا تقودنا إلى الحياة الأبديّة. إخوتي، إنّ الإنسان يحصد ما يزرع: فَمَن يزرع الخير يحصد خيرًا، ومَن يزرع شرًّا يحصد ثمَر خطاياه.
إخوتي، إنّ الصّواني، الّتي تُجمَع في هذه الذبيحة الإلهيّة الّتي نحتفل بها مع جماعة "أذكرني في ملكوتك"، والّتي نقدِّمها من أجل راحة أنفس موتانا، تعود إلى تلبية حاجات الأكثر حاجةً في الرعيّة.

ملاحظة: دُوِّنت العظة من قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
24/9/2018 عيد القديسة مورا الأب جوزف عويس

عظة الأب جوزيف عويس
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
في كنيسة مار مارون- بيادر رشعين

24/9/2018

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

في كلّ سنة، في هذا العيد، تزورنا جماعة "أذكرني في ملكوتك"، آتيةً من بيروت، لتُشاركنا فرحة هذا العيد وفرحة القيامة من خلال مشاركتنا في الذبيحة الإلهيّة. وكما العادة، تحتفل بلدة رشعين في عيد القدِّيسة الشهيدة مورا، باشتراك رَعيَّتيها: رعيّة مار مارون، ورعيّة مار يوحنّا. إنّ هذا العيد يدعونا إلى التعمّق في أَمرَين في غاية الأهميّة: الأوّل هو الشَّهادة للمسيح، والثّاني هو روح القيامة الّتي زُرِعت فينا في يوم عِمادنا المقدَّس.
إنّ القدِّيسة مورا، هي شهيدة من شهداء الكنيسة في القرون الأولى لانطلاقتها. في ذلك الزّمان، كانت الوثنيّة واسعة الانتشار، وكان المسيحيّون يعيشون إيمانهم في خجلٍ، إذ لم تكن لديهم عباداتٌ واضحةٌ، ودُورُ عبادة. في تلك الأيّام، كان الوالي الوثنيّ، يضع كلّ مرتَدٍّ للمسيحيّة أمام خَيارَين لا ثالثَ لهما: إمّا إنكار إيمانه بالمسيح وإمّا الموت. رَفَضت القدِّيسة مورا وكذلك زوجها ثيموتاوس التخلّي عن إيمانهما بالربّ، فقدَّما حياتهما ذبيحة على الصَّليب على مِثال الربّ يسوع المسيح. في أغلب الكنائس المارونيّة، يرتفِع الصَّليب فوقَ المذابح من دون المصلوب، لأنّ الصَّليب في إيماننا المسيحيّ هو علامة المجد والقيامة، إنّه علامة العبور من هذا العالم إلى الحياة الأبديّة. إنّ كلّ مؤمنٍ مدعوّ للتعبير عن حبّه للمسيح من خلال قبوله الصُّلبان في حياته، طوعًا، فيتمجدّ الربّ في المؤمِن، وينال هذا الأخيرُ المجدَ في الحياة الأبديّة. لا قيامة من دون الصَّليب، ولا حياة أبديّة من دون الصَّليب. وهذا ما يبرِّر وجود الصُّلبان على نعوش المنتقلِين من بيننا، إيمانًا منّا بأنّ الصَّليب هو طريقنا إلى الملكوت. اليوم، في هذا المقام المقدَّس، نتذكَّر مع جماعة "أذكرني في ملكوتك"، أحبّاءنا الّذين رافقونا في مسيرة حياتنا الأرضيّة، وقد عبروا من هذا العالم ليَدخلوا الفرح السماويّ في الملكوت. إنّنا نذكرهم في هذه الذبيحة الإلهيّة، ونصلِّي إلى الله لأجلهم، بشفاعة القدِّيسة الشَّهيدة مورا، طالبين من الربّ أن يمنَحنا النِّعمة للسَّير على خطاهم في شهادتهم للمسيح.

