البحث في الموقع

لقاءات و نشاطات


شبيبتنـا

19/2/2021 تأمُّل في "إنجيل المرأة الكِنعانيّة" (متى 15: 20 – 28) إيمان المرأة الكنعانيّة
https://youtu.be/7LorpgczMzE

"لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب"
تأمُّل في "إنجيل المرأة الكِنعانيّة" (متى 15: 20 – 28).
الأب ابراهيم سعد

19/2/2021

"ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَا. وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا». فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب». فَقَالَتْ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!». حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ". (متى 15: 20 – 28).

غالبًا ما يُثير هذا النَّص جَدلاً عند قُرَّائه، إذ يجدون فيه صعوبةً في فَهمِ موقفِ يسوع من المرأة الكِنعانية، في قولِه لها:"لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب"، خصوصًا أنّنا مُعتادون على النَّظَر إلى يسوع على أنَّه أتى لِيُخلِّص البشريّة جمعاء. إنَّ مُجرَّد طَرح السُّؤال على ذواتِنا:"كيف يقول يسوع هذا الكلام للمرأة الكِنعانيّة؟"، يَطرَح في طيّاته ملامة للربِّ يسوع، إذ نعتقِد أنّنا أكثرُ رَحمةً ومحبّةً بالمرأة الكِنعانيّة من يسوع. إخوتي، نحن لا نستطيع فَهْمَ كلام الربِّ يسوع لهذه المرأة الكِنعانيّة، بِمَعزلٍ عن سياق النَّص الّذي وَرَدتْ فيه هذه الآية الكِتابيّة.
"ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَا". إنّ عبارة "نواحي صور وصيدا" تعني الجهة المقابلة لِصُور وصَيدا في فِلسطين. ما مِن تأكيدٍ تاريخيّ واضحٍ أنّ الربَّ يسوع قد ذَهب إلى صُور وصَيدا. إنَّ "عرس قانا الجليل" الّذي أخبَرنا به يوحنّا الرَّسول، لا يعني بالضَّرورة أنَّ هذا يكون قد تمَّ هذا العرس في مدينة قانا اللُّبنانيّة، لأنَّ الربَّ يسوع لا يُلبيّ دَعوةً إلى عُرسٍ وَثنيّ، فَصُور كانت مدينةً وثنيّةً، إذ إنّ البشارة لَم تَكُن قد وَصَلت إليها، وبالتّالي عبارة "قانا الجليل"، تُشير إلى كون هذه المطنقة "قانا" في الجَليل، أي في أراضي فِلسطين. إنّ مدينة "صُور" لا تَقع ضِمن منطَقة الجليل، وبالتّالي عبارة "نواحي صور وصيدا"، تَعني منطقةً موجودةً في اتِّجاه مَدينَتي صيدا وصور، أي في الجهة المقابلة لَهما. أمّا المرأة فَهِي امرأةٌ كِنعانيّة أي أنّها قد أَتَت مِن مدينة تَقع في ناحية "صُور وصَيدا"، إذ إنَّ عبارة "كِنعانيّة"، تعني "غير يهوديّة".

"وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا». فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ". لقد جاءت هذه المرأة الكِنعانيّة، غير اليهوديّة، لِتَقتَحم البيئة اليهوديّة، حيث كان يسوع موجودًا، وصَرخت له قائلةً: "ارحَمني، يا سيِّد، يا ابنَ داود". إنَّ هذه العِبارات الثّلاثة الّتي أطلَقتها المرأة الكِنعانيّة، تَصدُر عادةً عن شَخصٍ يَعرِف الله وقد عاشَر التَّوراة. إنَّ هذه المرأة غير اليهوديّة قد قالَت هذه العِبارات الثَّلاثة، الَّتي لا يستَعمِلها إلّا اليهود،الـمُتعمِّقِين في الدِّين. إنَّ عبارة "يا ابن داود" تعني الـمَلِك الـمُنتَظر، الـمَسيح المنتَظر. إنَّ هذه المرأة قد عبّرت من خلال إطلاقها هذه الصَّرخة " يا ابنَ داود" أنّها تنتَظر مَجيء الـمَسِيّا. إنّ اليهود قد رأوا الـمَسيح ولكنَّهم رَفَضوه فَقَتلوه؛ أمّا المرأة الكِنعانيّة فَقَد قَبِلَت المسيح في حياتها، لذا جاءت وسجدت له، مع أنّها غير يهوديّة. قالت هذه المرأة لِيَسوع: "ابْنَتي مَجنونة!" أو "ابنتي ممسوسة" بحسب التَّرجمات الأخرى. وعلى الرُّغم من قَولِها هذا الكلام عن ابنتها، نَجد أنَّ الربُّ يسوع بَقيَ ساكِتًا ولم يتلَّفظ بأيّة كلمةٍ.

"فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». إنّ التّلاميذ طلبوا إلى يسوع أن يَصرِف هذه المرأة، لأنّهم لا يتجرّأون على القيام بأمرٍ لا يَرضى به الربّ. كانت المرأة تَصيح وراء التَّلاميذ، وعبارة "وراء التّلاميذ" تعني أنّ هذه المرأة لَيسَت من البيئة اليَهوديّة، وهي كانَتْ "تَصيح" أي أنَّها كانت مَصدر إزعاجٍ لهم. وهذا ما كانت تُعاني منه الكنيسة الأولى أيضًا: لأنَّ المسيحيُّين من أصل يهوديّ كانوا يَعتبرون إخوتهم في الإيمان من أصل وثنيّ في مستوًى أدنى منهم دَرَجة. إنّ الصّراع بين بولس و"اليهوديّة المسيحيّة" أدّت إلى مشاكل حتّى وَصَلت بِبُولس إلى مرحلةٍ وبَّخ فيها بطرسَ لأنَّ هذا الأخير كان يخشى المسيحيِّين من أصل يهوديّ حين كان يجلس مع المسيحيِّين مِن أصل وثنيّ، فيُشارك هؤلاء في الاحتفالات الوثنيّة الّتي كانوا يُشاركون فيها في بعض الأحيان (غلاطية). مِن خلال هذا النَّص، أراد الإنجيليّ أن يُكلِّمَنا على عمل الله في البشريّة: فالله قد اختار شعبًا مُعَيّنًا، وهو الشَّعب اليهوديّ، لِيَبدأ من خلاله عمله الخلاصيّ في البشريّة، ولكن هذا لا يعني أنَّ خلاص البشريّة مُقتَصَرٌ على هذا الشَّعب دون سِواه. وهذا ما نكتَشِفه في إنجيل متّى، مَتى قُمنا بِدراسةٍ للأعاجيب المَذكورة فيه، إذ نلاحظ وجودَ تِسع أعاجيب موجودة في الإصحاحَين 8 و9: أربعٌ منها تَختَّص بالبيئة اليَهوديّة، وأربعٌ أخرى تختّص بالبيئة الأُمَمِيّة أي البيئة الوَثنيّة، إضافة إلى أعجوبةٍ مُزدَوجة إذ يقوم فيها الربُّ بِشِفاء نازفةِ الدَّم مُنذُ اثنتي عشرة سنة وفتاةٍ ذاتِ الاثنَي عشر ربيعًا. فالمرأة النَّازفة هي امرأةٌ نَجِسةٌ بِحَسب الشَّريعة اليهوديّة، إذ إنَّ نَزفَ دَمِها يمنعها من الانجاب، أي من إعطاء الحياة، وبالتّالي لا أملَ لها في مَجيء المسيح المنتَظر مِن خلالها؛ أمّا الفتاة ذات الاثني عشر ربيعًا، فكانت مُشرفةً على الموت؛ والرَّقم "اثني عَشر" يدلّ على البيئة اليهوديّة، وبالتّالي ما أراد الإنجيليّ قوله من خلال هذه الأعجوبة الـمُزدوِجة، إنّه لا البيئة اليَهوديّة ولا البيئة الأُمَمِيّة قد تمكَّنتا من إعطاء الحياة للبشر؛ لذلك، جاء يسوع لِيَشفي المرأة النَّازفة ويُقيمَ الفتاة ذات الاثني عشر ربيعًا من الموت، ويُعطيهما الحياة. وإذا تابعنا دراسَتَنا حول الأعاجيب في إنجيل متّى لَاكْتَشفنا أنّه لا يزال هناك تسعُ أعاجيب، غَير تلك الّتي ذَكَرناها سَابِقًا: أربعٌ تختَّص بالبيئة اليهوديّة على سبيل الـمِثال شفاء الأعمى، فالإصابة بالعَمى تُشير إلى البيئة اليهوديّة، لأنّ اليهود قد رأوا المسيح ولَم يؤمنوا به؛ وأربعٌ أُخرى تختَّص بالبيئة الوثنيّة على سبيل الـمِثال الأبكم، إذ إنّ البُكم يُشير إلى الّذين لم يتمكَّنوا مِن سماع كلمة الله، ولذلك هُم لا يستطيعون النُّطق بها؛ كما نلاحظ وجود حالةَ شفاءٍ قام بها الربُّ لِأَعمى وأخرسٍ في الوقت نفسه، وهذه الأعجوبة تُشير إلى أنَّ الخلاص في إنجيل متّى هو للبشريّة بأسرِها، للبيئة اليهوديّة وللبيئة الوثنيّة معًا، على حدٍّ سواء، وهذا ما لَم يكن باستطاعة اليَهوديّ في ذلك الزَّمان القبول به، إذ كان مُجَرَّد النُّطق بهذا الكلام يُعتَبر تَجديفًا. للأسَف، ما زال هذا الفِكر مستمرًّا إلى يومِنا هذا في الكنيسة، إذ يَعتَبِرُ بعض المسيحيِّين أنّ الخلاص هو للمسيحيِّين من دونَ سِواهم من البشر، بسبب طاعتهم للإنجيل. صحيحٌ أنَّه من غير المنطقي بشريًّا أن يَنال غير المسيحيّ الخلاص كالمسيحيّ، غير أنَّ فِكرَ الله مختلِفٌ عن فِكرِنا نحن البشر، وطُرُقه مختلفةٌ عن طُرقِنا. على المسيحيِّين القبول بأنَّ الله هو حرٌّ حتّى مِن كلمته، فكلمة الله تأسُر البشر لا الله، وبالتّالي حين يقول المسيحيُّون إنَّ الله لا يَفعَل هذا الأمر ويَفَعَلُ هذا الأمر، فهذا يعني أنّهم جَعلوا إلهَهم، بِطريقةٍ من الطُرُق، إلهًا وَثنيًا، إلهًا صَنمًا. لا يمكن للإنسان أن يَضَع معرفَته بالله ضِمن إطارٍ جامدٍ محدود، فَمعرفةُ الإنسان بالله تنمو يومًا بعد يوم، والمؤمن لا يستطيع مَعرفَةَ الله معرفةً كاملةً، فهو لا يستطيع أن يعرِفَ عن الله إلّا ما كشَفه الله عن ذاتِه لهذا الإنسان. إذًا، المبادرة تَصدر من الله، فالله هو الّذي بادر إلى مَنحِ كلّ البشريّة الخلاص، لذا كان عليه أن يبدأ مع مجموعةٍ صَغيرة محدَّدة، فاختار الله الشَّعب اليَهوديّ، ولكن هذا لا يعني أنَّ خلاصَ الله مقتَصِرٌ على هذا الشَّعب، فَهو أي الله لَم يَجعل هذا الشَّعب "أُمَّةً مقدَّسةً"، أو "خيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت للنَّاس". إنَّ عبارة "شَعب مختار" تعني أنّ الله قد اختار هذا الشَّعب، ولكن هذا لا يعني أنّ هذا الشَّعب أصبح يملك امتيازًا عن بقيّة الشُّعوب لأنَّه مُختارٌ من الله. أن نكون مِن الشَّعب المختار، لا يعني أنّه يمكننا أنْ نحصر الله في الاهتمام بنا دون سوانا من البشر، كونه اخْتارَنا. إنَّ ما نقوله الآن يدفعنا إلى اعتماد نَمطٍ سلوكيّ جديد، في كيفيّة التَّعامل مع النَّاس ومحبّتهم وقُبولهم. أن يكون لدينا فِكرٌ يَهوديّ، فهذا يعني أنَّ لدينا فِكرًا إلغائيًّا للآخَر، إذ نُعطي لِذواتنا الحقّ في تقسيم النَّاس إلى مؤمنِين وكُفّارٍ.

في بداية هذا النَّص الإنجيليّ، نلاحظ عدم إجابة الربِّ يسوع عن صَرخة تلك المرأة الكِنعانيّة بِكَلمة، إذ عند الربِّ مَقصَدٌ من ذلك. إنَّ الربَّ لَم يُجِب عن صرخة المرأة بكلمةِ، فاعتَبر التّلاميذ أنَّ تصرُّفَه هذا يدلّ على عدم رغبته في الكلامِ معها، لذا طَلبوا إليه أن يَصرِفها لأنّها تَصيح وتَصرُخ في إثرِهم. كي يستجيب الله لك، عليكَ أن تُزعِجه، أن تُقلقه، فتُجبرُه على الإصغاء إليك. وهذا هو مفهوم الصّلاة. فالصَّلاة هِيَ فِعلٌ إراديّن تُزعِجُ فيه الله، فتَدفعه إلى الاستجابة لِطلبِك. فإن لَم تَصِل ذهنيّتك في الصّلاة مع يسوع في الطلب أو في الشُّكر إلى هذا المستوى، فهذا يعني أنّ الربَّ يسوع لَن يلتَفِتَ إلى صَلاتِكَ بِسُهولة. إذًا، طلب التّلاميذ إلى الربّ أن يصرِف تلك المرأة؛ وفي هذا الإطار، يقول لنا النَّص الإنجيليّ إنّ الربَّ قد أجاب قائلاً، دون أن يَذكر لنا الفريق الموَجَّه إليه الحَديث، ممّا يعني أنّ هذا الحديث لَم يَكُن مُوَجَّهًا إلى الكِنعانيّة بِشَكلٍ خاصّ، بل إلى جميع السَّامعين له.

«لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ»، أي أنّ الربَّ قد أُرسِل لا إلى مجموعة مقدَّسة بل إلى مجموعةٍ خاطئة، ولكنَّ رسالة يسوع لا تنتهي عند خِراف اسرائيل الضَّالة: هذا هو الإعلان الّذي كَشَف عنه الربُّ يسوع في إنجيلِه. وفي هذا الإطار، قال بولس الرَّسول في رسالته إلى أهل كولوسي، وَهُم وثنِيُو الأصل: "السِّر المَكتوم منذ الدُّهور ومنذ الأجيال، لكنَّه قد أُظهِر لِقدِّيسِيه، الّذين أراد الله أن يُعرِّفهم ما هو غِنى مجد هذا السِّر في الأُمَم، الّذي هو المسيح فيكم رجاء المَجد" (كو1: 26-27)، وهذا يعني أنَّ ما مِن أحدٍ مُستَثنى مِنَ الحصول على خلاص الربّ.
"فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!» فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب»: كانت هذه المرأة لجوجة في طلبها إلى الله. وهنا نتذكَّر يعقوب في صراعِه مع الله، فهو قد جاهَد لأجل الحصول على بَركةِ الله، لذلك سُمِّيَ"اسرائيل". في كلامه هنا مع الكِنعانيّة، يَطرَح الربُّ مُعضِلةً اجتماعيّة دينيّة عقائديّة، مُتَمثِّلة بالكِلاب، وهو حيوانٌ نَجِس بالنِّسبة إلى اليَهود، لذا هو يَرمز بحسَب الفِكر اليهوديّ العقائديّ إلى الوثنيِّين؛ أمّا "البَنِين" فهي عبارةٌ تُشير إلى أبناء الشَّعب الّذي بدأ الربُّ معهم أوَّل عَملٍ له من أجل مَنح الخلاص للبشريّة، بِمعنى آخَر، تُشير إلى أبناء الشَّعب الّذين سَمِعوا كلمة الله وقَبلوا بها.

عند سماعها هذا الجواب مِن يسوع، قالت له المرأة الكِنعانيّة: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!» وهذا يعني أنَّ هذه المرأة قد قَبِلَت أن تكون في مستوًى أقلّ من اليَهود، ولكنَّ الربَّ أراد أن يجعلها في المستوى نفسِه مع اليَهود، الّذين يؤمنون به.

عندها أجابها الربُّ قائلاً لها:"«يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ". إنَّ عبارة "امرأة" في الإنجيل لها معانٍ إيجابيّة جدًّا، بِعَكس ما يَظُنُّ النَّاس. ففي إنجيل يوحنّا، نادى الربُّ أمَّه "يا امرأة"، أوَّلاً في عرس قانا الجليل، وثانيًا عند الصَّليب. فَلَو كان صحيحًا أنَّ الربَ قد أهانَ أُمَّه في عرس قانا مِن خلال مناداته لها "يا امرأة"، فَهَل مِن المعقول أنْ يتوجّه إليها بالإهانة في لَحظة وداعه لها على الصَّليب؟ بالطَّبع لا، وبالتّالي ليس المقصود بهذه العبارة إهانة العَذراء إنّما تَكريمها. إنَّ عبارة "امرأة" تُشير إلى أنَّ هذه الإنسانة لديها إمكانيّة إعطاء الحياة مِن خلال الانجاب، أي أنَّها تَملِكُ الإمكانيّة كي تُصبِح وَالدةَ الحَياة. وبالتّالي، إنَّ مناداة الربّ يسوع للمرأة الكِنعانيّة بعبارة "يا امرأة" تَهدف إلى تَعظيمها. إذًا، إنَّ الربَّ بدأ عَملَه الخلاصيّ من مكانٍ معيَّن ومع شَعبٍ معيّن، ثمّ ينتشر في اليهوديّة ثمّ في السّامرة، إلى أن يَصَل في النِّهاية إلى أقصى الأرض. هذا هو الـمَسار الّذي سلَكَه الرُّسل ايضًا في نَشرِهم البشارة: فَبُطرس انطلَق في البشارة من البيئة اليهوديّة إلى أن وَصَل إلى روما، وبولس بشَّر في آسيا واليونان، أي أنّ هذين الرَّسولَين وَصلا في بشارتهم بالمسيح إلى أقاصي الأرض. إذًا، مِن خلال هذا النَّص الإنجيليّ، أراد الكاتب أن يقول لنا إنَّ رَحمةَ الله وحُبَّه للبشر، لا يستطيع الإنسان قبولهما باستلشاءٍ، إنَّما بِجَديّة، بِمَعنى آخر: هل أنتَ مُقتَنِعٌ، أيّها المؤمن، أنّك بِدُون الله، لن تحصل على الخلاص؟ وهذا الكلام لا يعني أن تَبحَث عن إلهٍ غَيرَه: فالشَّعب اليهوديّ، كان يَعمد إلى تهديد موسى بِعَودته إلى فِرعون في مِصر، إنْ لم يستَجب الله لِطلباتِه، لأنّه في نَظره، فِرعون قادرٌ على الاهتمام بحاجاته الأرضيّة، أمَّا الله فلا يستطيع تأمينها لهم من دون انقطاع. فما كان من موسى إلَّا أن نَقَلَ إلى الله شكاوى الشَّعب، فأجابه الله إنّه سيُؤمِّن كلّ احتياجات الشَّعب من خلال الـمَنّ والسَّلوى، ولكنَّ الـمُعضلة تبقى: هل سيَكون الشَّعبُ مُقتَنعًا أنَّ الله كَفيلٌ بالاهتمام به، فلا يتراجَع عن الإيمان به ويعود إلى فرعون؟. إخوتي، إنْ كان الخلاص رَحمةً مجانيّة من الله، فَعلينا أن نَقبَله بِجَديّة كاملة، لأنّنا من دُونِ الله، نَحنُ بلا حياة. وهنا نكتشِف أهميّة صلاة المزامير: إنّ المزامير تُصَلَّى في البيئة اليهوديّة، مِن قِبَل "العَناويم"، أي الفقراء الّذين ليسوا متـأكِّدين مِن استمرارهم في الحياة لِيومِ غَدٍ. وبالتّالي، على المؤمن أن يُصلِّي المزامير انطلاقًا من هذه الذِّهنيّة، وإلّا فَلن نتمكَّن من فَهم عبارة "طوبى للفقراء بالرُّوح"، الّتي وَردَت في إنجيل متّى. إنّ عبارة "طوبى للفقراء"، تعني هَنيئًا للفقراء ماديًّا الّذين رُغمَ فُقرِهم وغَدِهم غير المؤمَّن لا يزالون تحت طاعة الرُّوح القدس، لأنّهم يَملِكون قناعةً بأنّه إنْ لم يُساعِدهم الله، فالموت سَيَكون نَصيبُهم في الغَد. إنَّ هذه المرأة الكِنعانيّة تُقدِّم لنا مِثالاً صارِخًا عن هذه الذهنيّة، فَهي تَصرُخ إلى الربّ مُقتَنعةً بأنَّ ابنتها لن تُشفى إلّا إذا قام الربُّ بمبادرة منه وشَفاها. إنَّ كلَّ الحواجز الّتي تعرَّضت لها هذه المرأة في طريقها للوصول إلى الربّ، لَم تُلغِ قناعَتِها بأنّ الربَّ وَحده قادرٌ على شفاء ابنتها.