في يوم العِماد، نال كلٌّ منّا رُوح القيامة، في انسكاب المياه على رأسنا مرّاتٍ ثلاث، وقد ارتدينا ثوبًا أبيضَ، دلالةً على قبولِنا الدّخول في المجد والقيامة مع الربّ يسوع استنادًا إلى إيماننا به. إنَّ كتاب الاقتداء بالمسيح، تكلَّم عن المسيحيّين ومواجهتهم للصَّليب، قائلاً لنا: إنّ الّذين يشارِكون المسيح في صليب الآلام قلائل، في حين أنّهم كُثُرٌ أولئك الّذين يشارِكونه في المجد. على كلِّ مؤمِنٍ مراجعة حياته، فيُدرِك إنْ كانت آلامه تشكلِّ صليبًا له يساعده على الاتِّحاد بالمسيح ومشاركته المجد السماويّ، أم أنَّها تُعيقه عن الوصول إلى المجد السماويّ. إنّ صعوباتنا الحياتيّة تكتسب قيمةً خلاصيّة حين نقدِّمها للربّ يسوع المسيح الّذي عانى من الآلام في سبيل خلاصِنا، إذ تقودنا عندها إلى مكان الفرح الأبديّ، إلى مكان الرَّاحة في الملكوت السماويّ.
في مساء هذا العيد المبارك، نجدِّد معًا إيماننا بالربّ يسوع والتزامَنا به، طالبين منه أن ينمِّي محبّتنا له في قلوبنا، فتظهر للآخرين من خلال أعمالِنا، وتساهم في وصولِنا إلى الفرح الأبديّ يومَ ننتقل من هذا العالم إلى الحياة الأبديّة، ونتَّحِد به، له المجد الآن وإلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة بتصرّف.

تتمة...
7/9/2018 إتقان واجب الساعة الحاضرة المطران بول - مروان تابت
https://www.youtube.com/watch?v=92ofgj7D3GY&t=306s

عظة سِيادة المطران بول - مروان تابت السّامي الاحترام
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى السادسة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"
في كنيسة القدّيس يوسف - لافال، كيبيك

7/9/2018

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

في هذه الذبيحة الإلهيّة الّتي نقدِّمها في هذا المساء مِن أجل راحة نفوس أمواتنا، أرغب في التأمّل معكم بثلاث أفكار: الأولى من رسالة القدّيس يعقوب، والفِكرتَين الباقِيَتَين مِن الإنجيل.
يقول القدِّيس يَعقوب في رسالتِه، الّتي تُلِيَت على مسامِعنا، ما فحواه: طوبى للإنسان الّذي يَثبُت في مسيرته صوب هَدفه الأساسيّ في هذه الحياة، على الرّغم من الصّعوبات الّتي تواجهه (يع 12:1). فالإنسان وحده القادر على معرفة سبب عدم ثباته في مسيرته، لذا لا يحقّ لنا أن نحكم على نوايا الآخرين. إنّنا نشعر، في الكثير من الأحيان، بتقصيرنا تجاه أحبّائنا الّذين انتقلوا من هذه الحياة إلى الحياة الثانية، إذ إنّنا لم نُمنَح الوقت الكافي للتعبير لهم عن صِدق محبّتنا ورَغبَتِنا بالاهتمام بهم. أمّا الآن، وبعد انتقالهم من بيننا، فيُمكننا أن نعوِّض لهم عن مدى محبّتنا لهم من خلال صلاتنا لأجلهم، والـتأمّل في حياتهم، فنتعلَّم منهم كيفيّة الوصول إلى الملكوت، هَدفنا في هذه الحياة.

أمّا في النصّ الإنجيليّ (لو 31:17-37)، الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، فيقول لنا الربّ أنّ لا أحد منّا يعلم ساعة انتقاله من هذا العالم. أمام مسألة الموت، يَطرح العديد من المؤمِنِين السؤال: لماذا يموت الإنسان؟ عندما طُرِح هذا السؤال على أحد الفلاسفة،كان جوابه أنّ الإنسان يموت لأنّه يعيش في التّاريخ، وهو مخلوقٌ أي أنّ له بداية وبالتّالي سيكون له نهاية. وعندما سُئِل هذا الفيلسوف عن سبب عدم موت الله، أجاب إنّ الله لا يموت لأنّه خارج التّاريخ، وهو خالقٌ لا مخلوق، أي أنّ لا بدايةَ له وبالتّالي لن تكون له نهاية. إنّ البشر، يعيشون ضمن الزّمن، وبالتّالي لهم ماضٍ وحاضر ومستقبل لا يعرفون عنه شيئًا. أمّا الله فلا يعيش ضمن الزّمن، وبالتّالي لا ماضي له ولا حاضر ولا مستقبل، فإنّ الحاضر والماضي والمستقبل بين يدي الله، ويستطيع رؤية الأزمنة كلّها كأنّها في الحاضر.
كما أنّ الربّ يُنبِّهنا، من خلال هذا الإنجيل، إلى عدم التعلُّقِ المفرط بإخوتنا البشر وكأنّهم خالدون في هذه الأرض، إنّ الربّ يسوع يكلِّمنا عن امرأتين تَطحنان الدقيق معًا: فيخطِف الموت الأولى، أمّا الثانية فتبقى في هذه الحياة. إنّ الطَّحن في الكتاب المقدَّس قد يشير إلى عمليّة تحضير الطحين كما أنّه يدلّ على علاقة القُربى الموجودة بين هاتين المرأتين: فهما تأكُلان من الطّعام نفسه، أي أنّهما تعيشان وَفق نَمطٍ حياتيّ مُشترك مبنيّ على القمح. ولكنّ الربّ يُحذِّرنا من التعلُّق الزائد بالّذين يعيشون في محيطِنا، لأنّ الموت سيخطفهم منّا في ساعةٍ لا نعرفها.

نوعان من البشر لا يُفكِّران بالموت: الأوّل، لم يختبر بَعدُ ألمَ فقدان أحد أحبّائه، أمّا الآخر فهو يعتقد أنّه خالدٌ في هذه الحياة، وبالتّالي هو لا يؤمِن بالموت. فالموت يطرح على الإنسان أسئلةً تضعه أمام ِوَقفة مع الذّات، للإجابة عليها: مَن منّا متأكِّد أنّه خالدٌ في هذه الحياة؟ ومَن منّا لا أمواتَ لديه؟ وانطلاقًا من إجاباته على هذه الأسئلة، يُدرِك مدى نضجه الإنسانيّ والروحيّ لحقيقة الموت، ممّا يفرض عليه إعادة النّظر في مسيرة حياته فيغيِّر فيها ما لا ينسجم مع المصير الّذي اختاره لحياته بعد الموت. إنّ حضورنا إلى الكنيسة، واشتراكنا في هذه الذبيحة، مع جماعة "أذكرني في ملكوتك"، يعكس نُضجَنا الإنسانيّ والروحيّ لحقيقة سرّ الموت.

إنّ أحد معلِّمينا، أُسُس الحياة الروحيّة، في جمعيّة المرسلين اللّبنانيّين، وهو الأب ساسين زيدان، أطال الله بِعُمرِه، كان يردِّد على مسامعِنا حين كنّا لا نزال شبّانًا إكليريكيّين، جُملةً مهمّةً جدًّا، وقد حفظناها عن ظهر قلب لِكَثرة ما سمعناها منه، وهي: "اتقان واجب السّاعة الحاضرة". إنَّ هذه العبارة تَصلُح لتكون عِبرةً لكلِّ منّا، إذ تدفعنا إلى القيام بما يتوجبّ علينا القيام به بكلّ اتقان، فتقوم المرأة بواجباتها المنزليّة على أكمل وجه، ويقوم الرّجل بعمله خيرَ اتقان، ويقوم الطبيب بمعالجة مرضاه لِما فيه شفاؤهم الجسديّ. إنّ الإنسان يقدِّس ذاته من خلال إتقانه لواجب السّاعة الحاضرة، مقدِّمًا كلّ عملٍ يقوم به إلى الله، من أجل راحة أنفس موتاه.

وكان الأب ساسين يردِّد على مسامِعنا، عِبرةً روحيّة أخرى، وهي:"عِشْ ليومِكَ كأنّك تموت غدًا، وعِشْ حياتَك كأنّك تعيشُ أبدًا". وهنا نتذكّر سؤال القدِّيس دون بوسكو لتلميذه القدِّيس دُومنيكو سافيو، حين رآه يلعب بسلام مع رِفاقه، على عكس بقيّة الأولاد: "ماذا تفعل يا دُومنيكو، إن قِيَل لك أنّك غدًا ستموت؟". ذُهِل القدِّيس دون بوسكو عند سماعه جواب تلميذه القدِّيس دومنيكو، حين قال له هذا الأخير إنّه يستمرّ باللّعب، كما هو فاعلٌ الآن. إذًا، من خلال هذه الحادثة، يعلِّمنا القدِّيس دومنيكو سافيو، أيضًا، ضرورة اتقان واجب السّاعة الحاضرة فنكون مستعدِّين لتمجيد الله حين يدعونا إلى لقائه في الملكوت.
إذًا، على كلّ مؤمِنٍ أن يستعدَّ للانتقال من هذا العالم، من خلال "اتقانه لِواجب الساعة الحاضرة"، فيقدِّم كلّ ما يقوم به إلى الله، سائلاً إيّاه أن يفيض مراحمه على الموتى المؤمِنِين.

في هذا المساء، نصلّي من أجل كلّ الّذين غادروا هذه الحياة، كما نصلّي من أجل بعضنا البعض، ونحن لا نزال أحياءً في هذه الأرض، وخاصّةً على نيّة مؤسِّسي جماعة "أذكرني في ملكوتك"، وكلّ مَن يساهم في نشر رسالتها، سائلين الله أن يوفِّقهم في خَلق هذه الحالة الروحيّة الّتي يعيشونها، والّتي تعكس رجاءنا المسيحيّ، في كلّ الرعايا، وفي كلّ بلاد الانتشار، وأن يفيضَ رحمته على جميع الموتى المؤمنين، من خلال صلاتنا إليه من أجلهم.
باركَ الله جهودكم، وقدّسَ ذبيحتنا الإلهيّة هذه، الّتي نقدِّمها من أجل راحة نفوس أمواتنا. آمين.