اليوم، نعيش تحديًا كبيرًا في هذا العالم، وفي قلبِنا ريبَةٌ وشكٌّ من ذَهابنا نحو الهَلاك، إذ نجد ذواتنا في مواجهةٍ مع المرض والجوع والحرب في كلِّ لحظةٍ من حياتنا، ممّا يخلق فينا إحباطًا ويأسًا، ونحنُ بأمسِّ حاجة إلى مُعِينٍ ومخلِّصٍ، هو الربُّ يسوع. وهُنا يُطرَح علينا السَّؤال: هل نعيش هذه الحقيقة على المستوى الذهنيّ فقط أم أيضًا على مستوى كياننا البشريّ؟ بِمعنى آخَر: هل نُسارِع إلى تَركِ الله، إذا شَعرنا أنَّ مُخلِّصنا سيتأخَّر في المَجيء؟ إنَّ إيمان هذه المرأة الكِنعانيّة يُعيد إلى أذهاننا إيمان ابراهيم، الّذي آمَن بالربّ، وقَبِل بالسَّير مَعه من دون الحصول على ضَماناتٍ بشريَّة، إذ اكتفى بكلام الله ووعوده، كضمانةٍ وَحيدةٍ له. آمَن ابراهيم إذ أمَّن لله فأَمِن ونال الخلاص.
مِن أعظم النُّصوص الإنجيليّة في إنجيل متّى، هو إنجيل المرأة الكِنعانيّة. فَعِند قراءتنا لهذا النَّص، يتبادر إلى ذِهننا للوهَلة الأولى الاعتقاد بأنَّ الله قد جاء ليُخلِّص شَعبًا مُعيَّنًا، ولكننّا ما نَلبَث أن نكتَشِف في نهايته، أنّ الّذي لا حُظوة لَه عند الله، بالنِّسبة إلى النّاس، هو الّذي نال كلَّ شيء، أي الخلاص. لذلك، نلاحظ أنّه منذ تلك اللَّحظة، لَحظة وجود المرأة الكِنعانيّة أمام الربّ، حَصَلت ابنتها على الشَّفاء، وإنْ حاضرةٌ مع لبنتها لحظة حصول تلك الأخيرة على الشِّفاء؛ وبالتّالي، كانت المرأة الكِنعانيّة متأكِّدة من أنَّ شفاء ابنتها سَيَتمّ، مَتى جاءت إلى يسوع وطَلبَت إليه ذلك. إذًا، إنّ الكلمة الموعودة، بالنِّسبة إلى المؤمِن، هي مُحقَّقة ولَو لَم تتحقَّق بَعد، فَهِي لا محالة ستتحقَّق؛ لذلك يسلُك المؤمن في الحياة، كأنَّ كلمة الله قد تحقَّقت، وإلّا ما نَفع مشارَكتنا كمؤمِنِين في الذبيحة الإلهيّة؟ إنَّ القدَّاس هو الملكوت الـمُحقَّق في المناولة، والـمُرتَجى في الوعد الإلهيّ بالعِرس الأخير. إذًا، نحن في هذا النَّص الإنجيليّ، نقوم بِنَوعٍ من قفزةٍ نوعيّة في الفِكر اليهوديّ، إذ نؤمن أنّ الجميع سينال الخلاص، وسيتحقَّق ذلك مِن خلال قيامِنا بقَفزَةٍ نوعيّة في الفِكر المسيحيّ، لا في الفِكر الإنجيليّ، إذ لا يجوز لنا بعد الآن النَّظر إلى الآخَرين على أنّهم في مستوى أدنى مِن مستوانا في الإيمان. إنَّ أساس المشكلة في الانقسام الكنسيّ هي نَظرُ فريقٍ من المسيحيِّين إلى الفريق الآخَر على أنّه أدنى مستوى منه، أي أنّ الفريق الأوّل يعتبر نفسه أفضل من الفريق الآخَر. إنّ الحقيقة تكمن في أنّ هذين الفريقَين من المسيحيِّين هما على المستوى نفسه في الدَّرجة الثّانية، والّذين في الدَّرجة الأولى هُم أولئك النَّاس المهمَّشين والمتروكين الّذين يُشير إليهم الربّ بإصبَعِه الإلهيّ، وهُم غير مَنظورين من الآخَرين. لذلك، فإنَّ قراءتنا لهذا النَّص الإنجيليّ تَدفعنا إلى القيام بِثَورةٍ عقليّة وذهنيّة وروحيّة وكلاميّة وسلوكيّة في حياتنا كمسيحيّين، فَنَنظُر إلى كلّ إنسانٍ مُهمَل ومهمَّش على أنّه ابن الله، ونتعامَل معه على هذا الأساس، فَنَسجد له كما نَسجد لابن الله يسوع المسيح، ونَسعى إلى خِدمته. مِن المستغرَب أنّنا لا نسجد للإنسان الـمُهمَل والمهمَّش، ولكننّا نقبَل بأن يَسجد هو لنا، عندما نُشفق عليه ونُعطيه ما يَفضُل عنّا؛ فنَجعل منه إنسانًا ضَعيفًا بسبب عَطائنا له، إلّا إذا كُنّا نُحِبُه. فإذا أعطيَنا شخصًا نُحِبُّه، نُعظِّم من قيمته أي أنّنا "نُكبِّره"، أمّا إذا أعطَينا شخصًا لا نُحبِّه فإنَّنا نُحقِّره، أي أنّنا "نُصغِّره". إنَّ المرأة الكِنعانيّة قَبِلَت أن تكون صَغيرةً في عيون الحاضِرين لأنّها كانت تَعرِفُ أنّ قيمتَها كبيرةٌ في عيون الـمَسيح، بدليل أنّه أعطاها سُؤل قلبِها، قائلاً لها: "لِيَكن لَكِ كما تُريدين". إنّ هذه العبارة تُقال مِن عَبدٍ لسيِّد، وفي هذه الحالة أصبَحت المرأة الكِنعانيّة هي السَّيد والربُّ يسوع هو العَبد الّذي يُنفِّذ طَلبات وأوامِر سيِّده أي "المرأة الكِنعانيّة". فهل هناك أكبر من هذه العَظمة؟ ليس "حرامٌ" أن يَقول الربُّ يسوع هذا الكلامَ للمرأة الكِنعانيّة، ولكن ما هو فِعلاً "حرام"، هو أن نستمرُّ في نَظرتنا إلى الأمور، كما كُنّا نراها سابقًا. مِن خلال هذا النَّص الإنجيليّ، يدعونا الربّ إلى تصحيح عقولِنا، وتصحيح نَظرَتنا إلى الآخَرين. فلنتمسَّك بالقاعدة العامَّة، أي الإنجيل، مِن دون الدُّخول في الاستثناءات، الّتي هي فرصةٌ لتَحقيق الإنجيل في مكانٍ غير متوَّقع. إنَّ الإنجيل هو وثيقةُ طلاقٍ بين الله وفلاسفة اللّاهوت. سُئل أفغاريوس البنطيّ، وهو قِدِّيسٌ مِنَ القرون الأُولى للمسيحيّة: "مَن هو اللاهوتي؟" قال لهم اللَّاهوتيّ هو الّذي يُصلِّي، والّذي يُصلِّي هو لاهوتيّ، لأنَّ الصّلاة هي الكلام مع الله، أمَّا اللاهوت فهو الكلام على الله؛ وفي هذه الأيّام، نحن بأمسّ الحاجة إلى الكلام مع الله لا عَليه. والأصعب من ذلك، عندما نريد الكلام معه، هو الّذي صَعِد إلى السّماء، يضَع أمامنا الجائع والمسجون والمهمَّش، في إنجيل الدَّينونة، لأنّه يتماهى مع النَّاس غير المنظورين، بالنِّسبة إلى المجتمع الّذي نَعيش فيه. ويدعونا إلى رؤيتهم، فَيَظهر للآخَرين مِن خلال سلوكِنا مَعهم أنّنا مُعمَّدون. فإنّه حين تعمَّدنا، أصبحنا أبناء الله، وبالتّالي أصبحَت عيوننا عيونًا تَنظُر إلى الآخَرين كما ينظر الله إليهم. وعندما تجسَّد ابن الله، الربُّ يسوع المسيح، نَظر إلى كُلِّ النَّاس فكانت نَظرته إليهم فرصةً لهم للحصول على الخلاص.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة بِتَصَرُّف. تتمة...
10/12/2020 تأمّل في إنجيل لوقا 17: 1-7 المعثرة والغفران والمسامحة
https://youtu.be/8IQNzN9RC5M

"المعثرة والغفران والمسامحة"
الأب ابراهيم سعد

10/12/2020

"وقال (يسوع) لتلاميذه: لا يُمكِن إلّا أن تأتي العَثرات، ولكنْ وَيلٌ للّذي تأتي بواسِطته. خيرٌ لَه لو طُوِّقَ عُنُقُه بِحجرِ رَحى وَطُرِح في البَحر، مِن أن يُعْثِر أحدُ هؤلاء الصِّغار. احتَرِزوا لأنفسِكُم. وإنْ أخطَأ إليكَ أَخوك فَوَبِّخه، وإنْ تابَ فاغْفِرْ لَهُ. وإنْ أخَطأ إليكَ سَبْعَ مرَّاتٍ في اليوم، ورَجِع إليكَ سَبْعَ مرّاتٍ قائلاً: أنا تائبٌ، فاغْفِرْ لَهُ. وقال الرُّسُلُ للربِّ: "زِدْ إيمانَنا". فقالَ الربُّ: لَو كانْ لَكُم إيمانٌ مِثْلَ حَبَّةِ خَردَلْ، لَكُنْتُم تقولون لِهَذه الجُميَّزة: انقَلِعِي وانْغَرِسي في البحر، فتُطيعُكم." (لو17: 1-6)

إنّ هذا النَّص الّذي تُلِيَ على مسامِعنا، يَضع المؤمِن أمام صعوبةٍ لا تكمن في تَفسير هذا النَّص، إنّما في قبولِ المؤمِن ما جاء في هذا النَّصّ والسَّعي إلى تطبيقِه في حياته اليوميّة. فالمؤمِن الّذي يُعِلن قبولَه المسيح في حياته، لا يستطيع انتقاء نُصوصٍ مِن الإنجيل تَتنَاسَب مع مَصالحِه الخاصّة وقبولِها من جِهةٍ، ورَفضِ القِسْم الآخَر من الإنجيل الّذي لا يتوافق مع مصالحه من جهة أخرى، بل عَليه قبولَ كلِّ النُّصوص الإنجيليّة والسَّعي إلى عيشِها. إنّ هذا النَّص، كما كلّ النُّصوص الإنجيليّة، يَضع المؤمِنُ أمام تحدٍّ جديدٍ، يَدفعه إلى اتِّخاذ مَوقفٍ مِنه. إنّ هَدف النُّصوص الإنجيليّة هو حَثُّ المؤمنِين على التَّغيير على المستويات: الذهنيّة، الفِكريّة، الوِجدانيّة، السُّلوكيّة والرُّوحيّة.

"وقال (يسوع) لتلاميذه: لا يُمكِن إلّا أن تأتي العَثرات، ولكنْ وَيلٌ للّذي تأتي بواسِطته": إنّ العَثَرة هي فَخّ يُوضَع في طريق الإنسان، يَمنعُه، إذا وَقَع فيه، مِن إكمال مسيرته نحو الهَدَف المنشود. إنّ هَدَف المؤمنِين بالربّ في مَسيرَتِهم الأرضيّة هو الوصول إلى الربِّ ولِقائِه. إذًا، يقول لنا الربّ يسوع في هذا النَّص: الوَيلُ لِمَن يُعرِقلُ مسيرة إخوته البشر في مسيرتِهم نحو الربِّ. إنّ مشكلةَ الرُّسلِ تَكمُن في إعطاء الربِّ لهم مفاتيح السّماء: فالحصول على مفاتيح السّماء لا يُشكِّل امتيازًا للرُّسل على سائر المؤمنِين، إنّما هو مسؤوليّة تُعطى لهم سيُحاسَبون عليها في اليوم الأخير. أنْ يَفتَح الرُّسلُ أبوابَ السّماء أو أن يُغلِقوها أمام الآخَرين، لا يرتبط بِمَزاج الرُّسل بل بِرِسالتِهم على الأرض الّتي قَبِلوا بها حين قَبِلوا المسيح. فعندما يُصبح الإنسان مؤمِنًا بالربّ، يُصبح عبدًا له طوعًا، أي خادمًا له بإرادتِه. وبالتّالي، يَترتَّب على المؤمِن حَثُّ الآخَرين على التَقرُّب مِن الله، بِمَعنى آخَر فَتْحُ أبواب السّماء لَهم ليتمكَّنوا مِن الوصول إلى الملكوت. إذًا، مَن يسعى إلى عرقلة وصول المؤمنِين إلى الملكوت، يَجلِب على نَفسِه دينونةً، لأنّ هذا الأخير يتحوَّل إلى عَدُوٍّ لله، أي إلى شيطانٍ. إنّ دَور الشَّيطان يقوم على عرقلة مسيرة المؤمِن نحو الله، فيمنعه من الوصول إليه، مِن خلال وَضع العثراث في طريق المؤمِن. وبالتّالي، حين يُعرِقل المؤمِن مسيرة أخيه الإنسان نحو الله، يتصرَّف كما يتصرَّف الشَّيطان مع البشر.
"خَيرٌ لَه لو طُوِّقَ عُنُقُه بِحَجرِ رَحى وَطُرِح في البَحر، مِن أن يُعْثِر أحدُ هؤلاء الصِّغار": عندما يَقصِد المؤمِنُ أو يسعى إلى وَضعِ العثرات في طريق أخيه في مَسيرة هذا الأخير نحو الله، يقول له الربُّ إنّه مِن الأفضلِ أن يُعلَّق في عُنُقِ هذا الإنسان حجَرُ الرَّحى ويُطرَحَ في البَحر. إنّ حَجَرَ الرَّحى هو حَجرٌ صخريّ كبير يَصعب تَفتِيتُه، وهو يُستَخدم في الـمَطحَنة أو في الـمَعصرة. عندما يُعلَّقُ هذا الحجر في عُنقِ الإنسان ويُرمى في البحر، لن يتمكَّن هذا الأخير مِن النَّجاة، بل سيَغرَق ويموت ولن يَبقى له أثَرٌ. وفي هذا الإطار، يُخبرنا سِفر الرُّؤيا أنّ الربَّ سينتصر على الشَّيطان في المعركة الأخيرة بَينَهما، وسَيُبيدُه فيَفقِدُ هذا الأخير فعاليّتـه وسُلطَته على البشر.

"احترِزوا لأنفُسِكم": على المؤمِن الانتباه لِكُلِّ عملٍ يقوم به، وعدم اللُّجوء إلى حُجَجٍ واهيةٍ للتهرُّب مِن مسؤوليّته. في هذا الإطار، نتذكَّر قولَ بولس الرَّسول إلى أهل كورنثوس الّذي دعاهم إلى الانتباه لأعمالهم لأنّ كُلَّ عملٍ غير صالحٍ سيُحرَق في اليوم الأخير، كالقَشِّ في النّار. يأتي هذا النَّص الّذي قرأناه معًا، في إنجيل لوقا، مباشرةً بَعدَ نَصِّ مَثَل الغنيّ ولعازر، الّذي فيه يُخبرنا الإنجيليّ لوقا عن امتناع الغنيّ عن إعطاء الطَّعام لِلِعازَر الجائع والمطروح عند باب بيته. مِن خلال تصرُّفه مع لعازر، أخبرَ الغنيّ لِعازر بطريقةٍ غير مباشرة، أنّ الله عاجزٌ عن الاهتمام به، إذ لم يلتَفِت أحدٌ من البشر إلى لعازر لِمُساعدته على سدِّ جوعه، في حين أنّ الكلاب التَفَتَتْ إليه فلحَسَتْ جروحَه. إنّ الغنيّ لا يُمكِنُه تبرير نفسِه أمام الله في اليوم الأخير بالقول إنّه لم يتعرَّض بالأذيّة لهذا الإنسان الجائع، لينال الملكوت، فهذا الغنيّ لم يَقُم بأيِّ عملٍ يساعد الفقير لِعازَر على اكتشاف عظمة محبّة الله له واهتمامه به. إنّ كُلَّ واحدٍ منّا هو أداةٌ يستخدمها الله لإيصال رسالةٍ معيّنة إلى الإنسان المحتاج، فإذا تَقاعسْنا عن القيام بِهَذه الـمَهمَّة أو رَفضناها، كُنّا سببًا يَمنَعُ المحتاج من رؤية عناية الله له. وفي هذا الإطار، يقول لنا الربُّ في العهد القديم، على لسان أنبيائه: "يرعى الرُّعاة أنفسهم وغَنمي لا يرعونها" (حزقيال 34: 8) . إنَّ الربّ استخَدم عبارة "غَنَمي"، لا "غَنَمهم"، أي أنّ القطيعَ هو خاصَّةُ الربِّ لا الرُّعاة، فالرُّعاة ما هُم إلّا وُكلاء اختارَهم الربُّ لرعاية المؤمِنِين به، ومساعدتِهم على الوصول إلى الله.

"وإنْ أخطَأ إليكَ أَخوك فَوَبِّخه، وإنْ تابَ فاغْفِرْ لَهُ": أمام هذا الكلام، نَطرَح السُّؤال: ماذا لو غَفرْنا للآخَر، وأعادَ هذا الأخير الكَرَّة، فأخطأ إلينا من جديد؟ في هذا النَّص، يَطلُب إلينا الربُّ أنْ نُوبِّخ الآخَر على أذيّته؛ والتَّوبيخ يقوم على مساعدة الآخَر على تصحيح مساره في طريقه نحو الربّ. ولكنّ السُّؤال هو: ماذا لو كان الآخَرُ غَيرَ متجاوبٍ مع تَوبيخِنا له؟ إنّ الربَّ يدعونا إلى التَّسلُّح بالمحبّة لأنّ المحبّة، بِحَسب قولِ بولس الرَّسول: "لا تفرحُ بالظُّلم، بل تَفرَحُ بالحَقّ. وهي تَعذرُ كلّ شيءٍ وتُصدِّقُ كلَّ شيءٍ وتَرجو كلَّ شيءٍ وتتحمَّل كلّ شيءٍ." (1كور 13: 6-7)
"وإنْ تابَ فاغفِر لَهُ": استخدمَ الكاتبُ عِبارةَ "إنْ تابَ"، لا عبارةَ "إنْ نَدِمَ"، لأنَّ فِعْلَ "تابَ"، هو فِعلٌ عِبريّ الأصل، يعني "رَجِعَ"، والتَّوبة هي عودة الإنسان إلى الله لا إلى أخيه الإنسان. بالنِّسبة إلى الله، مَن يُخطئ إلى أخيه الإنسان، فَقَد خَطِئ أمام الله. في اللُّغة اليونانيّة، إنَّ عبارةَ "تَوبَة"، تعني تغيير الّذهِن، أي تغيير الإنسان مسارَه، والسَّير في مَسارٍ معاكِسٍ للمَسار الأوّل الّذي كان يسير فيه. عندما يُخطئ الإنسان فإنَّه يَترُك اللهَ؛ وعندما يَتوب الإنسان، فإنَّه يَعودُ إلى الله. إذًا، في هذا النَّص، يدعونا الربُّ يسوع إلى الغفران لإخوتِنا الّذين أساؤوا إلينا، مَتى تابوا إلى الله. حين يتوب الإنسانُ إلى الله، يَغفر له الله خطاياه، وبالتّالي لا يمكننا أن نَطلُبَ إلى الله أن يَغِفِر لنا عندما نتوب إليه، ونحن لا نغفر لإخوتِنا عندما يتوبون إلى الله.
"وإنْ أخَطأ إليكَ سَبْعَ مرَّاتٍ في اليوم، ورَجِع إليكَ سَبْع مرّاتٍ قائلاً: أنا تائبٌ، فاغْفِرْ لَهُ": إنّ هذه الآية تُعطينا الجواب الكافي عن السُّؤال: كم مَرَّةً علينا أن نغفر لإخوتنا؟ إنّ الرَّقم سَبْعَة هو رَقمٌ يُشير إلى الكمال، وبالتّالي الرَّقم سبعة لا يعني رَقمًا عدديًا بل رَقمًا غير محدودٍ. إذًا، ما أرادَ الربُّ قولَه لنا من خلال هذا الكلام هو أنّه بَعد ارتكاب الآخَر خَطأً تجاهَنا، علينا أن نوبِّخه، أي أن نُساعدَه على تصحيح مسارِه، وأن نَغفر له كُلَّما تاب إلى الله. إنّ مؤمنِين كثيرين يعتقدون أنّه عليهم التقرُّب مِن سرّ التَّوبة كي ينالوا مغفرة الربّ لخطاياهم. إنَّ هذا الاعتقاد مغلوطٌ بَعضَ الشَّيء، لأنّ الإنسان لا يَتقرَّب مِن سرّ التَّوبة لينال غفرانَ الربِّ على خطاياه، لأنّ الربَّ قد سَبَق وغَفرَ له خطاياه. وهنا يُطرَح السُّؤال: ما نَفعُ الاعتراف إذًا؟ إنّ الاعتراف بالخطايا أمرٌ ضروريّ، لأنَّ المؤمن، في ذِكر خطاياه أمام الكاهن، يُعلِن نُكرانَه للآلهة الوثنيّة الّتي كان يخضع لها والـمُتمثِّلة بخطاياه، لِيُعلِن عن قبولِه مِن جديد بِرُبوبيّة يسوع عليه. في تَقرُّبنا مِن سرّ التَّوبة، نُعبِّر عن رَغبتنا العميقة في فَتحِ عهدٍ جديدٍ مع الله، وقبولِنا أُبوتَّه لنا. إنّ سرّ التَّوبة هو اعتماد المؤمنِ مرّةً جديدة بطريقة مختلفة عن المعموديّة الأولى، الّتي لا يمكن للمؤمِن اقتبالها إلّا مرَّة واحدة في حياته. في المعموديّة الأولى، يَرفُضُ المؤمِنُ خُضوعَه للشَّيطان، ويُعلِن قبولَه بالربِّ يسوع سيِّدًا عليه، فَيَسكبُ الكاهنُ المياهَ على رأسِ المعمَّد في جرن المعموديّة، علامةً على التزام هذا الأخير بالربّ. أمّا في سرّ التَوبة، فيُعلِن المؤمِن عن رَفضِه للشَّيطان مِن خلال ذِكر خطاياه، وقبوله بالربِّ يسوع إلهًا وَرَبًّا، فيَسكُبَ المؤمِن دُموعَ التَّوبة، الّتي تُشكِّل مياهَ معموديّته الجديدة. إنّ المؤمِن يَتقدَّمُ مِن سِرِّ التَّوبة وهو على يَقين أنَّ الربَّ غَفَرَ له خطاياه. وهنا يُطرَح السُؤال: كيف عسانا نزرع هذا اليَقين في نفوس الآخَرين الّذين أخطأوا إلينا، وقد تابوا بعد ذلك إلى الله؟ نستطيع ذلك مِن خلال غفرانِنا لهم، لأنَّه إنْ لم نَغفِر لهم، نَكون سببَ عَثرةٍ لهم تَمنعهم من التّوبة، أي من العودة إلى الله، إذ سيَعتقد هؤلاء الخطأة أنَّه لا أملَ لَهم في الحصولِ على الغفرانِ من الله. وبالتّالي، بِعَدم غفرانِنا للآخَرين، نُصبح أعداءً لله، إذ قُمنا بِزرع أفكارٍ خاطئةٍ عن الله، أفكارٍ معاكسةٍ لِتَعاليمِ الإنجيلِ، في نفوس هؤلاء الرّاغِبِين في التَّوبة، مِن خلال كلامِنا وتَصرُّفاتنا معهم. إنّ الله أعطانا صلاحيّة الغفران للآخَرين لا صلاحيّة إدانتهم، فَهو، أي الربّ، قد علَّمنا الغفران بِغُفرانِه لنا خطايانا. لا يَحقُّ لنا أن ندين الآخَرين، لأنّنا لا نمتلِكُ الرَّحمةَ الإلهيّة، فالدَّينونة هي سُلطَةٌ إلهيّةٌ مُطلَقَة.
قال الرُّسل للربّ: "زِد إيماننا": هذه العبارة تُظهِر لنا اكتشاف الرُّسل عدم إيمانهم بالربّ، لأنَّ الربَّ يُضيف فيما بَعد فيقول لهم: "لَو كان لَكُم إيمانٌ مِثْلَ حَبَّةِ خَردَلْ، لَكُنتُم تقولون لِهَذه الجُميَّزة: انقَلِعِي وانْغَرِسي في البحر، فتُطيعُكم". إذًا، بحسَب قولِ الربِّ يسوع في هذا النَّص، عندما يكون للإنسان إيمانٌ بالربّ مِقدار حبّة الخردل، فهو يستطيع نَقل الجميَّزة مِن مكانٍ إلى آخر، أو الجبلَ مِن مكانٍ إلى آخَر، كما وَرَد في إنجيل متّى. إنَّ حبّة الخردل تتميَّز عن سائر الحبوب بأنّها الأصغر بَينَها جميعًا، كما تتميَّز بِطَعمِها الـمُرّ. فكما أنّ الإنسان لا يستطيع إخفاء المرارة الّتي يشعر بها حين يتناول حَبّة الخردل، كذلك لا يستطيع المؤمِن أن يُخفي إيمانه بالربّ، لأنّ إيمانه سيَظهر للآخَرين مِن خلال كلِّ عملٍ يقوم به مَعَهم. إنّ الجميَّزة في إنجيل لوقا لها أهميّة كبرى: فهو قد كلَّمنا عن الجميَّزة لا في هذا النَّص وحسَب، بل أيضًا في نَصِّ زكَّا العشَّار، فأخبرنا الإنجيليّ لوقا أنَّ زكَّا قد تسلَّق جُمَيَّزةً لِيَتمكَّن هذا الأخير مِن رؤية الربِّ يسوع. أمّا في إنجيل متّى، فيُكلِّمنا الإنجيليّ عن قُدرة المؤمِن بالربّ على نَقلِ جَبلٍ مِن مكانٍ إلى آخَر، والجَبل في العهد القديم كان مكان ظهور الربّ على الأنبياء. وبالتّالي، حين يؤمِن الإنسان بالربّ، يستطيع أن يَنقُلَ الجبل مِن مكانٍ إلى آخَر، أي أنّه يستطيع أن يَنقُل المؤمِنُ اللهَ مِن مكانٍ إلى آخَر؛ بمعنى آخَر، ينتقِلُ الربُّ مع الإنسان إلى كلِّ مكانٍ يتواجد فيه هذا الأخير، أي أنّه كلَّما تحرَّك المؤمِن تَحرَّك معه الله. هذه هي الأعجوبة الّتي يستطيع الإنسان القيام بها حين يُؤمِن بالربّ.