ملاحظة: دُوّنَت العظة مِن قِبَلِنا بِتصرّف.

تتمة...
27/7/2018 السعي لتحقيق ملكوت الله الخوري يوسف الخوري

عظة الخوري يوسف الخوري
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الذكرى التاسعة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
في كنيسة سيّدة الخلاص- مرجبا

27/7/2018

"مَن أَنكرني أمام النّاس، يُنكَر أمام ملائكة الله" (لو 12: 9)

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

المسيح قام، حقًا قام.
في الذكرى التاسعة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك" في مرجبا، لا نزال، نحن المؤمِنِين بالربّ يسوع، أبناء هذه الرعيّة، نشهد لإيماننا به. ويأتي إنجيل اليوم، ليشجِّعنا على الاستمرار في ذلك، إذ يقول لنا إنّ مَن يعترف بالربّ أمام الآخرين، سينال مكافأةً على ذلك، إذ سيعترف به الربُّ يسوع في اليوم الأخير أمام ملائكته. عندما نُعلِن إيماننا بالربّ يسوع القائم من الموت، نُعلِن أيضًا عن إيماننا بقيامة الأموات. إنّ صرخة لصّ اليَمين "أذكرني في ملكوتك"، هي صرخة كلّ مؤمِنٍ يرغب بالاقتراب من الله، ولكنّه يشعر بأنّ خطاياه الكثيرة، وصعوبات حياته الّتي يواجهها، تمنعه من ذلك. لم يتردّد الربّ في الإجابة على طَلَب لصّ اليَمين، إذ قال له: "اليوم تكون معي في الفردوس"، وقد حقّق الربّ وَعدَه له إذ أدخله الملكوت السماويّ. من خلال صرخة لصّ اليَمين وجواب الربّ له، يذكِّرنا الربّ أنّه حاضرٌ معنا على الدّوام لمساعدتِنا في الحصول على الملكوت، على الرّغم من خطايانا ومن صُلبان حياتنا المتعدِّدة.

إنّنا نتذّوق الملكوت السماويّ على هذه الأرض، في كلّ مرّةٍ نبادر فيها إلى محبّة الآخرين، وإلى المسامحة والغفران لكلِّ مَن يُسيء إلينا. لا يسكن ملكوت الله في وَسَطِنا إنْ كُنّا في حالةِ يأسٍ وإحباطٍ مستمرَّيْن نتيجة صعوبات الحياة الّتي تواجهنا، فملكوت الله يسكن في وَسَطِنا فقط حين نكون على يقين أنّ الله سيُحوِّل كلّ ضيقةٍ وشرٍّ نتعرَّض له لما فيه خيرُنا نحن المؤمِنِين به، وبالتّالي، علينا أن نكون في حالةِ إيمانٍ ورجاءٍ كي يكون لملكوت الله مكانٌ في حياتِنا. لا مكانَ لملكوت الله وَسْطَ بشرٍ خائفِين ومتذمِّرين، فهو يجد له مكانًا فقط في قلوبٍ بشرٍ يُردِّدون على الدّوام: "لتكن مشيئتك يا ربّ"، على الرّغم من كلّ صعوبات حياتهم. على المؤمِنِين أن يُردِّدوا على الدّوام صرخةَ لصّ اليَمين للربّ يسوع: "أذكرني يا ربّ في ملكوتك"، ليُعبِّروا بذلك عن رغبتهم بالدّخول إلى الملكوت على الرّغم من كلّ صعوباتِ حياتهم، لأنّ التوقّف عن طلب الملكوت، دليلٌ على أنّه لم يعد هدفًا يصبو إليه المؤمِنون في هذه الحياة.
وهنا يُطرَح السؤال: كيف نستطيع، نحن المؤمِنِين بالربّ يسوع أوّلاً، والمنتَمِين إلى جماعة "أذكرني في ملكوتك" ثانيًا، تجسيد الملكوت في أرضِ البشر، أي في مجتمعنا الّذي نعيش فيه؟ إنّ جماعة "أذكرني في ملكوتك"، تسعى جاهدةً بكلّ ما أُوتِيَت من قوّة إلى إظهار ملكوت الله للآخرين. إنّ إنغماس الإنسان في هموم الحياة وصعوباتها، يدفعه إلى الابتعاد عن هدفه الأساس ألا وهو السَّعي لتحقيق الملكوت. وهنا يظهر دَور جماعة "أذكرني في ملكوتك"، في تذكير المؤمِنِين بأنّ الملكوت ليس فقط في السّماء، إنّما على الأرض أيضًا: فانتقالنا من هذه الفانية إلى الحياة الثانية، أي بالموت الجسديّ، يمنحنا فرصة الدّخول إلى الملكوت، ولكنّنا أيضًا نستطيع إحضار الملكوت إلى أرضِنا من خلال استشهادنا الأبيض، أي من خلال موتِنا اليوميّ عن الرذائل، كالأنانيّة والتفوّه بالشتائم، متسلِّحين بالصّبر على الصّعوبات بواسطة الفضائل المسيحيّة.
ليس الملكوت مكافأةً ينالها الإنسان بعد انتقاله من هذه الحياة، بل هي حقيقة ملموسة تتجسَّد في عالمنا اليوم، وهي تظهر بشكلٍ واضح في الذبيحة الإلهيّة، فَفِيها نختبر هذا الحضور الإلهيّ من خلال جسد الربّ ودمه. إنّنا نذكر أسماء موتانا في الذبيحة الإلهيّة، لأنّه فيها يشترك أهل السّماء مع أهل الأرض، كما أننا نتضرّع فيها إلى الله من أجل إخوتنا المرضى وبخاصّة الـمُشرفين على الموت. ولكن هذا لا يعني أنّ الملكوت يحضر فقط في أثناء الذبيحة الإلهيّة وحسب، إذ على أفكارنا ومشاعرنا وأعمالنا أن تكون موجّهة صوب تحقيق الملكوت على أرضِنا. في صلاتنا إلى الله، فلنطلب منه لا أن يذكُرنا في ملكوته السماويّ وحسب، بل أن يساعدنا في تحقيق الملكوت على أرضِنا من خلال مَنحِنا الفضائل المسيحيّة، فنصبر على صعوبات الحياة الّـتي تواجهنا، ونتغلّب عليها ونكون مسيحيّين حقيقيّين شاهدِين لإيماننا بالربّ يسوع.
هذه هي الرِّسالة الّـتي أُوكِلَت بشكلٍ خاصّ إلى جماعة "أذكرني في ملكوتك"، أن تُظهر ملكوت الله على أرضِنا، وهذه الـمَهمّة تشكِّل تحديًّا لكلّ الملتزمين بها: مؤسِّسين وأعضاء وعامِلِين، لذا قد تفرّغوا للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة والصّلاة من أجل الموتى المؤمِنِين وإظهار ملكوت الله في حياتهم اليوميّة. ونحن اليوم، جماعة "أذكرني في ملكوتك" في مرجبا، أمام هذا التحدّي الكبير، إذ إنّنا نسعى كأعضاء في هذه الجماعة إلى الشّهادة للملكوت في حياتنا اليوميّة، مُصلِّين وقائلِين: "نحن أبناء الآب، وتلاميذَ الربّ يسوع، نضع ذواتنا بين يَدَي الرّوح القدس، ليقودنا إلى حيث يشاء، فنحقِّق من خلاله عمل الله في حياتنا. نطلب من الله أن يُحلِّ روح قُدْسِه علينا بشكل ألسنةٍ من نار، كما حلّ على التّلاميذ في العنصرة، ونطلب منه تطهيرنا من خطايانا ومن كلّ ضعفٍ بشريّ، فنُصبح شهودًا حقيقيّين ليسوع المسيح وأبناءً للملكوت. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة من قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
10/7/2018 القداسة هي عيش المؤمِن مع الربّ الأب موريس معوض

عظة الأب موريس معوّض
في القدّاس الإلهيّ من أجل الرّاقدين على رجاء القيامة
الذكرى التّاسعة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"
في كنيسة مار تقلا- المروج

10/7/2018

في هذا المساء، نحتفل بالذكرى التّاسعة لانطلاقة جماعة "أذكرني في ملكوتك"، في هذه الرعيّة. ونحن لا نزال في إطار تساعيّة القدِّيس مار شربل، قدِّيسنا العظيم، الّذي يفيض الربُّ من خلاله نِعَمًا إلهيّة على المؤمِنِين كما على غير المؤمِنِين.