اليوم، نحن نتحضَّر للقاء الربِّ المولود، في عيدٍ أصبحنا نُجهِّل صاحِبه إذ أصبَحنا نقول عيد الميلاد، لا عيد ميلاد الربّ. إخوتي، إنّ إلهَنا هو إلهُ حَدَثٍ لا إلهَ مكانٍ وزمان. إنّ كلَّ إلهٍ وثنيٍّ له مدينةٌ خاصَّةٌ به، يَعبُده فيها سُكّانُها، في حين أنّ هذا الإله يبقى مجهولاً في الـمُدن الوثنيّة الأخرى، وبالتّالي إذا حَصَرْنا إلهَنا في زمانٍ أو مكانٍ مُعيَّنَين، يتحوَّل إلهُنا إلى إلهٍ صَنمٍ. إنّ الربَّ يسوع ليسَ إلهَ مكان ولا إلهَ زمانٍ، أي أنّه لا يستطيع أن يكونَ قصَّةً مِن التَّاريخ، مَرّ عليها زَمنٌ وانتهَتْ، إنّما هو إلهُ حَدَثٍ، أي حينَ يَحضُر الربُّ يكون هناك حَدَثٌ مُهمٍّ سَيَتِمُّ. إذًا، حضور الله مرتَبِطٌ بالحَدَث الّذي سَيتِمُّ. حين أرسَل الله موسى إلى شَعبِه ليُخلِّصهم مِن العبوديّة، سأله موسى عن اسمِه، فأجابَه الله: "أَهْيِه أَشِر أَهيه"، الّذي يَعني في العِبريّة: "أكون الّذي أكون"، وبالتّالي أراد الربُّ أن يُعرِّف موسى عن الله للشَّعب بأنّ إلهَهم هو إلهُ حَدَثٍ، لا إلهَ مكان أو زمان. وانطلاقًا مِن هذا الكلام، نستطيع القول إنّه لا فائدةً حِسِيّةً ملموسةً يحصل عليها المؤمِن حين يحِجُّ إلى الأراضي المقدَّسة، فَهُم لن يتمكَّنوا من رؤية أيِّ شيءٍ مميَّز في كنيسة المهد، أو عند قبرِ الربّ، مُختَلِف عن سائر الكنائس أو المناطِق في العالَم، فالربُّ ليس موجودًا في أورشليم أو بيت لَحم، الواقِعَتين في الأراضي المقدَّسة، بل إنَّ الربّ موجودٌ مع كُلِّ مؤمنٍ أينما وُجِد في العالَم. وبالتّالي، في عيد ميلاد الربّ، نحن ذاهبون لمواجهة المولود، أو بالأحرى هو سيواجِهنا، ممّا يدفعنا إلى طَرحِ السُّؤال على ذواتِنا حول هويّة هذا المولود: مَن هو هذا المولود الّذي نُواجِهُه؟ هل هو مجرَّد طِفلٍ أم أنّنا ننظر إليه على أنّه أيضًا إله؟ إنّ الإنجيل لا يُقدِّم لنا الربَّ يسوع على أنّه طِفلٌ فقط، بدليل أنّ الإنجيل يُخبرنا أنّ المجوس الوثنيِّين الّذين لا يؤمنون بالله وبكلمته الإلهيّة، قد أتوا للسُّجود لهذا الطِّفل وفي أيديهم هدايا له: الذّهب يُشير إلى أنّ هذا الطِّفل المولود هُوَ مِلكٌ، والبَخور يُشير إلى أنّ هذا المولود هو إلهٌ، والـمُرّ يشير إلى أنّ هذا المولود الإله والـمَلِك سيتألّم. وبالتّالي هذه الهدايا تُشير إلى أنّ هذا الطِّفل المولود هو إلهٌ مُختَلف عن سائر الآلهة، فهو ليس إلهًا قهَّارًا، بل هو إلهٌ يتألَّم من أجل البشر. إنَّ الربَّ يسوع قد ذاقَ الـمُرَّ، على الصَّليب. إنَّ هؤلاء المجوس الوثنيِّين الآتِين من بلادٍ غير يهوديّة، قد اكتشفوا هويّة الطِّفل المولود فاعترفوا بربوبيّته عليهم؛ في حين أنَّ هيرودس ومعه كلّ سُكّان أورشليم، اليهوديّة الأصل، لم يتمكَّنوا مِن اكتشاف حقيقة هذا الطِّفل، إذ رأوا فيه إنسانًا لا يُحتَمل، لأنَّه شكَّل خَطرًا على ممالِكهم الأرضيّة. لا يستطيع الإنسان أن يتعرَّف على الربِّ يسوع ويبقى على حاله، بل يُعلِن عن رغبته في تغيير مسارِه، بمعنى آخَر يُعلِن عن توبته، أي عودته إلى الله.

إنّ المفهوم الحقيقيّ للميلاد يتضِّح لنا جَليًّا مِن خلال نبوءة إشعيا الّذي أعلَن قائلاً: "إنّ العذراء تَحبَلُ وتَلِد ابنًا ويُدعى اسمه عمّانوئيل" (7: 13). إنّ اسم "عمانوئيل" هو اسمٌ عِبريّ، ويَعني الله مَعنا. إنّ عمانوئيل سَيُخلِّص شعبه، أي أنَّه سيَغفر لهم خطاياهم. في سِفر إرميا ، يقول لنا الربُّ بِلِسان النبيّ: "سَأفتَحُ معهم عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الّذي قَطَعتُه مع آبائهم، بل عهدًا جديدًا بقلوبهم، لأنِّي سأغفر لهم خطاياهم، ولن أذكرها مِن بعد"(إرميا 31: 31). إنّ الإنسان ينسى جميع حسنات أخيه مَتى أخطأ هذا الأخير تجاهه، وقد يسامح أخاه على خطيئته، ولكنّه لا ينسى له أبدًا تلك الخطيئة. أمّا الله، فإنَّه ينسى كلَّ خطايا الإنسان ولا يعود يَذكُرها له، متى عاد إليه هذا الأخير تائبًا. إنَّ غفران الله لخطايا الإنسان ليس مرتبطًا بِوَضع الإنسان إنّما بِحُبِّ الله، شَرطَ أن يَقبَل الإنسان محبَّة الله له وغفرانه. تكمن مشكلة الإنسان في اعتقاده بأنَّه يستطيع أن يُصبح قدِّيسًا بِمَجهودِه الخاصّ، ولكن الحقيقة هي أنّ الإنسان يُصبح قدِّيسًا حين يَقبَل هذا الأخير غفرانَ الله لخطاياه، ويُعبِّر عن ذلك بإعلان ربوبيّة يسوع عليه، في سرّ التَّوبة. إذًا، القداسة هي عطيّةٌ مِن الله للبشر، وما على الإنسان إلّا السَّعي إلى المحافظة عليها، لِكَي لا يخسَرها بأعمالِه السَّيئة. في هذا الإطار، يقول لنا الإنجيليّ إنّ مريم العذراء كانت "تَحفَظُ كلَّ شيءٍ وتتأمَّله في قَلبِها". إنّ عبارة "تَحفظ"، لا تعني تسميع كلمة الله غيبًا، إنّما المحافظة على تلك الكَلمة الإلهيّة مِن الفساد، فلا تتحوّل هذه الأخيرة إلى سبب عثرةٍ للآخَرين بسبب تصرُّفاتنا، فَنُقدِّم للآخَرين من خلال أعمالِنا السَّيئة، إلهًا مختلفًا عن الإله الّذي يُخبرنا عنه الإنجيل.

إذًا، في عيد ميلاد الربّ، علينا أن نَقبَل عطيّة الله المجانيّة لنا. ففي حدثِ الميلاد كما رواه لنا الإنجيليّون، نَكتشِف ما يلي: في ميلاد الربّ، أعطَتْ السّماء نَجمةً وملائكةً؛ والأرض أعطَتْ بَيتًا للإله المولود، والملائكة قدَّموا تسبيحًا للربِّ، والرُّعاة نَقلوا البشارة، والبشريّة أعطَتْ عيَّنةً بشريّة، هي العذراء مريم، والله أعطى البشريّة الغفران المجانيّ. هنا، نَطرَح السُّؤال: في هذا العيد، كيف عسانا نشارك في العطاء؟ إنّ هذه السَّنة، قد ساهَمت في أن نُدرِك الجوهَر الحقيقيّ للعِيد، بَعيدًا عن الأضواء والبهجة والهدايا والمأكولات، الّتي اعتدنا عليها في مِثل هذه الفترة مِن السَّنة؛ ففي هذه السَّنة لم يبقَ لنا في ظلّ هذه الظُّروف إلّا مواجهة الطِّفل المولود، مَلِك اليهود. إنّ الحاجة الَّتي وَصلنا إليها، جَعلَتْنا مشابِهين لِلعازر على باب الغنيّ الّذي كلَّمنا عليه لوقا الإنجيليّ في نَصٍّ آخَر: إنّ الغَنيّ اليوم هو الربُّ، وهو على عكس الغنيّ في النَّص، سيَخرُج إلى لقائنا ليُعطي كلَّ واحدٍ مِنّا حاجاته، إذ سَيلَتفِت إلينا ويمسح كلَّ دَمعةٍ من عيونِنا، ويُبَلسم حروجاتنا.
إذًا، في هذه السَّنة، نحن نقرِّر إذا ما كنّا نريد أن نعيش جوهر العيد أم لا، مِن خلال نَظرتنا إلى الأمور من حولِنا. نحن نستطيع أن نعيش جوهر هذا العيد، حين نَقبل بأن نكون نحن المولود الجديد في هذا الحَدث الميلاديّ، فَنُمارس ثقافة الغفران مع إخوتِنا البشر الّذين أساؤوا إلينا، متى تابوا إلى الله. على أمل ورجاء أن نذهب إلى العيد وفي أيدينا، سلالٌ مِن الغفران لِنَضعها أمام الربّ المولود، بدلاً مِن البخور والذّهب والمرّ، الّتي قدَّمها له المجوس.
أعيادًا مجيدة.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف.
5/11/2020 تأمّل في إنجيل لوقا 14: 15-24 "مثل الوليمة العظيمة"
https://youtu.be/wkmoGkJr4TM

تأمّل في إنجيل لوقا 14: 15-24
"مَثَل الوليمة العظيمة"
الأب ابراهيم سعد

5/11/2020

"فلمّا سَمِع ذلك واحدٌ مِنَ المتَّكئين، قال له: "طوبى لِمَن يأكلُ خُبزًا في ملكوت الله". فقال له: "إنسانٌ صَنع عشاءً عظيمًا ودَعا كثيرين. وأرسَل عَبدَه في ساعة العشاء، ليقول للمَدعوِّين: تعالَوا لأنّ كُلَّ شيءٍ قد أُعِدَّ. فابتدأ الجميع برأيٍ واحدٍ يَستَعفون. قال له الأوَّل: إنِّي اشتريتُ حَقلاً، وأنا مُضطَّرٌ إلى أن أخرج وأنظُرَه. أسألك أن تُعفيَني. قال آخر: إنِّي اشتريْتُ خمسة أزواجٍ بَقرٍ وأنا ماضٍ لأمتَحِنَها. أسألك أن تُعفيَني. قال آخر: تزوَّجتُ بامرأةٍ، فلذلك لا أقدِرُ أن أجيء. فأتى ذلك العبدُ وأَخبرَ سيّدَه بذلك. حينئذٍ، غضبَ ربُّ البيت، وقال لِعَبده: أخرُج عاجلاً، إلى شوارع المدينة وأَزِّقَتِها، وأَدخِلْ إلى هنا المَساكين والجُدْعَ والعُرجَ والعُميَ. فقالَ العَبدُ: يا سيِّدُ، قد صار كما أَمرْتَ؛ ويوجدُ أيضًا مكانٌ. فقالَ السَّيِّدُ للعَبد: أُخرُج إلى الطُرُق والسِّياجات وألْزِمْهم بالدُّخول حتّى يمتلِئَ بيتي؛ لأنِّي أقول لكم: إنّه ليسَ واحدٌ مِن أولئك الرِّجال المَدعوِّين يذوقون عشائي." (لوقا 14: 15-24)

يُقدِّم لنا هذا النَّصُّ قِصَّةً لا منطِق فيها: أوَّلاً، مِن حَيثُ طريقة الدَّعوة؛ ثانيًا مِن حيثُ الـحُجَج المقدَّمة للتَّعبير عن رفضِ الدَّعوة. يبدأ هذا النَّص بعبارة: "طوبى لِمَن يأكُلُ خبزًا في ملكوت الله"، وهي نتيجة حديثٍ أعطاه الربُّ يسوع في المقطع الإنجيليّ السَّابق لهذا النَّص. وفي خُلاصةٍ لِما وَرَد في المقطع السَّابق، طلب الربُّ يسوع إلى السَّامعين له، أن يقوموا بدعوة الّذين لا يستطيعون مكافأتهم، إلى تناول العشاء معهم، إذ قال لهم: إنْ دَعيْتُم إلى العشاء معكم مَن يستطيع دعوتكم في المقابل، كالجيران والأصدقاء والأقارب، فأيُّ فضلٍ لكم؟ إنَّكم قد نِلتُم مكافأتكم على هذه الأرض. أمّا إذا دَعَيْتُم إلى العشاء الّذين لا يستطيعون مكافأتكم، كالفقراء والمساكين والعُرج والعميان، فإنّكم ستنالون مكافأتكم لا من الأرض بل مِن السَّماء.

انطلاقًا ممّا سَبَق، أَخبَرنا الإنجيليّ لوقا هذه القصَّة، فقال لنا إنَّ سيِّدًا قد دعا إلى العشاء أشخاصًا يَعرِفهم، فتَمَّنَعوا عن الحضور إلى هذا العشاء، لأسبابٍ واهيةٍ، غير منطقيّة وغير مقنعة. يُخبرنا الإنجيليّ لوقا أنّ هذا السَّيد قد أقام عشاءً عظيمًا ودعا إليه الكثيرين، ولكنّ الغريب في الأمر، هو أنّ هذا السَّيد دعا هؤلاء إلى العشاء في ساعة العشاء، لا قَبْل موعد العشاء بِفَترةٍ زمنيّة: عادةً، يقوم الإنسان بدعوة النّاس إلى مشاركته مُناسبةٍ تَخصُّه، مُسْبقًا، مُحدِّدًا لهم الزَّمان والمكان، مُتَمنيًّا عليهم الحضور. وهنا يقول لنا الإنجيليِّ: "فابتدأ الجميع برأيٍ واحدٍ يَستَعفون"، وهذا يعني أنّ الجميع قد اتَّفَقوا على عدم الحضور، مُقدِّمِين حُجَجًا غير منطقيّة، إلى الخادم الّذي أرسَلَه السَّيِّدُ لِدَعوتهم. كانت الـحُجَّة الأولى أنّ الـمَدعوّ إلى العشاء قد اشترى حَقلاً وهو يريد أن يذهب لِيَراه في المساء. وهنا ما يُثير الاستغراب إذ إنّ الإنسان لا يشتري حقلاً أو أيَّ شيءٍ آخر مِن دون أن يراه مُسبقًا، كما أنّ الإنسان لا يذهب في اللَّيل لرؤية الحقل بل في النَّهار. وبالتّالي، فإنَّ هذه الـحُجَّة هي غير مبُرَّرة وغير منطِقيّة. أمّا الـحُجَّة الثانية، فكانت أنّ الـمَدعوَّ إلى العشاء يريد أن يَمتَحن في وقت العشاء أزواج البقر الخمسة الّتي كان قد اشتراها. وهنا أيضًا ما يُثير الاستغراب إذ لا يَمتحِن الإنسانُ البَقر في وقت العشاء، أي في اللَّيل، بل في النَّهار. وبالتّالي، هذه الـحُجَّة أيضًا هي غير مُبرَّرة، وغير منطقيّة. أمّا المدعوُّ الثالث، فقد تحجَّج بالمرأة الّتي تزوَّجها. وفي هذا الإطار، نقول: هل الزوَّاج يمنعنا مِن الذَّهاب إلى عشاءٍ تكريميّ أقامَه سيِّدٌ عظيمٌ على شَرَفِنا؟ وبالتّالي هذه الـحُجَّة أيضًا هي حُجَّة غير مُبرَّرة وغير منطِقيّة. إنَّ هذه الـحُجج الثلاثة غير المنطقيّة تَمَحوَرَت حول الحقل والبَقر والمرأة، وهذه الأمور الثلاثة تَمنَح الإنسانَ حياةً واستقرارًا وطُمأنينة؛ وبالتَّالي نجد أنَّ الإنسان قد قرّر التهرُّب مِن هذا السِّيِّد، أي الربّ، لأنّه وَجد الاستقرار والحياة والطمأنينة بعيدًا عنه، بمعنى آخر شعرَ الإنسان أنّ لا حاجة له إلى الربّ. إنّ هؤلاء الـمَدعوِّين قد اعتقدوا أنّه بِتَغيُّبِهم عن العشاء، يُلغى العشاء. ولكن استنادًا إلى هذا النَّص، نجد أنَّ العشاء قد استمرَّ، إذ طلبَ ربُّ البيت مِن خادمه أن يذهب إلى الطرقات ويدعو المهمشِّين إلى عشائه، وهم أشخاصٌ مرذولون مِن المجتمع، عادةً لا تتمُّ دعوتَهم إلى المناسبات الاجتماعيّة، فَلبُّوا تلك الدّعوة، وتمَّ العشاء. إذًا، لقد استمرَّ العشاء، ولكن مع تغيير في المدعوِّين. قد يحضر إنسانٌ حفلةَ زفاف، فيُخيَّل إليه أنّ الّذين تمَّتْ دعوتهم إلى تلك الحَفلة هم فقط الحاضرون، ولكنّه يَغفل أنَّ العريس قد دعا عددًا أكبر من ذلك بكثير، ولكنَّ قِسمًا منهم قد اعتذر عن الحضور، فاعتقد هذا الإنسان أنَّ المدعوِّين إلى هذه الحفلة هُم فقط الّذين لبّوا تلك الدَّعوة. إنّ المدعوَّ لا يُسمَى مدعوًّا إلّا إذا لبَّى الدَّعوة.

إذًا، لا امتيازَ أبديًّا للإنسان في ما يخصُّ تلبيَتَه دعوة الله. هذه هي مشكلة اليهود، إذ اعتقدوا أنّهم أصبحوا شعب الله المختار حين لبُّوا دعوته، واعتقدوا أنّ هذا الامتياز محصورٌ بهم، ولا يمكن لله أن يختار شعبًا آخرَ له سواهم. بمعنى آخر، اعتقد الشَّعب اليهوديّ أنّ القرار هو مُلكُهم، أي أنّهم يستطيعون حين يشاؤون عدم تلبية دعوة الله لهم، أي التخلِّي عن الربّ، فيُصبح الله من دون شعب؛ وحين يشاؤون يُلبُّون دعوته، فيعودون إليه، ويُصبحُ اللهُ من جديد إلـهَهم، وَهُم شعبه. إنّ الله ليس حِكرًا على شعبٍ معيَّن، فحين يرفض شعبٌ ما دعوةَ الله، لن يتوقَّف مشروع الله، إذ سيقوم الله سريعًا بالبحث عن شعبٍ آخر ليتابع معه مسيرة الخلاص، فَهدفُ الله الأساسيّ، هو أن يتحقَّق مشروعه الخلاصيّ للبشر، مع الشَّعب المختار، أي الشَّعب اليهوديّ، أو سِواه من الشُّعوب. لقد اعتقد الشَّعبُ اليهوديّ أنَّه يستطيع أن يَحصُر الله بكلمته الإلهيّة، غير أنّ كلمة الله لا تَحصُر الله، بل الشَّعب الّذي يَتبَعُه. إنّ الله حرٌّ مِن كلمته، فهو يستطيع أن يتراجع في أيِّ وقتٍ عن كلمته، من دون سابق إنذارٍ أو تبرير، ولا يَحقُّ للإنسان أن يلوم الله على تصرُّفاته أو اختياراته. كذلك إنّ الإنسان حُرٌّ في قبول كلمة الله أو رَفضِها، ولكنْ في حالِ رَفَضَها لن يحصل على الخلاص الّذي يمنحه الله لشعبِه. اعتقد الشَّعب اليهوديّ أنّه يستطيع تهديدَ الله بالابتعاد عنه إنْ لم يُحقِّق له كلّ رغباته، لذا نجد أنَّ الشَّعب في الصَّحراء قد انتفضَ على موسى حين جاع، وسأله أن يطلب إلى إلهه أن يُرسِل إليه الطَّعام، وإلّا عاد إلى مِصر أرضِ العبوديّة، فاستجاب الربُّ لِطَلبِ موسى وأعطى الشَّعبَ طعامًا، إكرامًا لموسى الّذي لبَّى دعوة الربِّ له. إنّ الربَّ اختار نبيًّا آخر، حين قام موسى بِمَعصيّة أوامر الربِّ: فالربُّ كان قد طلب إلى موسى أن يتكلَّم مع الصَّخرة سائلاً إيّاها أن تُعطيهم ماءً، ولكنّ موسى ضرب الصَّخرة لِيَحصل على الماء منها، وقد حصل عليه، ولكنَّ الربَّ مَنعَه من الدُّخول إلى أرضِ الميعاد واختار الله شخصًا آخر هو يشوع بن نون، لمتابعة مشروعه الخلاصيّ مع الشَّعب. وهنا يُطرَح السُّؤال: أكان يستحقُّ عَملُ موسى أن ينال هذا الأخير العِقاب؟ إنّ الله دقيقٌ في محاسبةِ الّذين يختارُهم ليكونوا مسؤولِين عن إيصال مشروعه الخلاصيّ إلى البشر. إنّ مشكلة الله مع الّذين يختارهم كمُرسَلين مِن قِبَلِه إلى الشَّعب، هو أنّ هؤلاء لا يتردَّدون في إبداء آرائهم في مشاريع الله، عندما يلبُّون دعوته لهم. إنّ الله لا يريد من الإنسان إلّا أن يَقبَلَ مشروعه له، لا أن يُبدي رأيه فيه. إنّ الله قد أرسل إشعيا لإعلان كلمته للشَّعب "الغليظ الرَّقبة"، أي إلى الشَّعب العنيد، والقاسي القلب. عندما سَمِع إشعبا النبيّ دعوةَ الله، حاول أن يتهرَّب منها، فتحجَّج بنجاسة شَفَتَيه. عندها أرسل الربُّ ملاكَه إلى الـمَذبح وطلب إليه أن يُطهِّر شفَتَي إشعيا بجمرةٍ مِنَ المذبح، ليتمكَّن هذا الأخير من الإنطلاق في الـمَهمَّة الّتي أرسَله الله إليها. إنّ الله لم يُطهِّر قلبَ إشعيا ولم يُحوِّله إلى قدِّيس، بل طهَّر له شَفَتَيه فقط، لأنّ الـمَهمَّة الّتي أرسلَه إليها الله لا تتطلَّب القيام بأعمال خارقة وأعاجيب، بل فقط إعلان كلمة الله إلى الشَّعب "النَّجِسُ الشِّفاه". إذًا، عندما يريد الله إيصال كلمته إلى الآخَرين، يختار الطريقة الّتي يراها هو مناسِبة، لا الطريقة الّتي يراها الإنسان المختار لِتِلك الـمَهمَّة مُناسِبةً له للقيام بما أُمِر به.
إنّ قداسة الإنسان ليسَت شرطًا يستندُ إليه الله لاختيار مُرسَليه، لإيصال كلمته إلى الآخَرين، لأنّه لو أراد الله انتظار مُرسَليه كي يُصبحوا قدِّيسِين، لما كانت كلمته قد وَصَلت إلينا. وبالتّالي، على الإنسان الّذي يقرِّر تلبية دعوة الله له وإيصال الكلمة الإلهيّة إلى الآخَرين، أن يسعى إلى أن تكون حياته وتصرُّفاته منسجمة مع كلمة الله، فينجحَ في مَهمَّته. إنّ الله قد اختار إرميا ليُوصِل كلمته إلى الشَّعب، وطلبَ إليه أن يهدم ويكسر كلّ أفكارهم القديمة، وأن يغرس كلمة الله فِيهم ويَبْنِيها في نفوسهم. اعترضَ إرميا على دعوة الله له بالقول إنّه لا يزال وَلدًا، فكان جواب الله له إنّه قد اختاره مِن حشا أمِّه لهذه الرِّسالة، ودعاه إلى عدم الخوف مِن الّذين سيبشِّرهم، لأنّه سيكون إلى جانبه، وسيجَعله "مدينة حصينة" وسَيُقوِّيه ويَسنُدَه في كلّ ما يقوم به. عندما يريد الربُّ إيصال كلمته، فإنّه يُوصِلها مِن خلال خاطئ أو قدّيس، وهذا ما لا يَقبَله البشر، لأنَّنا نجد أنّ الشَّعب اليهوديّ، شعبَ العهد القديم، ينتقِدُ أعمالَ الربّ، إذ لا يقبَل أن يكون داوود، على سبيل الـمِثال، مُختارًا مِن الله، وهو أي داوود، قد أرسَلَ رئيسَ جنودِه إلى الحرب ووضَعه في المراكز الأماميّة ليُقتَل، فيتمكّن من الزَّواج مِن امرأته. إنّ تصرُّفَ داوود هذا، يدفعنا إلى ملامة الله على اختياره للبشر، الـمُرسَلين مِن قِبَله. إنّ الله لا يهتمّ لخطايانا ولا يتوقّف عندها، فَما يَهمُّه هو استمرار مشروعه الخلاصيّ عبر التّاريخ، بالطريقة الّتي يراها هو مُناسِبة. قد يتذرَّع البعضُ بتصرَّفات مِثل هؤلاء المختارين ليقولوا إنّهم يريدون التصرُّف كما يتصرَّف الله ويختار مُرسَليه. وهنا أودُّ أن أذكِّر أمثال هؤلاء، أنّهم لا يزالون بشرًا وبالتّالي لا يمكنهم التشبُّه بالله، وبالتّالي علينا الخضوع لكلمة الله والعمل على عيشها في حياتنا، إنْ كُنّا نريد الحصول على الخلاص. للأسف، إنّ بعض التعاليم الخاطئة، دَفعت بالمؤمنِين إلى الاعتقاد بأنّ الله أصبح مُساويًا لهم، لأنَّه تجسَّد في أرضِ البشر، وبالتّالي لجأوا إلى إلى أسلوب الترهيب والتَّرغيب: فهدّدوا الله بالابتعاد عنه إنْ لم يُحقِّق لهم ما يريدونه، كما قد لجأوا إلى استعمال أسلوب الترغيب مع الله، فعَمَدوا إلى تقديم النُّذورات له، كنوعٍ من الرَّشوة، في محاولةٍ لاستمالة الله ليُحقِّق لهم رغباتهم. إخوتي، إنّ الله لا يُرَهَّب ولا يُرَّغب. إذًا، الله يتكلَّم، وعلى مَن يسمَع نداءه، أن يُلبيّ، ليكون ضمن شعب الله. ولكنْ حين يتوقّف هؤلاء عن تلبية نداء الله، يتوقَّفون عن كونهم "شعب الله"، لأنّهم ما عادوا يلبُّون دعوة الله لهم، فيتحوّلون إلى أعداء الله، حتّى ولو كانوا في نَظرِ أنفسِهم لا يزالون ضِمن شعب الله. فَلِهذا الاسم بُعدٌ وظائفي، وبانتهاء هذا البُعد، يزول هذا الاسم عن الشَّعب، الّذي لا يخضع لكلمة الله وندائه. إنّ الشَّعب اليهوديّ أعلَن قبولَه دعوة الله له، ولكنّه في العمق رَفض تلك الدَّعوة، إذ اعتقل الربّ واقتاده إلى الموتِ صَلبًا، ونحن اليوم لسنا بأفضلِ حالٍ منه،لأنَّنا نَصلُب الربَّ في كلّ يومٍ بطُرقٍ مختلفة، ومنها: رَفضُ تلبية دعوته لنا لمشاركته العشاء بِحُججٍ واهيةٍ، مِن خلال إهمالنا لحاجات إخوتنا المهمَّشين والفقراء. ما هو مطلوبٌ مِنّا إذًا، هو العمل على تلبية حاجات إخوتنا ضِمن قُدراتِنا المتاحة لنا.

إنّ هذا العشاء، هو صورةٌ عن اليهود، الّذين رَفضوا تلبية دعوة الله لهم للعشاء. منذ القديم، قام الله بِتَهيئة الشَّعب لمجيء المخلِّص مِن خلال أنبياء كثيرين قام بإرسالهم لهذا الشَّعب، فأعلن الشَّعب قبوله هذه الدَّعوة، ولكنّه رَفض تلبيتها، وعندما جاء المسيح قدَّم له حُججًا واهية، تعبيرًا عن رفضه لتلك الدَّعوة. وأهَمُّ تلك الـحُجج الّتي قدَّمها الشَّعب هي أنّ مجيء الربِّ سَيُزعزع سُلطَةَ رؤوساء اليهود، ففضّل هؤلاء قتلَ الربِّ على زعزعة استقرار الأُمَّة، إذ قال رئيس كهنة اليهود في يوم محاكمة الربّ: "خيرٌ لنا أن يموت واحدٌ عن الأُمّة". في نَظرِهم، بقاءُ الربِّ حيًّا سَيُزعزع الأمَّة اليهوديّة، إذ سيكتشف الشَّعب حقيقة الربِّ، فيَقبلون به ربًّا ومخلِّصًا، وبالتّالي لا يعود هناك مِن وجود للشَّعب اليهوديّ، إذ سيُصبح الشَّعب اليهوديّ مِن أتباع المسيح. واليوم أيضًا، نلاحظ وجودَ ذهنيّةٍ عند المسيحيّة تقوم على اعتبار ذواتِهم شعبَ الله المختار الجديد. إخوتي، إنّ الله لم يَختر شعبًا واحدًا محددًا له، بل اختار كلَّ واحدٍ منّا، على الرُّغم مِن اختلافاتنا المتعدِّدة، لنكون مِن شعبه، عندما نلبيّ دعوته لنا. إذًا، الكنيسة ليست مؤسَّسة، ولا هي جماعة، بل هي "فُتاتٌ"، أي أفرادٌ من كلِّ حدبٍ وصوبٍ، لبّوا نداء الله فشكلَّوا معًا ما نُسمِّيه الكنيسة. وبالتّالي، الكنيسة هي في حالة صيرورة دائمة، وهي لم تَصِل بَعد إلى المنتهى، لأنّ وصولَها إلى المنتهي يكون عند مجيء الربِّ الثَّاني، الّذي سيُشير إليها مُعلنًا أنّها كنيسته المختارة. إنّ الله لا يختار مُسبَقًا كنيسته، ولكن في مجيئه سَيَظهر جليًا مَن هُم الّذين ينتمون إلى كنيسة الربِ حقًّا، أي مَن هُم الّذين لبُّوا نداءه في هذا العالَم. مِن هنا، نسنتطيع أن نفهم أنّ الله لا يدعو الكاهن مُسبقًا، فحين يَقبل هذا الأخير تلبية نداء الله، يُصبح مدعوًّا لهذه الخدمة الكهنوتيّة، فيُصبح مختارًا مِن الله لهذه الخدمة. قد يرى بعض النّاس ملامح الدَّعوة الكهنوتيّة في هذا أو ذاك، ولكنَّ هذه الدَّعوة لا تُصبح دعوةً حقيقيّة إلّا عند تلبية هذا الأخير نداء الربِّ له لهذه الخدمة، فيُصبح مدعوًّا. لا يوجد كهنوتٌ باقٍ إلى الأبد، إلّا كهنوت يسوع المسيح، على رُتبَةِ ملكيصادق. فالكاهن لا يستمدُّ الكهنوت مِن ذاتِه إنّما مِن الله. إنَّ كهنوت الكهنة، يَخرُج مِن الكأس المقدَّسة، وهذا يعني، أنّ الربَّ يسوع هو الذبيحة وهو في الوقتِ نفسه مُقدِّم الذبيحة، وبالتّالي، ما الكاهنُ إلّا أداةً حسِّية يستخدمها الله، لاحتفال الشَّعب بِذَبيحة الله. إنّ الكاهن هو أيقونةُ الله أمام الشَّعب. إنّ خَتمَ الله، أي ذبيحة الله، يبقى، ولكنّ الأداة الّتي يستخدمها الله في هذا الخَتم قد تتغيَّر، إذ لم تَعُد تلك الأداة صالحة. نحن شعبُ الله، ولكنّنا قد نُصبح أعداءَ الله إذا رفَضْنا تلبية دعوة الله لنا، وبالتّالي ما من شيءٍ دائمٍ إلى الأبد، إن لم نكن على مستوى المسؤولية الممنوحة لنا مِن الربّ. إنّ الله لا يريد منّا أن نُعبِّر له عن قبولِنا بِدَعوته مِن خلال تقديم البخور له أو تمتمة بعض الصَّلوات أمامه؛ ففي العهد القديم، يقول لنا الربُّ إنّه يرفض محارقنا وذبائحنا وصلواتنا الّتي نقدِّمها له في الهيكل، إنْ لم نَكن نهتّم بالبائس واليتيم والأرملة. إنّ الآخَر المحتاج هو المذبح الحيّ لله، فَفِيه يسكن الله. إنّ الله يدعونا إلى الاهتمام بالمحتاجين إلينا، لأنّهم لا يستطيعون مكافأتَنا على خِدمتنا لهم على هذه الأرض، ولكنَّ الربَّ سيكافِئُنا على عملِنا معهم في السَّماء. على كلِّ مسيحيِّ أن يكون على استعدادٍ دائمٍ لتلبية دعوة الربِّ للعشاء في أيِّ وقتٍ كان، إذ ما مِن أحدٍ منّا يستحقُّ أن يشارك الله وليمتَه السَّماويّة. وبالتّالي، فإنّ السُّؤال الّذي يُطرَح علينا هو: هل نحن على استعدادٍ للقاء الربِّ والعشاء معه؟ إنّ الله يدعو الجميع لخدمتِه، ولكنّ الرَّاهب والرَّاهبة والكاهن، يُعَبِّرون عن استعدادهم للتكرُّس له، في الحياة الديريّة، أي في مكانٍ مغلق. ولكنّ كلّ واحدٍ منّا، أعزبَ كان أم متزوِّجًا، يستطيع أن يخدم الربّ مِن خلال الموهبة الّتي أعطاه إيّاها الله. إنّ الله أعطى الجميع مواهب، ولكن لكلِّ واحدٍ موهبةٌ مختلفة عن الآخَر. إنّ جميع المواهب مُفيدة وهي على المستوى نفسِه بالنِّسبة إلى الربّ: فالّذي يهتّم بنظافة الكنيسة لا يقلُّ شأنًا عن الكاهن الّذي يخدم الرعيّة، أو عن الّذي يرتِّل، فالربُّ يقول لنا: "في بيت أبي، منازلٌ كثيرة" (يو 14: 2). إنّ الله قد يدعو مؤمِنًا لِـخِدمةٍ مُعَيّنة، ولكن لا يمكننا أن نقول عنه إنّه مدعوّ إلّا عند تلبيَتِه تلك الدَّعوة. إنّ الحصول مثلاً على بطاقة دعوة لحضور حفلٍ موسيقيّ، له شعور مختلف عن تلبية هذه الدَّعوة وَرُؤية الموسيقيِّين عن قُرب في المكان والزمان المحدَّدين على بطاقة الدَّعوة. ولكن فُقدانِنا للبطاقة يجعلنا غير مؤهَّلين لحضور هذا الحفل. وبالتّالي، قبولُنا بالدَّعوة يُتَرجم بالمحافظة على البطاقة إلى يوم الحَفل. كذلك المسيحيِّون لا يمكنهم أن يكونوا على الدَّوام شعب الله المختار، إنْ لم يحافظوا على الدَّوام على استعدادهم لِتَلبيَةِ نداءات الربّ. كان الشَّعب اليهوديّ مستعدًّا للقاء الربِّ، ولكنْ حين جاء الربّ قدَّم له حُججًا واهيةً تعبيرًا عن رفضِهم له، وبالتّالي لم يعودوا شعبَ الله المختار، ولكنّ وَثنيِّين رأوا الربّ، وسمِعوا نداءه فلبُّوا دعوته، ودخلوا إلى وليمته السّماويّة في الملكوت. إنَّ إيمانَنا بالربّ، وقبولَنا لدعوته، واستعدادنا للقائه، يوصِلُنا إلى الملكوت.
إذًا، نحن على هذه الأرض، في مرحلة تدريبٍ دائم، لنكون على استعداد للقاء الربِّ عندما يأتي. ولكنَّ المشكلة هي أنّنا لا نعرف الوقت؛ والحلّ هو أن نكون مستَّعدين في كلِّ وقت. إنّ كلمة "غدًا"، هي كلمة شيطانيّة، أمّا كلمة "الآن" فهي كلمة إلهيّة.
ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة من قِبَلنا بتصرُّف.
22/10/2020 تأمّل في إنجيل "لوقا 5: 1-11" الإنجيل خطاب ورسالة
https://youtu.be/ZqDoSMeb2ck

تأمّل في إنجيل "لوقا 5: 1-11"
الأب ابراهيم سعد
لقاء الشبيبة

22/10/2020

إنَّ حديثنا اليوم سيتمحوّر حول نصّ الصَّيد العجائبي. تَرِد هذه الحادثة عند يوحنّا الإنجيليّ بَعْد القيامة، في حين أنَّ باقي الإنجيليِّين يَذكرونها قَبْل قيامة الربّ.
واليوم، سأتلو عليكم هذا النَّص، كما رواه القدِّيس لوقا (5: 1-11): "فدَخل إحدى السَّفينَتَين، الّتي كانت لِسمعان، وسأله أن يَبعُد قليلاً عن البَرّ. ثمَّ جَلسَ وصار يُعلِّم الجموع مِنَ السَّفينة. ولـمّا فَرغَ مِنَ الكلام، قال لِسِمعان: "ابتَعد إلى العمق، وأَلقُوا شباكَكَم للصَّيد". فأجاب سمعان وقال له: "يا مُعلِّم، قد تَعِبْنا اللَّيلَ كُلَّه وَلَمْ نَأخُذ شيئًا. ولكنْ على كَلِمتك أُلقِي الشَّبكة". ولـمّا فَعلوا ذلك، أمسَكوا سمَكًا كثيرًا جِدًّا، فصارَتْ شَبكَتُهم تَتمزَّق. فأشاروا إلى شركائِهم الّذين في السَّفينة الأخرى أنْ يأتوا ويُساعدوهم. فَأَتوا ومَلؤوا السَّفينَتَين حتّى أَخَذَتا في الغَرَق. فلمّا رأى سمعان بطرس ذلك، خَرَّ عِندَ رُكبتيّ يسوع قائلاً: "أُخْرُج مِن سَفينَتي، يا ربّ، فإنِّي رَجُلٌ خاطِئ"، إذْ اعتَرَتْهُ وجَميعُ الّذينَ مَعَهُ الدَّهشَة على صَيدِ السَّمَك، الّذي أَخَذوه".