إنّ إنجيل الصديق اللّجوج الّذي تُلِيَ على مسامِعنا اليوم، يُلقي الضوء على المعاني الروحيّة الّتي نعيشها في هاتَين المناسبَتَين المقدَّستَين، من خلال تركيزه على أهميّة الصّداقة. إنّ الصديق يتمتّع عادةً بِدالَّةٍ على صديقه، لذا يبادر إلى طلب المساعدة من صديقه، عندما يحتاج إليها، وفي أيّ وقتٍ كان، حتّى في منتصف اللّيل. يأتي هذا النّص الإنجيليّ بعد تعليم الربّ يسوع تلاميذه صلاة الأبانا استجابةً لطلبهم أن يعلِّمهم الصّلاة؛ كما يلي هذا النصّ الإنجيليّ قولُ الربّ لتلاميذه:"إسألوا تُعطَوا، أُطلبوا تَجِدوا، اِقرعوا يُفتَح لكم". في هذا النصّ الإنجيليّ الّذي نتأمّل فيه، يدعونا الربّ إلى اللّجاجة في الطلب من أجل الحصول على ما نريد، إذ يقول لنا في هذا النصّ: "وإن لم يقم ويُعطِه لكونه صديقه، فإنّه ينَهَضُ للجاجته، ويُعطيه كلَّ ما يحتاج إليه" (لو11: 8)، أي أنّ الصديق لم يستجِب لصديقه باسم الصّداقة، إنّما بسبب لجاجته. وهذا ما نختبره على الصعيد البشريّ، إذ قد نتغاضى عن تلبية احتياجات إخوتنا المحيطين بنا، لعدم رغبتنا في مساعدتهم في الوقت الحاضر، إذ نجد في خدمتهم مصدر إزعاجٍ لنا،كما أنّنا نتحجّج بعدم امتلاكنا للوقت الكافي، وما هذا إلّا دليل على فتور المحبّة بين البشر وانعدام الصداقات فيما بينهم، إذ أصبح الإنسان في عصرنا يتطلّع إلى تلبية حاجاته وحاجات عائلته الصَّغيرة دون سواهم من البشر.
فإن كانت هذه طريقة تعامُل البشر مع بعضهم البعض، فكيف يتعاملون مع الله من خلال الصّلاة؟ لقد كرّس القدِّيس شربل حياته، سواءٌ أكان في الدَّير أم في المحبسة، للصّلاة. ولم تكن صلاة القدِّيس شربل مقتصرة على الأوقات الّتي حدَّدها قانون الدَّير أو قانون المحبسة، بل كانت حياته تُعبِّر عن حالة الصّلاة الّتي كان يعيشها، أكان في وقت الصّلاة أم في العمل. لقد عاش القدِّيس شربل حياته في الدَّير أي أنّه كان قريبًا من الربّ، من خلال اشتراكه في الصّلوات مع الإخوة، إلّا أنّه كان يطلب من الربّ على الدّوام أن تكون حياته مطابقة لمشيئته القدُّوسة. إنّ ما يميِّز القدِّيسِين عن سائر المؤمِنِين هو حالة صلاة دائمة كانت ترافق أعمالهم: فعلى سبيل المثال، لقد تمكّن الأخ اسطفان من خلال عمله في الحقل من الوصول إلى القداسة، كما كانت جولات الأب يعقوب الكبوشي في المناطق لتأسيس الجمعيّات سببًا في قداسته. لا يصِل المؤمِن إلى القداسة، أو إلى حالة الصّلاة، كَمن يضغط على زرٍّ كهربائيٍّ ليُشعل النّور في الغرفة، بل يصِل إليها من خلال لجاجته في الصّلاة وصبره المتواصل للحصول على مطالبه من الله. ليست القداسة مستحيلة ولا هي صعبة المنال بالنسبة للمؤمِن الّذي يرتاد الكنيسة باستمرار ويشارك إخوته المؤمِنِين الصّلاة، بل إنّ تلك المشاركة تساهم في نقل جوّ الصّلاة من الكنيسة إلى بيت المؤمِن وإلى مكان عمله وإلى كلّ مكان يرتاده، فتتحوّل أفعاله وأقواله إلى صلاةٍ مستمرّة، وهذا بالتحديد ما يطلبه منّا الرّسول بولس حين يقول إنّه مهما أكلنا أو شربنا فليكن ذلك لتمجيد الله. إنّ القداسة هي أن يعيش المؤمِن مع الربّ، فيكون واعيًا لحضوره في حياته، فيبتعد عن الخطيئة، الّتي لا تكمن في الأعمال بحدِّ ذاتها إنّما في ذهنيّة المؤمِن عند قيامه بها. فكما أنّه لا يستطيع المؤمِن المحافظة على نظافته الشخصيّة إن لم يستحمّ بشكلٍ يوميّ، كذلك لا يستطيع المؤمِن المحافظة على حالة النِّعمة فيه من دون مثابرته على الصّلاة طالبًا من الربّ المساعدة لتخطّي ضعفه البشريّ.