إنَّ هذا النَّص يَعرض علينا وِجهتَي نَظر: من جهة، وجهة نظر التَّلاميذ وعلى رأسهم بطرس، المبنيّة على الخبرة والمعرفة والاختبار والتَّعب والسَّهر واليأس؛ ومِن جهة أخرى وجهة نظر يسوع المبنيّة على كلمته الّتي غيَّرت مفهوم بطرس للصَّيد، إذ قرَّر هذا الأخير أن يرمي كلّ ما تعلَّمه عن الصَّيد في البحر، ليتمكَّن من اصطياد السَّمك مستندًا إلى كلمة الربّ. استنادًا إلى هذا النَّص، جَرَتْ هذه الحادثة في سفينة بطرس. وبَعْد الصَّيد العجائبيّ لم تتمكَّن هذه السَّفينة وحدها مِن احتواء كميّة السَّمك، فأشار الرُّسل إلى رفقائهم في السَّفينة الأخرى، لمساعدتهم. بحسب قراءتي الخاصّة لهذا النَّص، ترمز السَّفينَتَان إلى العالَم المسيحيّ: فالسَّفينة الأولى ترمز إلى المسيحيِّين من أصل يهوديّ؛ والسَّفينة الثانية، إلى المسيحيِّين من أصلٍ أُمَمِيّ، أي وثنَيِّي الأصل. إنَّ السَّفينَتَين قد امتلأتا سَمكًا. إنّ كَلمة "سَمك" في اليونانيّة، تَعني "إختيس"، وهي تُشكِّل الحروف الأولى من خمس عباراتٍ يونانيّة إذا جُمِعت، حصلنا على العبارة التّالية: "يسوع المسيح ابن الله المخلِّص". لذلك، كانت السَّمكة من الرُّموز الأولى للمسيحيّة. وبالتّالي، استنادًا إلى هذا النَّص، يمكننا القول إنّ الربَّ قد طَلبَ إلى تلاميذه أن يصطادوا البشر، ويساعدوهم على الدُّخول إلى السَّفينة الّتي ترمز إلى الكنيسة.
كان بطرس صيَّاد سَمك، أي أنّه كان يَعلَم في أيِّ وقتٍ عليه الذَّهاب إلى البحر لاصطياد السَّمك، ألا وهو في اللَّيل. لذلك، نجد هذا الجواب لبطرس عن كلام يسوع: "يا مُعلِّم، قد تَعِبْنا اللَّيلَ كُلَّه وَلَمْ نَأخُذ شيئًا"، إذ مِن الطَّبيعي أن يتوقَّف الصَّيَّاد عن الصَّيد ويستسلم وييأس، حين يجد أنّه على الرَّغم من كلّ جهده في اللَّيل، لم يتمكَن من اصطياد سَمك. حين وَصل بطرس إلى أقسى درجات اليأس، طَلب إليه الربَّ أن يرمي شبكته للصَّيد، بمعنى آخر، حين يصل الإنسان إلى مرحلة من اليأس يَتدخَّل الربُّ في حياته، ليقول له إنّ الوقت قد حان لِعَمِله الإلهيّ. ما طلبه الربُّ إلى بطرس، كان أمرًا غير منطقيّ بالنِّسبة إلى الصَّيَّادِين، أمرًا لا يستطيع العَقل البشريّ القبول به. إنّ كلمة "منطق"“Logique” وكلمة "الكلمة"“ Logos”، لديهما الجَذْرَ نفسَه في اللُّغة اليونانيّة؛ وبالتّالي، يمكننا الاستنتاج أنّ الكلمة التّي تَصدر عن الإنسان تُعبِّر عن المنطق الّذي ينتهجه في حياته، وهي الجسر الّذي يصل الإنسان بأخيه الإنسان. بحسب الكتاب المقدَّس، خلَق الله الكون كلَّه بكلمةٍ منه، فقال على سبيل الـمِثال: "لِيَكُن نور"، فكان النُّور؛ وبحسب الإنجيل، الربُّ يسوع هو كلمة الله؛ وبالتّالي الربُّ يسوع هو الجِسر الّذي يستخدمه الله الآب لإيصال كلمته إلى البشر. في هذا النَّص، استخدم الربُّ يسوع مع بطرس الكلمة، إذ قال له: "ابتَعد إلى العمق، وأَلقُوا شباكَكَم للصَّيد". إنّ الربَّ يسوع هو "الكلمة" وتُتُرجم في الفرنسيّة “Le Verbe”، أي الكلمة الفاعلة. في سِفر إشعيا، يقول لنا الله إنّ كلمته تنطلق منه ولا تعود إليه إلّا بعد أن تكون قد أتمَّت فِعلها في الأرض. إذًا، الكلمة هي جِسرنا نحو الآخر، وهي، أي الكلمة، في الوقت نفسه، تُشبه الله، لأنّ الله خَلق الكون وما فيه بكلمة منه. إنّ الكلمة الّتي يتفوَّه بها الإنسان، تَخلُق صورةً في فِكر المستَمِع، صورةٌ لم تكن موجودة في ذِهنه قَبْل أن يتفوَّه بها الآخَر. إذًا، الكلمة خلّاقة. إنّ الربَّ يسوع بشَّر النَّاس بملكوت الله من خلال الكلمة، فخَلق في أفكارهم، عالـمًا جديدًا، لم يعتادوا عليه مِن قَبِل، وجعل منهم، بقبولهم بتلك الكلمة، خليقةً جديدة. هنا يُطرَح السُّؤال: هل يمكننا القول إنّ هناك كلماتٍ صحيحة وأخرى خاطئة؟ بالطَّبع لا، فالكلمة هي كلمة لا تتغيَّر، ولكنَّ الإنسان هو الّذي يجعل من الكلمة فارغة من معناها أو ممتلئة بمعناها. وإليكم مِثالٌ على ذلك: إذا جاء أحدهم لزيارتك وفي يدَيه علبة حلوى، فإنّه للوهلة الأولى يُخيَّل إليك، أنّ في داخله حلويات، ولكنَّك قد تتفاجأ إذا رأيتَها فارغة، وبالتّالي يكون زائرك قد أوهَمك بما هو موجود في داخل العُلبة دون أن يكون ذلك صحيحًا في هذه الحالة. إذًا، الوَهم هو عدم وجود الشَّيء في الحقيقة، على الرُّغم من أنَّ الظَّاهر يجعلنا نعتقد أنّه حقًّا موجود. وبالتّالي، الكلمة الفارغة من معناها، لا وظيفة لها، ويُنظَر إليها على أنّها لم تكن موجودة أصلاً.

إنّ الكِتاب المقدَّس يُطلق على الوَهم اسمًا آخر، هو "الكَذِب". ليس الكَذِبُ قَوْل شيءٍ خاطئ، بل قَوْل شيءٍ صحيح في الظّاهر ولكنَّه فارغٌ من معناه في المضمون. إنّ الربَّ يسوع قد سمَّى الشَّيطان، "كَذَاب وأبو الكذب"، لأنّه يوهِم المؤمنِين بحقيقةٍ غير موجودة. إنّ مشكلة الإنسان تكمن في تصديق الوَهم الّذي يُخبره به الشيطان، ويسعى إلى العيش في هذا الوَهم، فيَقع في أفخاخ الشِّرير. إنَّ آدمَ كان أوَّل من وَقع في فخِّ الشِّرير، إذ صدَّق كلام الحيّة وَعَمِل به، فأكَل من الشَّجرة الّتي منعه الربُّ من أكلِ ثمرها، لأنّها تؤدِّي به إلى الموت. وهنا يتبادر إلى ذِهننا السُّؤال التّالي: ما الفائدة من خَلقِ الله لتِلك الشَّجرة ما دام الأكلُ منها يؤدِّي إلى الموت؟ إنّ شجرة "معرفة الخير والشَّر"، لا تعني أبدًا أنّ الإنسان يُصبح قادرًا على التمييز بين الخير والشَّر متى أكلَ منها، كما أوهَمت الحيَّة آدم وحوَّاء، بل تعني أنَّ الإنسان متى أكَل منها، يكون قد أقام علاقةً بين الخير والشَّر، ولذلك هو يموت؛ إذ لا يمكن للشَّر، أي الشَّيطان، أن يلتقي مع الخير، أي الله، أبدًا. في الكِتاب المقدَّس، إنَّ كلمة "معرفة"، تعني إقامة علاقة، بدليل أنّه حين يقول لنا الكِتاب المقدَس، "عَرفَ الرَّجلُ امرأته، فولَدت ابنًا"، فهذا يعني أنّ الرَّجل قد أقام علاقةً مع امرأته، فكانت ثمرتها طِفلاً. إنّ حرف "الواو" في العِبريّة يَعني "مَع"، وبالتّالي شجرة "معرفة الخير والشَّر"، تعني إقامة علاقة بين الخير والشَّر، في آنٍ معًا، ولذا كانت النتيجة موت آدم. إذًا، إنّ الله لم يُقاصص آدم، ولم يُهدِّده، ولم يُرِد عرقلة مسيرة آدم، بل أَخبرَه مُسبقًا بنتيجة عمله، إذ نبَّهه من أنّ إقامة علاقة بين الله وبين الشِّرير، أو أي كائنٍ آخر، لا بُدَّ لها من أن تفشَل، وبالتّالي على الإنسان الاختيار ما بين الخير أو الشَّر. إذًا، بالعودة إلى النَّص، لم يساوم بطرس الرَّسول معرفته وخبرته واختباراته في الصَّيد، بكلمة الله، فلم يَضعها تحت الاختبار قَبْل تنفيذِها، بل فضّل كلمة الله على كلمته الخاصّة النابعة من المعرفة، فرمى كلّ خبرته في البحر وانصاع إلى كلمة الربّ. لقد تخلَّى بطرس الرَّسول عن منطقه البشريّ لِيَتبَع منطِق الله، منطقٌ مَبنيّ على وَعد الله له، إذ قال بطرس للربّ: "على كَلِمتك أُلقِي الشَّبكة".

في هذه الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والإنسانيّة الّتي نعاني منها في هذا البلد، يَسهُل علينا القول للربّ كما قال له بطرس والرُّسل: "يا معلِّم، تَعِبنا اللَّيل كُلَّه ولم نَصطد شيئًا"، بمعنى آخر، لقد تَعِبنا من هذه الأوضاع السوادويّة الّتي نعاني منها في هذا الوطن، ونحن لا نرى بريق أملٍ في المدى القريب، إذ لا حلول تَلوح في الأفق؛ لم يَعد باستطاعَتنا القيام بشيءٍ يَبعثُ فينا الرَّجاء إلّا الجلوس أمام حواسِيبِنا والإصغاء إلى كلمتك المحيِّية الّتي نُصغي إليها اليوم في هذا اللِّقاء. الجميع من حَولِنا، فَقَدوا الرَّجاء في هذا البلد، إذ وَجدوا أنّ لا خلاص لهم في هذا البلد، لذا انكّبوا على البحث عن خلاصٍ لهم خارج هذا الوطن أي في الهجرة. إخوتي، لا يمكننا أن نجد حلّاً لما نعيشه إلّا إذا فَعلنا كما فَعل بطرس، وهو أن نرمي بكلِّ ما لدينا في البحر، ونُصغي إلى كلمة الله فهي ضمانتنا الوحيدة، بمعنى آخَر، علينا التخلِّي عن منطِقنا البشريّ واتِّباع منطِق الربّ. وإليكم مِثالٌ مِن ابراهيم أبو المؤمنِين: إنّ ابراهيم ترك كلّ غناه الأرضيّ وعشيرته ليتبَع صوتًا اعتقد أنّه صوت الربِّ، من دون أن يحصل على ضماناتٍ أو براهين على صِدق تلك الكلمة الّتي سِمعها، تركَ كلّ ما يمكنه أن يؤمِّن له الاستقرار والأمان والحياة من أجل تمتمة كلمات سَمِعها من صوتٍ اعتقد أنّه صوت الله. إنّ ابراهيم كان يملِك جِمالاً كثيرة، وقد تركها كلَّها من أجل اتِّباع الله، وهنا نستطيع أن نفهم كلمة الربِّ في الإنجيل، إنّه لأَسْهَل على الجَمَل أن يدخُل مِن ثِقبِ الإبرَة، مِن أن يدخل غَنيٌّ إلى ملكوت الله. لقد ترك ابراهيم كلّ شيءٍ، من أجل صوتٍ، إذ اعتبر أنّ ما سَمِعَه هو حقيقةٌ محقَّقةٌ من دون الحصول على علامات تؤكِّد صحَّة الكلام الّذي سَمعه. من هنا، نستطيع أن نَفهم قول بولس الرَّسول: "آمن ابراهيم بالله، فَحُسِبَ له ذلك برًّا". والكتاب المقدَّس مليءٌ بالشُّهود أمثال ابراهيم، فيَشوع بن نون أعلَن أمام الشَّعب كُلِّه، أنّه وأَهلُ بيتِه لن يَعبُدوا إلّا الله، تاركًا للآخَرين مِن أبناء شعبه، اختيار الإله الّذي يريدون عبادته. إنّ بطرس، رئيس الرُّسل، قرَّر في هذه الحادثة أن يتبِّع منطق الربّ، فرمى معرفته في البحر، واتبَّع كلمة الربّ، غير أنّه هو نفسه، في يوم اعتقال الربّ، خاف وبدأ يكذب، فأنكَر معرفته بالربّ أمام جارية، جاعلاً من معرفته بالربِّ وَهمًا. إنّ الإنسان الّذي ينبي سلوكه وحياته على كلمة الله الفاعلة، يَصل إلى الملكوت، أمّا مَن يَبني حياته على كلماتٍ بشريّة فارغة من معناها، أي على أوهام، يَصل إلى الهلاك. صحيحٌ أنّ الكثيرين مِنَ الّذين آمنوا بالربّ، استشهدوا في سبيل إيمانهم، ولكنَّهم لم يَصلوا إلى الهلاك، لأنّه بالنِّسبة إليهم، الموت بسبب المسيح هو أُفقٌ جديد، حياة جديدة في الملكوت. ولكن هذا لا يعني أن نطلب الموت لنفوسنا، فالموت يبقى عدوًّا للإنسان.

في هذا الزَّمن، نحن نعيش سِفر الرُّؤيا مِن حيثُ لا نَدري، ولكن هذا لا يعني أنّنا نعيش تحقيقًا لأقوال المنَجِّمين، فسِفر الرّؤيا هو كَشْفٌ للحقيقة من خلال كلمة الله. يُخبرنا سِفر الرؤيا عن مصيرنا، إذا بَقِينا أمينِين وأمناء لله ومؤمِنِين بالله. إنّ سِفر الرؤيا يَضعنا أمام خيارَين لا ثالث لهما: إمّا أن نُصدِّق كلمة الله ونرمي كلّ معرفتِنا في البحر؛ وإمّا أن نُصدِّق معرفتِنا البشريّة ونرمي كلمة الله في البحر. في هذه الأيّام الّتي نعيشها، نكاد نفقد الفرح من حياتنا، فنحن نختبر الـمَرح لا الفرح. إنّ الإنسان الـمُزَخَّم من كلمة الله، يتذكَّرها في وقت الصُّعوبات، فتساعده على إعادة النَّظر في الّذي يختبره في وقت الشِّدة. بمعنى آخر، لا يمكن لكلمة الله إلّا أن تكون فاعلة، وخلّاقة لحقيقةٍ واضحة؛ أمّا كلمات البشر فهي حقائق وَهميّة تقودنا إلى الهلاك. إنّ كلمة "أُحبُّك" قد يقولها رَجُلٍ لفتاةٍ يُحبُّها؛ كما قد يقولها رَجُلٍ لفتاةٍ لا تَجمعه بها إلّا المصلحة الشَّخصيّة: في الحالة الأولى، تكون هذه الكلمة حقيقيّة مليئة بالمعاني؛ أمّا في الحالة الثانية فهي مجرَّد تمتمة كلمات فارغة من معناها. هذا هو الفرق بين المسيح الحقيقيّ والمسيح الدَّجال: إنّ المسيح الحقيقيّ هو الّذي يَنقُل إلينا كلام الله من دون مساومة؛ أمّا المسيح الدَّجال فهو الّذي ينقل إلينا كلامًا في الظّاهر يبدو لنا على أنّه الحقيقة المطلقة، غير أنّه في الحقيقة مجرَّد وَهْمٍ لا يؤدِّي بنا إلّا إلى الهلاك. في ظلّ هذه الظروف الصَّعبة الّتي نعيشها، أصبحنا سَريعي التعلّق بكلِّ ما نسمعه ويمنحنا بعض الأمل. ولكن ليس المطلوب أن يعيش المسيحيّ متمسِّكًا بالأمل، إنّما المطلوب أن يعيش متمسِّكًا بالرَّجاء. والفرق كبيرٌ بين الأمل والرَّجاء: الأمل هو وَعدٌ يقطعه الإنسان على نَفسِه، قد يتمكَّن من تحقيقه وقد لا يتمكَّن من تحقيقه، فذلك رَهنٌ بالظروف الّتي تعترضه في حياته؛ أمّا الرَّجاء فهو وَعدٌ يقطعه آخَرٌ للإنسان، فيُصدِّق الإنسان هذا الوَعد، ويعيش وكأنّ هذا الوَعد قد تحقَّق مع كونِه لم يتحقَّق بَعد. إذًا، الأمل هو مرهونٌ بالإنسان نفسه وبظروفه؛ أما الرَّجاء فهو مرهونٌ بتحقيق الآخَر لِما وَعد به أخاه الإنسان. عندما يكون للإنسان رَجاءٌ في شيءٍ ما، فإنّه ينتظر تحقيق هذا الوعد بفرحٍ، حتّى ولو لم يتحقَّق بَعدُ، لأنّه يستند إلى كلمة آخَر. أمّا حين يتأمَّل الإنسان في حصولِ أمرٍ ما، فإنّه يعيش انتظار تحقيق ذاك الحَدَث بِقَلقٍ، لأنّه ينتظر تحقيق هذه الأُمنِيَة المرتبطة به، وبأوضاع النَّاس مِن حَوْلِه، وبالظروف الّتي يعيشها. حِينَ يَضعُ الإنسان رَجاءه في الله، فهذا يعني أنّه يثق بكلمة الله، ويُدرِك أنّ الله لن يَخذُلَه. وهذا ما اختبره بطرس حينَ وَضَع ثقته بالربّ، فألقى شبكته في البحر، بعد أن أصابه اليأس والتَّعب مِن المحاولة طوال اللَّيل من دون نتيجة.

إنَّ وَضْعَ رجائنا بالربّ يتطلَّب منّا معاشرة للإنجيل، فمِن دون الإنجيل تُصبح صلواتنا مجرَّد تمتمة كلمات. وهنا نَطرَح السُّؤال: ما هي الصَّلاة؟ إنّ الصَّلاة هي صِلة، وبالتّالي، عندما نُصلِّي نحن نُقيم علاقة مع الربّ، والعلاقة لا تنجح إلّا بالحديث مع الآخر، فالصَّمت والسُّكوت في التأمُّل لا يَبْنِيان علاقةً مع الربّ. في الصَّلاة، الربُّ يكلِّمنا ونحن نُكلِّمه. إنّ الكلمة هي الّتي تُدخِل السَّلام والطمانينة إلى قلوبنا، أو تجعلنا في حربٍ داخليّة مع ذواتِنا، وفي حالٍ مِن القلق. وفي هذا الإطار، يقول لنا الربُّ: "إنَّ أفكاري ليست كأفكاركم، وطُرقي ليست كطُرقككم، كبُعد الـمَشرِق عن المغرب، هكذا أفكاري بعيدة عن أفكاركم، وطرقي بعيدة عن طرقككم". واضحٌ كلام الرب، لا مساومة ولا توفيق بين فِكره وفِكر العالم، بل هناك بَتْرٌ لفِكر العالم. وهنا نستطيع أن نفهم كلام الربّ الّذي قال: "ما جئتُ لأُلقي سلامًا، بل جئتُ لأُلقي سيفًا". إنّ السَّيف يقطع بين الأمور، ويُميِّز بين الحقيقة والوَهم. إنّ السَّلام كما نَفهمه هو اللّاحرب. أمّا السَّلام الّذي أكلِّمكم عليه هو الأُخرويّة، الملكوت الآتي، الّذي يُعطينا إيّاه الله من خلال كلمته.

إنّ كلّ شيء يُبرهَن، يُصبح عِلمًا، ولا يُسمَّى بعد ذلك إيمانًا. الإيمان هو أمرٌ مُبَرهن بالكلمة لا بِنَتيجتها. إنّ كلمة الله تدعونا إلى اتِّباع منطق آخر مختلف عن منطِقنا البشريّ. وبالتّالي، حين نقرأ الإنجيل، علينا أن نسعى كي نُطابق منطِقنا البشريّ مع منطق الإنجيل، لا أن نطابق منطِق الإنجيل على مَنِطقنا البشريّ، فنختار منه ما نشاء، ونرفض ما لا يُناسِبُ أهواءنا. علينا قراءة الإنجيل لمعرفة مشيئة الله لنا، فالإنجيل هو خطابٌ، رسالةٌ موَّجهة إلينا شخصيًّا. وبالتّالي، حتّى ولو كنَّا وَحدنا على هذه الأرض، فإنّ الإنجيل قد كُتِب لنا شخصيًّا، والربُّ يُكلِّمنا من خلاله، لِما فيه خلاصنا. إنّ الإنجيل كُتِب للمسيحيِّين لا للعالَم، لأنّه بَعْد أن قَبِل المسيحيِّون كلمة الله، كان الإنجيل ضرورةً ليُصحِّحوا عقولهم بما يتوافق مع كلمة الله، كي لا يقعوا في فخّ المساومة على كلمة الله، فيُضيِّعونها من جديد.
إنّ الصِلة هي الصَّلاة، والصَّلاة هي الصِلَة بالكلمة الإلهيّة، ويسوع المسيح هو كلمة الله. لذلك إخوتي، تُطرَح علينا الأسئلة التّالية: كيف عسانا نواجه اليأس والتَّعب في حياتنا؟ كيف عسانا نواجه الأُمَم الّتي تُحيط بنا، أي أولئك المسؤولِين عن مصائرنا؟ أنواجههم بالكُفر، والتمرُّد والتَّذمُّر، أم بكلمة الله الفاعلة فينا؟! مِن دون كلمة الله، لا نستطيع أن نُغيِّر شيئًا في محيطِنا. لا يمكننا أن نتوقَّع أن يتغيَّر العالَم من حَولِنا، فالتَّغيير الحقيقيّ يبدأ مِن ذواتنا، فمَتى بدأنا بالتَّغيير في ذواتنا، انعكس ذلك على المحيطِين بنا، ودَفعناهم إلى العمل على تغيير ذواتهم. عندما نشعر بالتَّعب واليأس، علينا أن نُسنِد ذواتنا على مَن يُشارِكنا الهَمَّ نفسَه، أي همَّ كلمة الله. علينا أن نُسنِد ذواتنا إلى مجموعةٍ تشارِكنا الإيمان نفسه، أي على الكنيسة. إنّ كلمة "كَنِيسَة"، تعني "الّذين لبُّوا النِّداء". إنّ كلمة "كَنِيسة" مشتَّقة من الفِعل العِبريّ "كالِيُو"، والّذي يعني "قالَ". إنَّ الله هو الّذي يدعو، والمؤمنون هُم الّذين يُلبُّون نِداءه، فيشكِّلون كنيسةً. إنَّ بولس الرَّسول يقول في رسائله: "عندما تَجتمعون كنيسةً"، ولا يقول لنا "عندما تجتمعون في الكنيسة"، أي أنّ الكنيسة ليست مكانًا، بل هي اجتماعُ المؤمنِين حول كلمة الله. إنَّ الله قد أرسل إرميا النبيّ للتَّبشير به، فحاول هذا الأخير التحجُّج بالقول لله إنّه لا يزالُ وَلدًا. عندها أمرَه الله بالذَّهاب للبشارة به وعدم الخوف، فيكون وَجهَه كالصَّوان، بالنِّسبة إلى الّذين يسمعون تبشيره بالله. لقد أرسَل الله النبيّ إرميا كي يهدم الأفكار الخاطئة عند النَّاس، لكي يتمكَّن من أن يبني ويغرس فيهم كلمة الله. إنّ رؤيتنا للأمور مِن حولِنا، انطلاقًا من كلمة الله، ستساعدنا على هدم الأصنام فينا، وبالتّالي تقودنا إلى تغيير سلوكنا وطريقة خِدمتِنا للآخَرين. لا يمكننا أن نُعلِّم النَّاس أن يَفتَحوا أيديهم قَبْلَ أن نعلِّمهم أن يَفتَحوا قلوبهم. إذًا، هناك خَلقٌ جديد في كلمة الله، فالخَلقُ يبدأ بالكَلمة الفعّالة والخلّاقة، لا بالكلمة الوَهميّة. إنّ النَّذر الّذي نُقدِّمه لله، ليس رشوةً له ليُحقِّق لنا رَغباتنا، بل هو تكريس ذواتنا لله، ولكن هذا لا يعني أن نكون جميعًا رهبانًا أو راهباتٍ أو كهنة، إذ إنّ هناك أماكن أخرى يمكننا خدمة الربِّ فيها، غير الدَّير. فالمتزوِّج يخدم الله في عائلته ومجتمعه.

إذًا، أعرض عليكم هذه السَّنة أن نجتهد على نَحتِ كلمة الله فينا، سامِحين لها أن تَنحَتنا من جديد. إنّ كلمة الله هي كمَنجَم الذّهب، تَمنح الإنسان جواهرَ ثمينة أغلى من الذّهب كلّما حَفرَ في داخلها، من دون أن تتطلَّب منه أي ثمنٍ سوى قراءتها. إنّ عمل النَّحت الّذي سنقوم به معًا هذه السَّنة، يتطلَّب جديًّة وتعبًا. مستندين إلى هذا الرَّجاء، سنبدأ بمعالجة نصوصٍ كتابيّةٍ فَنَنحَتَ فيها، لنتمكَّن من إدراك ما هو الخطاب الّذي يوجِّهه إلينا الربّ.

ملاحظة: ألقِي هذا التأمَل في لقاء الشبيبة ودُوِّن من قِبَلنا بتصرُّف. تتمة...
11/2/2020 الحياة الداخليّة إعرَفْ قيمة ذاتك وقيمة الحياة
الحياة الداخليّة
للأب ميشال عبود الكرملي

11/2/2020

يتَّفق فلاسفة العصر مع علماء النّفس المعاصرين على أنّ القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين سيكونان قَرنَي الحياة الصُّوفية العميقة، والدَّليل هو انتشار التأمُّلات التَّجاوزيّة في عالمنا كاليوغا وسواها؛ الّذي يعكس عَطشَ النّاس، من النّاحية غير الدِّينيّة. أمّا من النّاحية الدِّينيّة، فنلاحظ هذا العطش أيضًا عند المؤمِنِين من خلال ازدياد فِرَق الصّلاة في الكنائس، ومن خلال النّمو المتزايد في السَّياحة الدِّينيّة، إذ كَثُرَت رحلات السَّفر إلى لورد وفاطيما ومديغورية وسواها من الأماكن الدِّينيّة، والّتي لم تتوّقف أصلاً، حتّى في المراحل التّاريخيّة الّتي اتَّصفت بعدم الإيمان. إنَّ هذا التوجُّه عند النّاس نحو الحياة الصوفيّة يعود إلى أنّ ما يتوق إليه الإنسان، لم يَعُد بعيدًا عنه كما كان يعتقد في السّابق، إذ أصبح بإمكانه الوصول إليه. لقد أصبح الإنسان، بطريقةٍ أو بأخرى عَبدًا للتِّكنولوجيا، بِكُلِّ ما للكلمةِ من مِعنى. إنَّ العَبد هو الإنسان الّذي عليه طاعة سيِّده وتنفيذ أوامره. لقد أصبحت حياتُنا اليوم مرتبطةً بالتِّكنولوجيا بشكلٍ وثيق، إذ يَعجز الإنسان عن القيام بأيِّ عَملٍ من دون العودة إلى التِّكنولوجيا؛ حتّى بات الابتعاد عنها صَعبًا جدًّا. من هنا، تظهر أهميّة الكلام عن الحياة الدّاخليّة، الّتي تفرض على الإنسان قيامَه بِوَقفةٍ مع ذاته.

إنّ سُقراط، الّذي عاش قَبْل المسيح بألفِ سَنة، بنى فلسفته على عبارةٍ قَرأها في مَعبَد "زَفس"، وهي: "أيّها الإنسان إعرَف نفسَك بِنَفسِك". وهنا يُطرَح السّؤال: هل يَعرِف الإنسان نفسَه، هو الّذي يسعى إلى اكتشاف ما هو بَعيدٌ عنه، كالمجرّات وسواها من موجودات هذا العالم؟ إذًا، إنَّ المطلوب من الإنسان هو أن يَعرِف ذاته أوَّلاً، فيكتشِفها من خلال تفاعُلِه مع المجتمع من حولِه.كي يتمكَّن الإنسان من إكتشاف هويّته، عليه أوَّلاً أنْ يجد الإجابة عن السُّؤال التّالي: "مَن أنا؟". إنَّ الإنسان هو مخلوقٌ بين يَدي الله؛ فإنْ كان الإنسان مؤمِنًا بالله، أدرَك أنَّه مخلوقٌ صالِحٌ، إذ إنّ الله لا يَخلُق إلّا ما هو صالِحٌ. من النّاحية الفَلسَفيّة والنَّفسيّة، إنَّ الإنسان مختَلِفٌ عن كلَّ المخلوقات، إذ إنّه قادرٌ على الاختراع والتطوُّر، وهذا ما لا يستطيع أيُّ مخلوقٍ آخر القيام به. في دراستِنا لحضارات الشَّرق الأوسَط، نُدرِك أنَّ الإنسان كان موجودًا على مدى العصور الغابرة من خلال الرُّسومات المنقوشَة على الجُدران، الّتي تُعبِّر عن اختبارات الإنسان في حياته الأرضيّة. كانت الكنيسة منفتحة على الدَّوام على نظريّة التَّطوُّر الإنسانيّ. عندما نُسِب إلى داروين قولَه إنَّ الإنسان أصلُه قِردٌ، طرَح أحد الفلاسِفة السّؤال التّالي: إذا كان صحيحًا أنَّ الإنسان أصلُه قِردٌ، فَفِي أيَّة مرحلةٍ من مراحل التَّطوُّر البشريّ نال الإنسانُ العقلَ الّذي يتميَز به عن سائر المخلوقات؟ بمعنى آخر: ما هو التطوُّر الّذي قام به الإنسان وأدَّى إلى اكتسابه عَقلاً بشريًّا؟ إنَّ الإنسان هو كائنٌ يفكِّر في الـمَدى البَعيد، أي أنَّه يستطيع التفكير في المستقبل، إذ يبحث عمّا يدفعه إلى التطوُّر، وهذا ما يساهم في اكتشافه لِهويّته الإنسانيّة.

أنا أؤمن بالله، وبالتّالي في محاولةٍ للإجابة عن السُّؤال: "مَن أنا؟"، نجد أنَّ الله حاضرٌ في الإنسان ويسكن فيه. وفي هذا الإطار، يُخبرنا القدِّيس أوغسطينوس، اللّاهوتي والفيلسوف، عن خِبرَته الحياتيّة، فيقول لنا إنَّه بَحَث عن الله في كلِّ مكان: في الكُتُب وفي جمال الطَّبيعة وفي سِواها، ولكنّه لم يَجِده فيها، بل وَجده في داخله، إذ إنَّ الله يسكن في أعماق الإنسان. إنَّ حضور الله في الإنسان هو حضور الخالِق. إنَّ القدِّيسة تريزيا الأفيليّة تُكلِّمنا على أهميّة الدُّخول إلى الذَّات، إذ اعتَبَرَتْ أنَّ النَّفسَ الإنسانيّة هي عبارةٌ عن "قَصرٍ" على المؤمن دُخوله، لِيتمكَّن من لقاء الله ومن اكتشاف ذاته الحقيقيّة. ولكنَّ الإنسان لا يستطيع الدُّخول إلى هذا القَصر إلّا بعد اجتيازه حديقة القصر الّتي تضمُّ كلابًا تَنبح، أوَّلاً، ثمّ بوابة القصر الّتي يحميها حُرَّاس القصر. في القصر غُرفٌ كثيرة، والله يسكن في إحداها، وبالتّالي لا يستطيع المؤمِن لقاء الله إلّا بعد تفتيشه جميع غُرَف القَصِر. إذًا، على الإنسان أوَّلاً اكتشاف مكان القَصر، والانطلاق نحوه، ثمَّ اجتياز الكلاب الّتي تنبح على مدخل حديقة القصر وهي ترمز إلى أفكارنا الّتي تمنعنا من لقاء الله، وعبور البوابة الّتي يحرسها حرَّاسٌ يرمزون إلى كُلِّ صديقٍ إلتقيناه في حياتنا وكان هدَفه مساعدتنا على الوصول إلى الله. عند دخوله القصر، على الإنسان أوَّلاً أن يُفتِّش عن الله في كلّ غرفةٍ من غُرف القصر حتّى يجده، عِوضَ الالتهاء بمشاهدة جمال القصر، كي لا تنتهي حياته الأرضيّة قَبْلَ تمكُّنه من رؤية الـمَلِك، أي الله. إنَّ الله موجودٌ في داخِلنا؛ وفي طريقِنا صوبه، تعتَرِضنا كلابٌ تَنبح ترمز إلى أفكار الإنسان، الّتي تُقسَم إلى قِسمَين: أفكارٌ مرتبطة بالـمُخَيِّلة، وأفكارٌ مرتبطةٌ بالذَّاكِرة الإنسانيّة. عند دخوله إلى هذا القَصر، على الإنسان التركيز على حاضِره، بدلاً من التّركيز على ذاكِرته ومخيِّلته، ليتمكَّن من مواجهة "الكلاب" الموجودة عند باب هذا "القَصِر"، لا الخوف منها وبالتّالي الهروب منها. عندما ينجح الإنسان في التغلُّب على أفكاره الَّتي تمنعه من لقاء الله، يستطيع الإنسان الوصول إلى بوابة القصر الّتي يحميها أصدقاءٌ هَدفهم مساعدتنا على لقاء الله، إذ يساهمون في وصولِنا إلى الرَّاحة النفسيّة وبالتّالي العيش بسعادة لا تزول لأنّها نابعة من الله. إنَّ شعور الإنسان بالرَّاحة النفسيّة لا تعني بالضَّرورة لِقاءه بالـمَلِك، أي الله، إذ يُقدِّم العالَم للإنسان أمورًا قادرة على منحه الرَّاحة النفسيّة كالرياضة وممارسة التأمُّلات التجاوزيّة أو تَناولِه بعض الأدوية المخصَّصة لذلك. عند دخول الإنسان إلى هذا القَصِر، سيتمكَّن من إيجاد الله ورؤيته ولكنَّه لن يتمكَّن من الإمساك به. في هذا الإطار، يقول لنا القدِّيس أوغسطينوس: "لو كُنّا نَعرِفه، لَما كانَ الله"، وهذا ما قُمتُ بتَرجمتِه في الترتيلة الّتي كَتَبتُها في أثناء قِيامي باختبارٍ نُسكيّ، قائمٍ على الصَّمتِ التَّام، بعنوان: "أيُّ نشيدٍ لكَ عِندي"، إذ قُلتُ فيها:"أريدُكَ لِقَلبيَ ربًّا لا كَضَيفِ وَهْمٍ يَمرُّ".

إنَّ الحياة الدَّاخليّة هي الجُلوس مع الذّات، وبالتَّالي على الإنسان السَّعي إلى اختيار مكانٍ وتحديد وقتٍ يكرِّسه للجلوس مع ذاته وعَدم تَرك الأمر لِسَجيّته، لأنّه في تلك الحالة، لن يجد الإنسان وقتًا مناسبًا لِذلك. عندما يجد الإنسان الوقت والمكان المناسِبَين لجلوسه مع ذاته، عليه أن يَضعَ ذاته بين يَدي الله، إذ سَتُواجِهُه في هذا الوقت مجموعةٌ من الأفكار تُلهيه عن الجلوس مع ذاته، كَشُعوره بالعَطش والجوع وسواهما من الأمور الأرضيّة. في الرِّياضات الرُّوحيّة، أطلب من المؤمِنِين المشارِكين في الرِّياضة القيام بالاختبار التَّالي: تدوين ما شاهدوه وسمعوه على وسائل التَّواصل الاجتماعيّ في الفترة الأخيرة. بعد قيامِي بهذا الاختبار مع عدَّة مجموعاتٍ، لاحظتُ أنَّ المؤمنِين يعجزون عن تدوين كلَّ ما رأوه وسمعوه مؤخَّرًا على وسائل التَّواصل الاجتماعيّ، وهذا يشير إلى أنَّ أذهانهم لا تستطيع تَذَكُّر إلّا القليل القليل ممّا شاهدوه ورأوه وسمعوه. إنّ ما يبقى في أذهاننا يُشكِّل ثقافتنا. يُخبرون أنّ المعالج النفسيّ الشَّهير "يونغ" قد ألغى موعدًا مع أحد مرضاه، عندما تَذكَّر أنّه عليه الجلوس مع ذاته. وفي هذا الإطار، يقول لنا آباء الكنيسة: "اليوم الّذي لا تجلس فيه مع ذاتك، لا تَحسبِه من أيّامِ حياتك".

أمّا الآن، وبعد معالجتنا السُّؤال:"مَن أنا؟"، ننتقل إلى الإجابة عن سؤالٍ آخر: "أين أعيش؟". أنا أعيش في مجتمعٍ ولستُ بِمفرَدي. في المجتمع، يتعرَّض الإنسان للكثير من الاختبارات الّتي قد تؤثِّر فيه. إنَّ المجتمع نوعان: المجتمع الوَهميّ والمجتمَع الحقيقيّ. إنَّ المجتمع الوَهميّ هو مُجتمَعٌ افتراضيّ بَنَته وسائل التَّواصل الإجتماعيّ. في هذا المجتمع، يُعبِّر الأشخاص عن أفكارهم وأرائهم بالآخَرين، ولكنَّهم لا يَجرؤون على التَّعبير عن أرائهم هذه في الحياة الواقعيّة. وفي هذا الإطار، نتذكَّر قول أحد المفكِّرين: "الويل لي إنْ قُلتُ كُلَّ ما أقدِرُ على قَولِه". فعلى سبيل الـمِثال: في بعض الأحيان، قد يسمح الإنسان لِنَفسِه بالإساءة إلى والِدَيه، إذ يُدرِك أنَّ والِدَيه سيستمرّان في محبَّتهما له، مهما فَعلَ أو مهما قال. أمّا المجتمع الحقيقيّ، فيَعكس حقيقة تصرُّف الإنسان مع الآخَرين. لذا، على الإنسان الجلوس مع ذاته بشكلٍ متكرِّر ولِمُدَّةٍ زمنيّة محدَّدة، على سبيل الـمِثال عشر دقائق، ليُحاسِبَ ذاته على أعماله الّتي قام بها. مِن البديهيّ أنَّ هذه الدقائق العَشر لن تكون كافية للإنسان للجلوس مع ذاته، خصوصًا أنَّه ستتبادر إلى ذهنه في تلك الـمُدَّة القصيرة كلُّ الأفكار الَّتي تقوده إلى التشتُّت وتمنَعُه من الجلوس مع ذاته. لذا، على الإنسان أن يكون كالمسمار الّذي لا يدخل في الخشبة بسهولة، ولكن متى دَخل فيها أصبح من الصَّعب اقتلاعه، فالإنسان قد يجد في بادئ الأمر صعوبةً في الجلوس مع ذاته ولكن متى اعتاد على ذلك، أصبح من السَّهل عليه محاسبة ذاته، وترتيب أمور حياته في وقت الصَّلاة. إنَّ الأشخاص الّذين اعتادوا على الجلوس مع ذواتهم، هم أشخاص سريعي البديهة، إذ تمكَّنوا خلال هذا الوقت من اكتشاف ذواتهم على حقيقتها. إنَّ الجلوس مع الذّات المتكرِّر يساعدنا على تحديد مشاكِلنا الخاصّة والعمل على إيجاد الحلول المناسِبة لها. عندما تواجهنا الصُّعوبات الحياتيّة، نسارع إلى طلب الإرشاد من الكهنة، في حين أنَّ الخطوة الأساسيّة نحو حلّ المشاكل هو الجلوس مع الذّات. في هذا الإطار، قال ماسنجر: "بداية الدَّواء معرفة الدَّاء". إذًا، نحن مدعوّون للجلوس يوميًّا مع الذّات، ولكنّ الأهمّ أن تكون جلسَتنا تلك في حضرة الله، فالله هو الرَّفيق والصَّديق، هو الخالِق والمخَلِّص، هو الّذي قال لنا إنَّه لو نَسِيَت الأمُّ رَضيعها، فأنا الربُّ إلهَك لا أنساك، إذ طَبَعتُ اسمَك على كَفِّي، كي أتذكَّرك على الدَّوام، أنا بالقرب منك أيّها الإنسان. وبالتّالي، للإنسان مكانُ راحةٍ في قلب الله. إنَّ مكان الرَّاحة يختبره الإنسان في حياته الخاصَّة حين يفرح بلقاء بعض الأشخاص، بينما يتجَّنب لقاء البعض الآخَر. وبالتّالي، حين يُدرك الإنسان أنَّ الله يفرح بحضوره، يشعر الإنسان بالرَّاحة، وعندها لن يتردَّد في وَضعِ كلِّ مشاكِله تحت نظر الله، فيُدرِك الإنسان مشيئة الله في حياته. حين كانت الحياة الرُّوحيّة حياةً متصنِّعة، اعتقَدَ المؤمنون أنَّ الله يعمل بدلاً مِنهم، لأنَّهم كانوا يعتقدون أنّ الله سيَحِلُّ لهم مشاكلهم الناتجة عن تقصيرهم من دون أيِّ جُهدٍ منهم. إنَّ الله لا يستطيع التدخُّل في حلِّ مشاكل الإنسان الناتجة عن تقصيره، لأنّه في هذه الحالة يفقد الإنسان إنسانيّته. هذا ما يحتاج إليه إنساننا اليوم في هذا العصر: أن يدخل إلى ذاته، أي إلى اختبار الحياة الدَّاخليّة، وهذا الدُّخول إلى الذّات لا يكون مرَّة واحدة في الحياة بل هي مسيرة يوميَّة على الإنسان السَّير فيها. من هنا، تظهر ضرورة الدُّخول إلى غرفتنا الدّاخليّة وتوضيبها وإعادة كلَّ شيءٍ إلى مكانه، وهذا ما يمنح بعض النَّاس سُرعة البديهة بسبب تفكيرهم في الأمور قَبْل تعرُّضِهم لها. إنَّ الحياة تَمرُّ سريعًا، في هذا الإطار، يُخبرون عن كُرَتَيْن من الزُّجاج تتدحرجان من أعلى الجبل إلى أسفَلِه، إلّا أنَّ واحدةً منهما ارتطمت بحجرٍ وانكسرت، فتوقَّفت عن متابعة مسيرتها نحو أسفل الجبل، وما إنْ نظرت إلى ذاتها، حتَّى وَجدت نفسها شفافَّة فتمكَّنت من رؤية الوادي وجمال الطبيعة المحيطة بها، في حين أنَّها لم تتمكَّن من رؤية ذلك قبل أن تنكسر. كذلك الإنسان الّذي يعيش حياته في عَجَلةٍ، لا يستطيع أن يعرف جمال الحياة، فهناك أشخاص لم يعرفوا جمال الحياة إلّا بعد أن علّمتهم الحياة دَرسًا. وهنا نتساءل: لماذا ننتظر أن تُوجِعنا الحياة كي نعرف قيمتها وقيمَتنا الذَّاتيّة؟
إعرَفْ قيمة ذاتك وقيمة الحياة، قبل أن تتعرّض لأوجاع الحياة، فتكون مستعدًّا لمواجهة الآلام عندما تتعرَّض لها.

ملاحظة: دوِّنت المحاضرة من قِبَلِنا بِتصرُّف.
لقاء شبيبة أذكرني في ملكوتك تتمة...
22/1/2020 القياديّة اهم النقاط البارزة في في شخصيّة يسوع: القياديّة
"القياديّة"
الأب ميشال عبود الكرملي

22/1/2020

من أهمّ النِّقاط البارزة في شخصيّة يسوع هي القياديّة. هذا هو موضوع حديثنا اليوم.
إنَّ كلَّ واحدٍ منَّا عندما انتسب إلى هذه الجماعة، لم يَنتسب إليها للبقاء فيها لِمُدَّة وجيزة من الزَّمن، إنَّما ليبقى فيها إلى الأبد، لأنّه وَجد في روحانيّتها ما يبحث عنه، إلّا إذا انتسب إليها من أجل غايةٍ معيَّنة. عندما ينتسب الإنسان إلى جماعةٍ معيَّنة، يمرُّ بِمَرحلَتين، الأولى:"الجماعة من أجلي"، والثَّانية: "أنا من أجل الجماعة". إنَّ الفرق كبيرٌ جدًّا بين هاتين المَرحَلتَين: ففي المرحلة الأولى، ينتسب الإنسان إلى جماعة من أجل بناء علاقات صداقة مع أشخاصٍ لديهم أهدافًا مشتركة معه. ولكن بعد فترة من انتسابه إلى الجماعة، ينتقل الإنسان إلى المرحلة الثَّانية الّتي يسعى فيها إلى وَضع ذاته وكلّ طاقاته البشريّة في خِدمة الجماعة ومن أجل نموِّها. إنّ الربَّ يسوع اختبر هاتين الـمَرحَلتين عند انتسابه إلى الجماعة البشريّة، لأنَّه في المرحلة الأولى بَحَثَ عن أُمٍّ تَستقبله في أحشائها وتهتمّ برعايته الأرضيّة، فكانت مريم أمًّا له، كما بَحَثَ عن أبٍ أرضيّ له فكان يوسف مربِّيًا له، واهتمّ بحمايته من هيرودس الملك الّذي قَتَل أطفال بيت لحم، وقد انتهت هذه المرحلة الأولى من حياة يسوع عندما أصبح في الثَّلاثين من عُمره، إذ انطلق للتَّبشير بالملكوت في المسكونة كُلِّها.