إنّ الربّ لا يهدأ ولا يستريح، لذا علينا بالإلحاح عليه في الصّلاة ليساعدنا في التخلّص من نقائصنا، فنتمكّن من الوصول إلى حالة الصّلاة الدائمة، أي القداسة. هذا ما اختبره قدِّيسونا العظماء: القدِّيس شربل في محبسته، والقدِّيسة رفقا على فراش الألم، والقدِّيس الحردينيّ في مسؤوليّاته الرّهبانيّة، والقدِّيس يعقوب الكبوشيّ في انطلاقه للرّسالة في قلب مجتمعه، إضافةً إلى جميع القدِّيسِين، فَهُم جميعهم اختبروا حالة الصّلاة، الّتي أوصَلتهم إلى القداسة.

نسأل الله أن يجعلنا في حالة صلاةٍ دائمة، فنكون قدِّيسِين له على مثال مار شربل، الّذي عاش بمعيّة الربّ في هذه الأرض، وأكمل الحياة معه بعد انتقاله من هذه الفانية، فنال الفرح الحقيقيّ الّذي لا يزول بلقائه بالربّ يسوع المسيح، وهذا هو الفرح الّذي تختبره باستمرار جماعة "أذكرني في ملكوتك".

إخوتي، لا يتحقّق الملكوت فقط في السّماء، إذ إنّه يبدأ من هذه الفانية، لذا على كلّ مؤمِن أن يتحضّر له من خلال أعماله الأرضيّة الصّالحة ليتمكّن من الحصول عليه في الحياة الثانية. إنّ لصّ اليمين شكّل حالةً استثنائية إذ تمكّن من الدّخول إلى الملكوت، بلقائه بالربّ يسوع في اللحظة الأخيرة من حياته، على الصّليب. أمّا نحن، المؤمِنِين بالربّ يسوع، والـمُنتَمين إلى جماعة "أذكرني في ملكوتك"، فعلينا أن نذكر الربّ في كلّ لحظات حياتنا، كي نتمكّن من رؤيته في الملكوت بعد انتقالنا من هذه الفانية. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...
5/7/2018 عظمة محبة الربّ لنا الأب أنطوان خليل

عظة الأب أنطوان خليل
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
جماعة "أذكرني في ملكوتك"
في دير مار يوسف- المتين

5/7/2018

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

في إطار تأمُّلِنا بِسِرَّي الموت والقيامة، أودّ الانطلاق في كلمتي، مِن خبرة أحد الإخوة الّذين عاشوا مع القدِّيس بادري بيو.
في أحد الأيّام، مَرِض الأخ دانيال، وهو أخٌ وصديق للقدِّيس بيو، ولم يكن هناك أَملٌ في شِفائه، حسب قول الأطبّاء. فصلّى القدِّيس بيو، الّذي اشتهر بتقواه ومقدرته على القيام بالأعاجيب، أمام تمثال العذراء مريم من أجل صديقه، فنال القدّيس جوابًا من العذراء، مفادُه أنّ الأخ دانيال لن يموت. وعندما تلقّى القدِّيس بيو هذا الجواب من العذراء، شجَّع الأطبّاء على القيام بالعمليّة الجراحيّة لأخيه الرّاهب، ولكنَّ المفاجأة كانت وفاة الأخ أثناء العَمَليّة الجراحيّة العمليّة الجراحيّة. فأخبر الأطبّاء القدِّيس بيّو بذلك، فذهب القدِّيس للصّلاة أمام تمثال العذراء مُطالبًا إيّاها بتوضيحٍ لِما جرى، فأكدَّت له أنّ أخاه لم يَمت بل نائمٌ. وهذا ما حدث فعلاً إذ بعد مرور ساعتين على اعتقاد الأطبّاء بأنّ هذا الأخ قد توفِّي، استيقظ وأخبرهم بما رأى في أثناء سُباته، قائلاً إنّه رأى نفسه داخل نفقٍ مُظلم، وفي نهاية هذا النّفق نورٌ عظيمٌ، وكلّما اقترب منه، ازداد هذا النّور يزداد توهُّجًا. وعند وصوله إليه، اكتشف الأخ دانيال أنّ هذا النُّور في الحقيقة، هو يسوع المسيح، وقد كان الربُّ يرتدي حلَّةً بيضاء، وفي يده اليمنى مشروع الله الّذي كان قد أعدَّه للأخ دانيال في سبيل تحقيق هذا الأخ قداسته، أمّا في اليد اليُسرى، فقد كان يحمل الربّ يسوع حياةَ الأخ دانيال بما فيها من خطايا وسيِّئات. عندما رأى الأخ دانيال حياته في يد الربّ، خَجِلَ من ذاته، إذ اكتشف عظمة محبّة الربِّ له، وأدرك أنَّ مشيئة الله له كانت أن يكون هذا الأخ قدِّيسًا، غير أنّ هذا الأخ فَشِل في تحقيق قداسته. لم يتمكّن الأخ دانيال من معانقة الربّ والاتِّحاد به، إذ لا يستطيع الاتِّحاد بالربّ إلّا من كان في حالة النِّعمة أي من دون خطيئة، ولذا توجَّب على الأخ الذهاب إلى المطهر للتخلُّص من خطاياه. وعند عودته إلى هذه الأرض، سُئِل الأخ دانيال عن الفترة الزمنيّة الّتي قضاها في المطهر، فكان جوابه أنّها استمرّت لسنين طويلة مع أنّه في الحقيقة لم يَغِب عن هذا العالم الأرضيّ إلّا ساعتين فقط. لقد نوَّه هذا الأخ إلى مدى استغرابه من انقطاع صلوات الإخوة في الدَّير له وعدم ذِكرهم له في الذبائح الإلهيّة في المطهر. ويضيف الأخ دانيال قائلاً إنّه حين تقدَّم الذبائح الإلهيّة من أجل راحة نفوس الموتى المؤمِنِين، تأتي العذراء إلى المطهر لتصطحب معها إلى السّماء، كلّ النّفوس التّي أنهَت مطهرها.