إنَّ المؤمن لا يكون مسيحيًّا حقيقيًّا، إلّا إذا كان الكِتاب المقدَّس رَفيقه الدَّائم. لا أحدَ مِنّا يحبُّ تناول الدَّواء، ولكنَّ الإنسان يتناوله عندما يكون مريضًا لأنّه مفيدٌ له فَيُشفى مِن مرضِه. كذلك الكِتاب المقدَّس، فَهو مُفيدٌ للمؤمِن حين يكون رفيقه في كلِّ مراحل حياته.
"ودعا يسوع الجموع وتلاميذه، وقال لهم: "مَن أراد أن يتبعني، فليُنكِر نفسه ويَحمل صليبه ويتبعني. لأنَّ الّذي يريد أن يُخلِّص حياته يخسرها، ولكن الّذي يخسر حياته في سبيلي وسبيل البشارة يُخلِّصها. ماذا ينفع الإنسان لو ربِح العالم كُلَّه وخسر نفسه؟ وماذا يفدي الإنسان نفسه؟ لأنَّ مَن يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الخائن الشِّرير، يستحي به ابن الإنسان، متى جاء في مجد أبيه مع الملائكة الأطهار." (مر 8: 34- 38)

ماذا تعني عبارة "مَن يخسر نفسه"؟ نحن اليوم قد تركنا بيوتنا وأماكن راحتنا، أي أنَّنا خَسِرنا أمورًا من أجل رِبحٍ آخَر، وهذه الخسارة من أجل الرِّبح تُسمَّى في الفرنسيّة choisir c’est sacrifier، وهي تقوم على اختيار الإنسان التضحيّة ببعض الأمور من أجل الحصول على شيءٍ أكثرَ فائدة له. إنَّ الإنسان يُضحِّي بأمرٍ ما، لأنّه يريد أن يربحَ شيئًا آخر، وهذا الّذي رَبِحه عليه أن يُعطيه للآخَرين كي يُسمَّى رِبحًا. وفي هذا الإطار، يقول لنا الربُّ يسوع: "إنَّ ما يتمجَّد به أبي، هو أن تُثمروا ثمرًا كثيرًا وتكونوا تلاميذي"(يو 15: 8). لذلك في بعض الأحيان، حين نكون في حديثٍ مع الآخَرين، أو عند إعطاء موضوع لآخَرين، نقول أمورًا كثيرة من أجل الوصول إلى خلاصة واحدة للحديث. أقول لكم إنّ كُلَّ ما قُلناه من كلامٍ في هذا الحديث لن يذهبَ سُدًى، إذ لن يُعَدَّ خسارةً لأنَّ الإنسان بحاجة في بعض الأحيان إلى التمويه والضحك والفرح، وبالتّالي كلّ ما سبَق الخُلاصة من كلامٍ يَنضوي ضمن إطار الثِّمار، إذ لا يمكننا أن نجعله ضمن الخسارة. ففي بعض الأحيان، قد أكرِّس وقتًا للاستلقاء، وهذا الوقت لا يُسمَّى خسارة، بل يُسمّى راحة. إنَّ عالم النَّفس الشَّهير، "يُونغ"، قام بإلغاء أحد مواعيده مع أحد مرضاه، لأنّه تذَكَّر أنّ لديه موعدًا مع ذاته. إذًا، كلّ وقتٍ من حياتنا لديه ثمار. ويقول لنا آباء الكنيسة: "اليوم الّذي لا تجلس فيه مع ذاتِكَ، لا تَحسِبه من أيَّام حياتك". وبالتّالي، في خلاصة لما نقول: إنّ الإنسان كي يكون ناجحًا في حياته، عليه أن يجلس مع ذاته يوميًّا، فيتذكَّر في مَن فكَّر ومع مَن تكلَّم، وماذا حدث معه في هذا اليوم، فيَضع كلّ ما قام به أمام الله طالبًا منه مسامحته على الأخطاء الّتي ارتَكَبها، سائلاً إيّاه أن يمنحه القوّةَ لِتَحسين ما يمكنه تحسينه في حياته. إنَّ الرِّسالة الّتي يُرسِلُها الإنسان عبر الواتسأب إلى الآخَرين، على سبيل الِمثال، تأخذ قِسمًا من وقته، ولكنَّها تُفرِح الآخَرين عند تَلَّقيها، وهذا الفَرح يُشكِّل ثمرًا في حياة الإنسان.
إليكم الآن نصًّا بعنوان: "مبادئ يسوع القياديّة"، سأقرأه على مسامِعكم:
"إنّ الأناجيل تُبَرهِن بما لا يُرقى إليه أيِّ شكّ، أنَّ يسوع هو حقًا القائد بامتياز. لم يَكن لأيّ شخص آخر تأثير في النَّاس نظيره. إنَّ حركته لا تزال تشهد نموًّا مُطْرَدًا حتّى بعد مرور ألفَي سنة على مغادرته الأرض، وذلك بالرُّغم من كونه لم يَكتُب كِتابًا ولا عَلَّم في مدرسةِ لاهوت. لنلاحظ عشر مبادئ قياديّة، تستوقفنا في حياته كما هي مدوّنة في الأناجيل الأربعة:
بدايةً، القيادة خدمة.
لتَكُن غايتُكَ أولويّة حياتك: "وإنَّما لهذا خَرَجت"، هذا ما قاله الربُّ يسوع.
عِشْ الحياة قبل أن تقود الغَير.
مصدر التأثير هو العلائق لا المناصب.
على القادة أن يُجدِّدوا طاقاتهم.
القادة العِظام يُدعَون إلى اِلْتِزامٍ عظيم.
إبْدَأ أمانًا عند معالجة المسائل الصَّعبة.
المصداقيّة تتأتى من طريقة تلبية الحاجات وحَلِّ المشاكل.
على القادة أن يختاروا مُعاونِيهم الأساسيِّين، ويُنَمُّوهم.
لا نجاح بلا خَلَف بواسطة الكِفاح".

- إنَّ القيادة هي خِدمة: لتَكُن غايتُكَ أولويّة حياتك: إنَّ الربَّ يسوع قال لنا في الإنجيل: "إنَّ ابن الإنسان ما جاء ليُخدَم بل ليَخدُم ويَفدي بنفسه جماعاتٍ كثيرة". بدايةً، عليَّ أن أُدرِك ما هي غاية حياتي، فقَد تكون غايةُ حياتي: الخِدمة، إفراح الآخَرين، أن أكون مرتاحًا في حياتي، أن أُربِّي عائلة، إذ لا أرغب في أن تكون حياتي بلا هَدَف. إنَّ الإنسان في حياته مَيّالٌ إلى الأخِذ، أكثَر من العَطاء، لذلك نلاحظ أنَّ مؤمِنِين كُثُرًا يَشتكون من عدم إيجادهم في بيوتهم مَن يُقدِّر تَعبهم في خِدمة الآخَرين. لذا يُسارِعون إلى طَرحِ السُّؤال التّالي على الكَهنة: ألّا يَحِقُّ لنا بالرّاحة وأن يقوم الآخَرون بِخدمتنا كما نَخدمهم؟ عند سماعي هذا السُّؤال، أطلبُ من هؤلاء الـمُشتَكين أن يُصلُّوا إلى الله كي يُصابوا بِمَرضٍ يُقعِدهم في السَّرير فينالوا الخِدمة من الآخَرين. ثمّ أعود لأطرح السُّؤال عليهم: أَيُّهما أسهل: أن تُصابوا بمرضٍ يجعلكم طَريحي الفِراش، أم أن تقوموا بِخدمة مَن هُم بحاجة إلى خِدمتكم؟ بالطبع، إنَّ خِدمة الآخَرين أفضل من أن نكون طريحي الفِراش. لذا، فلنسعَ إلى خدمة الآخَرين، حتّى ولو لم يَقُم أحدٌ يومًا بخدمتنا، وحتّى ولو شعرنا بالتَّعب. فالسِّكين يُسَّنُ كلَّما زاد استعماله، أي أنّه يُصبح أفضل من حالته الأولى، وكذلك الحُفرَة تتسِّع في الأرض كلَّما تمَّ إفراغ التُّراب منها. إنَّ قلوبنا تتسِّع كلَّما ازدادت عطاءً، لذلك تُصبح الخِدمة لا سبب إنزعاج لنا من الآخَرين، إنّما فرصةً لنا للتَّعبير عن محبَّتنا لهم. ولكنْ إذا كنْتُ أقوم بالخِدمة من أجل الحصول على خدمة ما في المقابل، فهذه تُسمَّى تجارة: تجارة مشاعر، أو تجارة اجتماعيّة: دعاني إلى الغذاء أدعوه إلى الغذاء، عرَّفته على فُلان من أجل مصالح تجاريّة. ولكن عندما يقوم الإنسان بخدمةٍ للآخَرين من تلقاء نفسه من دون انتظار أيّة مكافأة بالمقابل من الآخرين أو حصل على مكافأة منهم من دون أن يطلبها، فإنَّه يشعر بفرحٍ عظيمٍ لا وَصفَ له.

- عِشْ الحياة قبل أن تقود الغَير: في هذه الحياة، ما من أحدٍ غبيّ، إذ يستطيع الإنسان القيام بـ"سْكَانِر" لكلّ إنسان، فيُدرِك مَن يتكلَّم معه بِصِدقٍ وقناعة، ومن لا يفعل ذلك. على الإنسان أن يكون صادقًا مع الآخَرين قبل أن يطلب من الآخَرين أن يكونوا صادِقين معه. أخبرني مرّة أحدهم و هو صاحب شركةً، أنّه يرسل أبناءه إلى كافة فروع هذه الشَّركة كي يعملوا في كافة مجالات الخِدمة فيها، كالمسح والتنظيف، قبل أن يترَّقوا إلى مناصب القيادة وِفقَ تقرير من المسؤولين عنهم يُرفَع إلى أبيهم. إنَّ هذا التَّصرُف الوالديّ من شأنه أن يجعل من أبنائه، متى وصلوا إلى مراكز القيادة، قادِرين على تقدير تَعبِ موظفِّيهم؛ وأنّهم لن يتمكَّنوا من الوصول إلى مراكز مُهمَّة في الشَّركة إلَّا بفضل كفاحهم للوصول إليها.إذًا، قبل أن نطلب من الآخَرين القيام بأمرٍ ما، علينا اختباره: فمثلاً، لا أستطيع أن أطلب من الآخَرين تلاوة المسابح إذا كنتُ أنا لا أصلِّيها أو أقلَّه أسعى إلى تِلاوتها. إنّ التنظير سهلٌ، أمّا التطبيق فَصَعبٌ.

- إنَّ مصدر التأثير هو العلائق لا المناصب. إنّ العلائق شيءٌ مهمٌّ وهو يشكِّل رصيدًا للإنسان. عندما نكون في اجتماعٍ معيَّن، ننصح الحاضِرين لا بالتّركيز على المعلومات الّتي نالوها وحَسب، إنَّما بالأكثر على إنشاء علاقات صداقة مع الموجودين في هذا اللِّقاء أو الاجتماع. فمهما كان عدد الأشخاص الّذين نعرفهم، ومهما كانت مُدّة معرفتنا بهم، تبقى أمورٌ كثيرة لاكتشافها فيهم.
- على القادة أن يُجدِّدوا طاقتهم: في سِفر المزامير، نقرأ: "كالنَّسر تُجدِّد شبابي". إنَّ النَّسر يعيش بِقدر ما يعيش الإنسان تقريبًا، ولكنّه عندما يصل إلى عُمر الأربَعين، تُصبح أجنحته ثقيلة، وأنفه لَيِّن، وكذلك مخالبه، لذلك يقوم باعتلاء أعلى صخرة يمكنه الوصول إليها ثمّ يضربها حتّى يتكَّسر أنفه، وينتظر نموّه من جديد، ثمّ يسحب مخالبه، وينتظر نموُّها من جديد، ثمّ ينتف ريشه، وينتظر أيضًا نموَّه. بعد هذا التَّجديد، يعود النَّسر إلى الحياة من جديد فيعيش أربعين سنةٍ جديدة. في هذه الحياة، قد يكون هناك أشخاص أعزّاء علينا لا يمكننا التخلِّي عنهم. إنَّ هذا التَّجديد الدَّائم هو الّذي يدفع الإنسان إلى التقدُّم.كي يتجدَّد الإنسان مسيحيًّا، عليه القيام بوقفة صلاة يوميّة، فيُكرِّس على سبيل المِثال مدَّة عشر دقائق للصَّلاة، ولكنَّه يتفاجأ أنّه في هذه المدَّة الّتي يُخصّصها للصّلاة يواجَهُ بالعديد من التَّحديات، إذ يخطر على باله القيام بما لم يخطر على باله القيام به قَبْل الصَّلاة، كالقيام ببعض الاتِّصالات، وتناول الطَّعام والحاجة إلى الشُّرب وسواها من الأمور. لذلك، نقول إنّه على الإنسان ألّا ينتظر وقت فراغٍ لتكريسه للصّلاة، إنّما عليه أن يُفرِّغ قِسمًا من وَقته للصَّلاة. وقد اعتدنا على الصّلاة قَبْل النَّوم، لا لإعطاء الربِّ الفَضلَة في نهارنا، بل لأنّنا وَجدنا أنّ هذا الوقت هو الوقت الأمْثَل للصَّلاة، وقت متواصل من دون انقطاع، ولكن إذ استطعنا الصَّلاة أيضًا في النَّهار، فلا نتردَدَنَّ في القيام بذلك. ولا نطلبنَّ الكثير من الوقت في البداية، إذ مع الوقت نكتشف تلقائيًا أهميّة هذا الوقت في حياتنا.

- إنَّ القادة العِظام يُدعَون إلى التزامٍ عظيم: هذا الالتزام العظيم قد يكون مسؤوليّة عظيمة، ولكنَّ هذا الالتزم قد يكون في أمور معيّنة،كالمسامحة، ومصالحة الأشخاص مع بعضهم البعض، وقد يصبح هذا القائد فيما بَعد مَرجعًا للآخرين. إنَّ العَظمة لا تكمن في تعرُّفي على أشخاصٍ كُثُرٍ والبقاء في مشكلتي، إنَّما في تعرُّفي على شخصٍ يساعدني على حلّ مشكلتي. لذلك، إنّ هذا الالتزام العظيم يعود إلى نوعيّته: فهناك أمور تَعنِيني ولكنّها لا تَهمُّ الآخَرين؛ وهناك أمورٌ غير ماديّة، يحتاج إليها الآخَرون: فمثلاً، حين يكون شخصٌ مجروحٌ في ذكائه، فإنّه لا يهتمّ للمال الّذي قد أعطيه إيّاه كثيرًا بِقَدر ما يهتمّ لِمَن يُصغي إليه ويُكلِّمه، فهو يحتاج إلى الكلمة أو إلى الابتسامة.
إبدأ أمانًا عند معالجة المسائل الصَّعبة: وهذا يعني أنّه عندما يقصدني أحدٌ لمساعدته على معالجة مشكلةٍ تعترضه، عليّ أوَّلاً أن أسعى إلى طَمأنَتِه قائلاً له إنّي لا أبتغي الحصول منه على شيء، وإنّي لا أريد شيئًا سوى راحته. من خلال هذه الإيجابيّات، أخلق أمانًا عند الآخَر من خلال حضوري معه، ومن خلال طمأنته قائلِاً له إنّي لا أبتغي أذيّته إنّما راحته، فيشعر الإنسان بالرَّاحة ويقول كلّ ما في باطنه، وما يُسبِّب له انزعاجًا.

- إنَّ الـمِصداقيّة تتأتَّى من طريقة تلبية الحاجات، وحلّ المشكلات: عندما نقول تلبية الحاجات، فهذا يعني أنّه إذا استطعنا المساعدة الماديّة فلنُقدِّمها لهم، وإنْ استطعنا تقدمة حاجات معنويّة لهم فلنقدِّمها أيضًا. عندما التقى بطرس بالـمُقعَد عند باب الهيكل، قال له: "لا فضَّة عندي ولا ذهب. ولكن أعطيك ممّا عندي" (أع 3: 6). نحن قد نملك معارف، أو نملك وقتًا، أو أُذنًا مُضعية، أو ابتسامةً. إذًا، إنَّ كلَّ إنسان يستطيع أن يُعطي بحسب القُدرة الّتي أعطاه إيّاها الله. في بعض الأوقات، يتنافس التَّلاميذ بين بعضهم البعض، فيسعى البعض منهم إلى إخفاء ما درسوه عن رفاقهم، فنتدخّل هنا لنطلب منهم ألّا يبخلوا بمعلوماتهم عن رفاقهم، ونحثّهم على مساعدة بعضهم البعض في حلّ بعض المسائل المدرسيّة، من دون خوف، فينجحوا كلّهم في الامتحانات. وهنا حين يتكلَّمون عن العدالة الاجتماعيّة، يَطرَح السُّؤال: لماذا يملك أشخاصُ مالاً وممتلكات، فيما البعض الآخَر لا يملكون شيئًا؟ إنَّ المطلوب في هذه الحالة هو أن يقوم الإنسان الغني بإعطاء الإنسان المحتاج. ولكن هذا لا يعني أن ننتزع من الغنيّ ممتلكاته لإعطائها للمحتاج لأنّ هذا يُسمَّى ظُلمًا لا عَدلاً، إذ يحقُّ لِكُلِّ إنسانٍ أن يكون لديه ممتلكات.

- على القادة أن يختاروا معاونيهم الأساسيِّين، وينمّوهم، إذ لا نجاح بلا خَلَف يواصل الكِفاح: هذا ما علينا فِعله، لأنَّه عندما نؤثِّر على شخصٍ آخر، هذا يتطلَّب منّا أن نكون مسؤولين في تنشئته لمتابعة مسيرة العمل معنا. كان باستطاعة يسوع القيام بكلِّ شيءٍ وحده، ولكنّه اختار اثني عشر رسولاً واثنين وسبعين تلميذًا، وهذا ما جعل الكنيسة تستمرّ. وهنا يُطرَح السُّؤال: مع مَن علينا العمل؟ كي نتمكّنَ مِن العمل مَع الآخر، علينا أن نُدرِك أنَّ الآخَر مختلف عنِّا. وكذلك كي نتمكَّن من قبول شخصٍ آخر في العائلة أو خارجها، علينا أن نقبل أنَّه مختلفٌ عنِّا. حين نُدرِك أنَّ الآخَر مختلف عنِّا، نستطيع العمل معه. ولكن إنْ أردنا جَعل الآخَر على مِثالِنا، سوف نختلف مع بعضنا البعض، ولن نتمكَّن من العمل معًا. هذا ما أردت أن نـتأمَّل فيه اليوم.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِن قِبَلِنا بتصرُّف
لقاء شبيبة أذكرني في ملكوتك تتمة...
28/5/2019 لقاء تنشئة روحيّة نحن اليوم مدعوِّون كي تكون جماعتنا، على مِثال جماعة الرُّسل
تأمّل للأب ميشال عبّود
في لقاء شبيبة "أذكرني في ملكوتك"
في المركز الروحي- زوق مكايل

28/5/2019

كان الربُّ يسوع محاطًا على الدَّوام بالجماهير: فقد اختار الربُّ مِن بَنِي البشر اثني عشر رسولاً، إضافةً إلى اثنين وسَبعين رسولاً، كما كانت الجموع تتبَعُه أينما ذهب. كان الرُّسل، بطرس ويعقوب ويوحنّا، يلازمون الربّ يسوع في كلّ الأحداث الـمِفصليّة في حياته: فكانوا معه على الجبل في يوم التجلِّي؛ كما كانوا معه، عند شِفائه للمرضى، على سبيل الـمِثال، حين شَفى ابنة يائيروس؛ كما رافقوه في رِحلته الأخيرة إلى بستان الزَّيتون، قُبيلَ موته. أمّا الرُّسلُ الاثنان والسَّبعون، فكان الربُّ يُرسِلهم إلى كلِّ مكانٍ أوشَك الذّهاب إليه، مُعطيًا إيّاهم سُلطانًا على طَردِ الشَّياطين، وكانوا يقدِّمون له مُلَّخصًا لِما حقَّقوه في الرِّسالة الّتي أَرسلهم إليها. عند عودتهم مِن الـمُدن الّتي أُرسلوا إليها للتَّبشير به، جاء التّلاميذ الاثنان والسَّبعون فرِحين إلى الربِّ، قائلِين له: "يا ربُّ، حتّى الشياطينُ تَخضعُ لنا باسمِك"(لو 10: 17)، فأجابهم الربّ قائلاً: "لا تفرحوا بأنَّ الأرواح النَّجسة تَخضَع لكم، بل افرَحوا بأنَّ أسماءَكم مكتوبةٌ في السَّماوات"(لو 10: 20).
تألَّفت جماعة الرُّسل، مِن أشخاصٍ مُختلفِين في الطِّباع والشَّخصيّات والوظائف: فجماعة الرُّسل ضَمَّت عددًا كبيرًا مِنَ الصَّيادِين إضافةً إلى عشارٍ هو مَتّى الرَّسول. لجأ بعض الرُّسل إلى الواسِطة في سبيل الحصول على مراكز مُهمَّة في الملكوت، كما فَعَل ابنا زبدى على سبيل الـمِثال، إذ أَتَيا مع أمِّهما الّتي جاءت تَطلب لهما مِن الربِّ يسوع أن يُجلِس واحدٌ منهما عن يمين الربّ والآخر عن يساره في الملكوت، فكان جواب الربِّ لهما: "إنَّكما لا تعلمان ماذا تسألان: أَتَستطيعان أن تشربا الكأس الّتي سأشربها؟ قالا له: نستطيع. فقال لهما: أَمّا كأسي فَسَوف تشربانِها، وأمّا الجلوس عن يميني وعن يساري، فليسَ لي أنْ أمنحه، بل هو للّذين أَعَدَّه لهم أبي"(متى 20: 22-23). في تَصرُّف هَذَين الرَّسولَين، تَحقَّق ما قاله لنا كتاب الاقتداء بالمسيح، إنَّ الكثيرين يودُّون اتِّباع يسوع ولكنَّ قلائلَ هُم الّذين يرغبون في حَملِ صليبه. إنَّ استعانة ابْنَي زبدى بوالِدَتهما، من أجل الحصول على الملكوت، أثار غيظ الرُّسل، فتجادلوا في الطريق حين كانوا يسيرون في الطريق مع الربّ حول "الأكبر بينهم في ملكوت السَّماوات". عندما عَلِمَ الربُّ بموضوع الجِدال، قال لهم: "مَن أراد أن يكون كبيرًا فيكم، فليَكُن لَكم عبدًا: هكذا ابنُ الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُمَ ويَفدي بنَفسِه جماعة النَّاس"(متى 20: 26-28). واليوم، أيضًا، يختارنا الربُّ لاتِّباعه على الرُّغم من كلِّ اختلافاتِنا البشريّة، ويدعونا إلى التَّعبير عن رغبتِنا في اتِّباعه من خلال التَشبُّه به في عَيْشِ الخدمة مع الآخَرين.كان متّى الرَّسول عشّارًا، وقد كان خاطئًا بالنِّسبة إلى اليهود، إذ كان يقوم بجباية الأموال منهم، أي أنّه كان يأخذ مالاً مِنَ الشَّعب أكثر ممَّا يستحقّ. لقد تجرّأ الربُّ يسوع على دخول بيت هذا الخاطئ ومشاركته الطَّعام، بحضور عددٍ من العشَّارين. هذا ما سبَّب استياءَ الفرِّيسيين من الربِّ. أراد الفرِّيسيون التَّعبير عن انزعاجهم للربّ، لكنَّهم لم يتمكَّنوا من الوصول إليه بسبب اكتظاظ المكان، فوجَّهوا ملاحظتهم هذه إلى التَّلاميذ الّذين نَقَلوها للربّ. عندما عَلِم الربُّ بِتَفكير الفرِّيسيين قال: "ليس الأصحَّاء بمُحتاجين إلى طبيبٍ، بل المرضى. ما جِئتُ لأدعو الأبرار، بل الخاطئين"(مر2: 17).