إنَّ الكنيسة هي واحدة ورأسها هو يسوع المسيح، وهي تتألَّف من كنيسة مجاهدة مؤلَّفة مِنَ المؤمِنِين على هذه الأرض، ومن كنيسة المطهر الّتي تضمّ النّفوس المتألِّمة بسبب عدم مقدرتها على الدّخول إلى السّماء بسبب خطاياها، وكنيسة السّماء الّتي تضمّ الأبرار والصِّديقِين. إنَّ النّفوس المطهرية تتعذّب من جرّاء ابتعادها عن الربّ، وهي تتشوّق للُقياه في السّماء، لذا هي تضع آمالها ورجاءها في صلوات المؤمِنِين الّذين لا يزالون في هذه الأرض، لمساعدتها في التخلُّص من المطهر بسرعةٍ والانتقال إلى السّماء. إنّ القدّاس يجسِّد سرّ الفداء أي سرّ موت المسيح وقيامته مِن بين الأموات، ولذا نستطيع تخليص النّفوس المطهريّة من خلال تقديم القدّاسات من أجلها، فتتمكّن من الدّخول إلى السّماء، وتتحوّل من نفوسٍ تنتظر صلوات المؤمِنِين في هذه الأرض، إلى نفوسٍ تُصلّي للمؤمِنِين الّذين لم يتمكّنوا بعد من رؤية وجه الله وجهًا لوجه.
بعد عودة الأخ دانيال إلى هذه الحياة، قرّر تصحيح حياته والعودة إلى الله، ونجح في ذلك إذ أصبح طوباوِّيًا. لقد دُوِّنت تلك الخبرة الروحيّة ووُضعِت ضمن ملفّ تقديس الأب بادري بيّو. ولكن يجدر بنا الإشارة إلى أنّ تلك الرؤية ليست عقيدة كنسيّة بل هي مجرَّد خبرة روحيّة خاصّة، ولكنَّها تساعد المؤمِنِين على إعادة النَّظر في حياتهم وتحسينها، كما أنّها تساهم في زرع روح التّقوى في النّفوس المؤمِنة، وتحثُّها على المثابرة في الصّلاة من أجل الموتى المؤمِنِين، ليتمكّنوا من الوصول إلى السّماء. إنّ النّفوس الّتي غادرت هذه الأرض، قد سلَّمت أحبّاءها، كلّ ما تملكه من أمورٍ ماديّةٍ وهي اليوم لا تطلب مقابلاً لذلك سوى صلواتهم لها من أجل الإسراع في خلاصها. فلنُصلِّ إخوتي باستمرار للّذين انتقلوا من بيننا، ولنسأل الله أن يُرسِل إلينا مَن يُصلِّي لنا بعد انتقالنا من هذه الأرض، ويَذكُرَنا في الذبيحة الإلهيّة. وانطلاقًا من هذا الكلام، نقدِّم هذه الذبيحة الإلهيّة من أجل راحة نفوس موتى هذه الرّهبانيّة، كما نذكر أيضًا نفوس جميع الموتى المؤمِنِين وبخاصّة أولئك الّذين دُوِّنت أسماؤهم في سجلّ" أذكرني في ملكوتك"، الّذي سيُقدَّم مع القرابين في هذه الذبيحة الإلهيّة.

ملاحظة: دُوِّنت العظة من قِبَلِنا بتصرُّف.

تتمة...