إنَّ شخصيّة بطرس الرَّسول هي مِنَ الشخصيّات الأكثر لَفْتًا للنَّظر بين شخصيّات الرُّسل الاثني عشر. في قيصريّة فيلبُّس، طرح الربُّ يسوع سؤالاً على تلاميذه قائلاً: "مَن ابنُ الإنسان في قولِ النَّاس؟"(متى 16: 13)، فأعطاه الرُّسل أجوبةً مختلفةً، فقالوا له إنَّ البعض يعتقدون أنَّه إرميا أو إيليّا أو أحد الأنبياء. عندها طَرح الربُّ سؤالاً آخر عليهم، هو: "ومَن أنا في قولِكم أنتم؟ فأجاب سمعان بطرس: أنتَ المسيحُ ابنُ الله الحيّ. فأجابه يسوع: طوبى لك يا سمعان بن يونا، فَلَيسَ اللَّحم والدَّمُ كَشَفا لَكَ هذا، بل أبي الّذي في السَّماوات"(متى 16: 15-17). إذًا، لا يستطيع الإنسان التَّبشير بالربِّ يسوع، إنْ لم يكن مؤمِنًا به، والإيمان هو نعمةٌ يحصل عليها الإنسان مِن الله. إنّ بطرس الرَّسول نفسه لم يَفهم ما قاله، والدَّليلُ أنَّه حين سَمِع بطرسُ الربَّ يُنْبِئُهم بموته قائلاً لهم إنَّ ابنَ الإنسان "سيُعاني آلامًا شديدةً من الشُّيوخ وعظماء الكهنة والكتَبَة، ويُقتَل ويقوم في اليوم الثّالث"(متى 16: 21). انفرد بالربّ وعاتَبَهُ قائلاً: "حاشى لك أن يُصيبَك هذا!"(متى 16: 22). فَالْتَفتَ الربُّ إلى بطرس قائلاً: "انسَحِبْ! ورائي! يا شيطان، فأنتَ لي حَجَرُ عثرة، لأنَّ أفكارَكَ لَيسَت أفكارَ الله، بل أفكار البَشَر" (متى 16: 23)، في حين أنَّ الربَّ كان قد سلَّمه مفاتيح ملكوت السَّماوات، عند اعتراف بطرس بحقيقة الربّ، قائلاً له: "أنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ سأبني كَنيستي، فلن يقوى عليها سُلطانُ الموت"(متى 16: 18).

إنّ الربَّ يسوع قد طَلبَ مِن رُسُله أن يسبقوه إلى الشَّاطئ المقابل ريثما يصرف الجموع الَّتي كانت تتبَعُه لتُصغي إلى تعاليمه الإلهيّة، ففَعلوا ما أمرَهم به الربُّ. ولكنَّ الربَّ قد تأخَّر في مُلاقاتهم لأنّه صَعِدَ إلى الجبل ليُصلِّي، فهبَّت عاصفة في اللَّيل، وبدأت الأمواج تَلطم سفينة الرُّسل. عندها جاء الربُّ إليهم ماشيًا على الماء، فخافوا عند رؤيتهم له، إذ ظنُّوه خيالاً، ولكنَّ الربَّ حاول أن يُهدِّئ من رَوعهم قائلاً: "أنا هو لا تخافوا!"(متى 14: 27). فأجابه بطرس الرَّسول حينها: "يا ربِّ، إنْ كُنْتَ إيّاه، فمُرني أن آتِيَ إليكَ على الماء". فقال له الربُّ :"تعالَ! فنزل بُطرُسُ من السَّفينةِ ومشى على الماءِ آتيًا إلى يسوع. ولكنَّه خافَ عندما رأى شِدَّةَ الرِّيحِ، فأخَذَ يغرَق، فصرخَ: يا ربِّ نجِّني! فَمَدَّ يسوع يَدَه لوَقتِه وأمسَكَه وهو يقول: يا قليلَ الإيمان، لماذا شكَّكت؟"(متى 14: 28-31). في ليلة الآلام، أخبر الربُّ تلاميذه أنَّه في هذه اللَّيلة، سيكون حجرة عثرةٍ لهم، إذ فيه سيتمّ ما كُتِب: "سأَضرِبُ الرَّاعي، فتتبدَّدُ خِرافُ القطيع" (متى 26: 31). فرَفضَ بطرس هذا الكلام، قائلاً للربّ: "إذا كُنْتَ لهم جميعًا حجرةَ عثرةٍ، فلَن تكون لي أنا حَجَر عثرة" (متى 26: 33). عندها أخبر الربُّ بطرس أنَّه سيُنكِره ثلاث مرّات قبل صياح الدِّيك، وهذا ما حصل فِعلاً.

في ليلة آلامه، ذهب الربُّ إلى بستان الزَّيتون بِرفقة رُسُلِه، فقال لهم: "نفسي حزينةٌ حتّى الموت. أُمكثوا هنا واسهروا معي ثمّ أبعَد قليلاً وسَقَط على وجهِه يُصلِّي فيقول: "يا أَبَتِ، إنْ أَمكَنَ الأَمرُ، فَلتَبتَعِد عنِّي هذه الكأس، ولكن لا كما أنا أشاء، بل كما أنتَ تشاءَ ثمَّ رَجِعَ إلى التّلاميذ فَوَجَدهم نائِمينَ، فقال لبُطرُس: "يا سمعان، أَتَنام؟ أَلَمْ تَقوَ على السّهر ساعةً واحدة؟"(مر 14: 37). وعندما جاء الجنود لاعتقال الربِّ، تحمَّس بطرسُ للدِّفاع عن الربِّ، فاسْتَّلَ سيفَه وضَرَب خادم عظيم الكهنة فقَطَع أذُنَه (يو18: 10). فقال الربُّ لبُطرس: "إغمِد سيفَك، فكلُّ مَن يأخُذ بالسَّيفِ، بالسَيفِ يَهلِك."(متى 26: 52)، ثمّ "لَمَسَ الربُّ أُذُنَ (الخادم) وأَبرأه" (لو 22: 51). إذًا، وبَّخ الربُّ بطرسَ الرَّسول في كلّ هذه المواقف الثّلاثة: ويخبرنا الإنجيليّ لوقا، أنّه عند إنكار بطرس للربّ، التَفَتَ الربُّ إلى بطرس ونظر إليه، فتذكّر بطرس حينها كلام الربِّ له إذ قال له: "قبل أن يصيح الدِّيك اليوم، تُنكِرني ثلاثَ مرَّاتٍ. فخرج من الدَّار وبكى بكاءً مرًّا (لو22: 61-62)، فَشَعَرَ بطرس وكأنَّ حياته قد انتَهَتْ.
عند فَجر الأحد، ذهبَت النِّسوة إلى القبر لتحنيط جسد الربِّ فاكتشفْنَ قيامته من الموت، فانطلقْنَ في نقل هذه البشارة، فأخبرْنَ أوّلاً الرُّسل. فتوجَّه الرَّسولان بطرس ويوحنّا إلى القبر ليتأكَّدا ممّا سَمِعاه، ويخبرنا الإنجيليّ يوحنّا أنَّ يوحنّا الرَّسول قد وَصَل أوّلاً إلى القبرِ ولكنَّه لم يدخل بل انتظر خارجًا وصول بطرس الّذي دَخل إلى القبر فوَجدَ الحال كما قالت لهم النِّسوة (يو 21: 4-6). بعد قيامته من الموت، ظهر الربُّ للرُّسل عدَّة مرّات، ولكنْ عند ظهوره لهم على بُحَيرة طبريّا، لم يُعاتِب الربُّ بطرسَ على نُكرانه له، بل بادر إلى طرَح السّؤال عليه قائلاً: "يا سمعان بن يونا، أتحبُّني أكثر ممّا يُحبُّني هؤلاء؟"(يو 21: 15). قبل قيامة الربّ، كان بطرس الرَّسول يعتَدُّ بِنَفسِه، أنّه لن يُنكِر الربَّ، وأنَّه لن يتركَه وحَده حتّى لو تَرَكه جميع الرُّسل. أمَّا اليوم، فلا نجد بطرس الرَّسول هكذا، بل نجِده نادمًا على نُكرانه للربّ، إذ أجاب الربّ، قائلاً: "يا ربّ، أنْتَ تعلم كلَّ شيء، أَنْتَ تعلم أنِّي أُحبُّك حُبًّا شديدًا"(يو 21: 17). وبالتّالي، لقد اعترفَ بطرس الرَّسول بمحبَّته للربّ على الرُّغم من ضُعفِه البشريّ، فَسَلَّم الربُّ حينها رعاية الكنيسة إلى بطرس، إذ قال له: "إرعَ خِرافي" (يو21: 17).
بعد العنصرة، انطلق الرُّسل للبشارة بقيامة المسيح. وقد عانَتْ الكنيسة الأولى من الاضطهاد، وقد اشتهر شاول، الّذي أصبح فيما بعد بولس الرَّسول، باضطهاده للمسيحيِّين. كان بولس الرَّسول إنسانًا متعمِّقًا في ديانته اليهوديّة، وقد عَمِل على اضطهاد المسيحيِّين، وكان شاهدًا على مقتل الرَّسول اسطفانوس، أوَّل الشُّهداء. ظهر الربُّ لِشاول على طريق دِمشق، فأدرَك هذا الأخير أنَّه كان يضطهد الربَّ نفسه، وقرَّر التَّوبة، فقال له الربُّ: "قُم فادْخُل المدينة، فيُقالُ لكَ ما يجبُ عليكَ فِعلُه"(أعمال 9: 6). ثمّ ظهر الربُّ لِحَنَنْيا، طالبًا منه الاهتمام ببولس، وتعليمه الإيمان القويم، فخاف حنَنْيا عند سماعه ذلك إذ كان معروفًا عن شاول، اعتقاله للمسيحيِّين واقتيادهم إلى السُّجون للموت. فأجابُ الربُّ حَنَنْيا قائلاً له: "إذهَبْ، فَهَذا الرّجُلُ أداةٌ اخْتَرتُها لِكَي يَكونَ مَسؤولاً عن اسمي عند الوَثنيِّين والملوك وبَني إسرائيل، فإنِّي سأُريه ما يجِبُ عليه أن يُعانِيَ من الألم في سبيل اسمي"(أعمال 9: 15-16).

بعد حادثة الشّاب الغنيّ، قال بُطرُسُ للربّ: "ها قد تَرَكْنا نحن ما عِندَنا وتَبعناك". فقال لهم (الربُّ): "الحقَّ الحقَّ أقولُ لَكُم، ما مِن أحدٍ تَرَكَ بيْتًا أو امرأةً أو إخوةً أو وَالِدَينِ، أو بَنينَ من أجل ملكوت الله، إلّا ونال في هذه الدُنيا أضعافًا، ونال في الآخِرَةِ الحياة الأبديَة" (لو 18: 28-30). إذًا، مَن يريد اتِّباع المسيح، لا بُدَّ له مِن التَّخلِّي عن كلِّ شيءٍ آخر، وحَمْلِ الصَّليب كما فَعل الربُّ.

بعد أن تَسَلَّم بطرس الرَّسول مفاتيح السَّماء مِنَ الربِّ ورعاية الكنيسة، وبعد أنْ ارتَدَّ بولس الرَّسول عن اضطهاده للمسيحيِّين، انطلق هذان الرَّسولان للبشارة معًا بقيامة المسيح، في العالم كلِّه. آمن الكثيرُ مِن الوثنيِّين بالربِّ نتيجة تبشير هذين الرَّسولَين، ممّا أدَّى إلى طَرح إشكاليّة بين اليهود والوثنيِّين حول ضرورة الختانة أو عَدَمِها. حين كان الرَّسول بطرس يُفكِّر أثناء صلاته في حلٍّ لهذه الإشكاليّة، إذ بالربّ يوضِحُ له هذه المسألة من خلال رؤيةٍ (أعمال 11: 1-18)، فرأى وِعاءً نازلاً من السَّماء وفيه عدد من الحيوانات، فطلب منه الربُّ أنْ يَذبح مِن هذه الحيوانات ما يكفيه حاجته من الطَّعام. فأجابَ بطرسُ الرَّسول الربَّ: "حاشى لي يا ربّ، لم يَدخُل فَمي قَطّ نَجِسٌ أو دَنسٌ" (أعمال 11: 8)، فأجابه الصَّوت:"ما طهَّره الله لا تُنجِّسه أنتَ" (أعمال 11: 9)، وبعد انتهاء هذه الرّؤيا إذ برجالٍ ثلاثة قد أتوه وأخذوه إلى قيصريّة، فبشَّر بطرس أهل ذلك البيت واعتمد أهله ونالوا الرُّوح القدس. إنَّ بطرس وبولس قد اختلفا في مسألة الختانة، إذ كان بولس لا يجد ضرورة لختان الوثنيِّين عند إيمانهم بالربِّ، أمَّا بطرس، فقد كان مع ختانة الوثنيِّين بسبب العِتاب الّذي ناله من اليهود المسيحيِّين، ولكن بعد رؤيته لمشيئة الربّ في الرّؤيا، لم يعد يجد ضرورةً لختانة الوثنيِّين. بعد حلِّ هذه المسألة، افترق الرَّسولان بطرس وبولس في مسيرتهم التبشيريّة. وقد تابع بولس الرَّسول مسيرته التبشيريّة بالربّ مع برنابا، ولكنّهما بعد مدَّة من الزَّمن انفصلا.

بعد العنصرة، انطلق الرُّسل للبشارة بقيامة الربِّ فبشَّر كلٌّ منهم في مدينة، ممّا ساهم في انتشار المسيحيِّة في العالم كلِّه. بدأ الرُّسل بشارتهم بالمسيح من خلال الوَعظ أوّلاً، وما عِظةُ بطرس الرَّسول في يوم العنصرة إلّا دليلٌ على ذلك، إذ أخبر الحاضرين في ذلك اليوم حقيقة الربِّ قائلِاً: "فليعلم يَقينًا بيت اسرائيل أجمَع أنَّ يسوع هذا الّذي صلبتموه أنتم، قَد جعله الله ربًّا ومسيحًا" (أعمال 2: 36). بعد العنصرة،كان الرُّسل يجتمعون مع بعضهم البعض للصّلاة وكَسْرِ الخبز الأرضيّ. عندما لاحظ بطرس الرَّسول أنَّ بعض الإخوة الحاضِرين مَزَجوا بين الطَّعام الأرضيّ وبين جَسَدِ الربِّ، طَلبَ منهم بولس الرَّسول مشاركة بعضهم البعض في الخيرات الأرضيّة في بيوتهم، وتَقاسُم الخيرات السّماويّة في لقائهم مع الإخوة المؤمِنِين، إذ قال: "فَمَن أكَلَ وشَرِبَ وهو لا يُميِّزُ جَسَدَ الربِّ، أَكَلَ وشَرِبَ الـحُكمَ على نَفسِه"(1قور 11: 29). إذًا، إنَّ عدم استحقاق المؤمِن لجسد الربِّ لا يرتكز فقط على ارتكاب هذا الأخير الخطايا، إنَّما تقوم على عدم تمييزه الطَّعام الأرضيّ مِن جسد الربِّ المقدَّس.
في بداية المسيحيّة،كان المؤمِنون يجتمعون ضمن مجموعاتٍ صغيرة تجمتع للحصول على التَّعليم المسيحيّ من الرُّسل. ولكن مع موت الرُّسل واحدًا تِلو الآخر، ومع انتشار الرِوايات حول قيامة المسيح، وخوفًا من تلاشي حقيقة الإيمان، اختارت الكنيسة سبعةً وعشرين كتابًا تشكِّل كِتابها المقدَّس الّذي يستطيع كلِّ مؤمِن الاعتماد عليه لمعرفة الإيمان الصَّحيح على مرِّ السِّنين: فاختارت الأناجيل الأربعة: متّى، مرقس، لوقا ويوحّنا؛ كما اختارت كتاب أعمال الرُّسل، ورسائل مار بولس، والرِّسالة إلى العبرانيِّن، ورسائل مار بطرس، ورسالة مار يعقوب، ورسالة القدِّيس يهوذا، ورسائل القدِّيس يوحنّا إضافةً إلى رؤيا يوحنّا. هذه هي الكُتُب المقدَّسة الّتي تعترف بها الكنيسة، أمّا بَقيّة الكُتب فقَد سُمِيَّت بالكُتب المنحولة، إذ لم تعترف بها الكنيسة لما فيها من أمورٍ خياليّة. نحن نؤمِن ونعترف بهذه الكُتُب لأنّ الكنيسة صدَّقَتْ على صِحَّتها، فالربّ يساعِدنا على فَهمِها من خلال الرُّوح القدس، الّذي يُنير عقولَنا. في هذا الصَّدد، يقول لنا الربُّ يسوع: "لا يزالُ عِندي أشياءٌ كثيرةٌ أقولها لَكم، ولكنَّكم لا تُطيقون الآنَ حَملَها. فَمتى جاء هو، أي رُوح الحقّ، أَرشَدكم إلى الحقِّ كُلِّه، لأنَّه لن يتكلَّم مِن عِنده، بل يتكلَّم بِما سَمِعَ ويُخبرُكم بما سيَحدُث" (يو 16: 12-13). إذًا، إضافةً إلى هذه الكُتُب السَّبعة والعِشرين، نحن نؤمِن بما يُعلِّمنا إيّاه الرُّوح القدس، لأنَّه بكلِّ تأكيدٍ لا يتنافى مع ما علَّمنا إيّاه الربُّ يسوع في إنجيله. في هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول: "فَلو بشَّرناكم نحنُ أو بشَّركم ملاكٌ من السَّماء، بخلاف ما بشَّرناكم به، فليَكُن محرومًا" (غلاطية 1: 8). لقد تلَّقى الرُّسل تعليمهم مِنَ الربِّ يسوع شخصيًّا، فعاشوا معه واختبروه، وكان لكلِّ واحدٍ منهم لقاؤه الخاصّ مع الربّ، وبعد موت الربِّ وقيامته، انطلقوا للبشارة به في المسكونة بأسْرِها، وماتوا شُهداء في سبيل تلك البشارة، ما عدا يوحنّا الرَّسول الَّذي مات موت ربِّه، في منفاه، في جزيرة بَطمُس.

لبَّى الرُّسل دَعوةَ الربِّ لهم لاتِّباعه، وعاشوا معه كجماعة، على الرُّغم من اختلافاتهم، فآمَنوا بالربِّ، وأصبحوا أحبّاءه، إذ قال لهم الربُّ: "لا أدعوكم خَدَمًا بعد اليَوم، لأنَّ الخادم لا يَعلم ما يعَملَ سيِّده. فَقَد دَعوتُكم أحبّائي، لأنِّي أطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أبي"(يو 15: 15). إنّ اختبار الرُّسل حضور الله في حياتهم واختبارهم لمحبّة الله لهم، ومحبَّتهم لله هي الّتي دَفَعتهم للقبول بالموت شهداء في سبيل إيصال البشارة بكلمتِه إلى المسكونةِ كُلِّها. إنَّ ازدياد قافلة الشُّهداء في العالم، نتيجة إيمانهم بالمسيح، هي الّتي ساهَمَتْ في انتشار المسيحيّة في العالم، إذ عَبَّر الشُّهداء عن حبِّهم لله، واختبارهم لحضوره في حياتهم بطريقة شخصيّة.
نحن اليوم مدعوِّون كي تكون جماعتنا، جماعة "أذكرني في ملكوتك"، على مِثال جماعة الرُّسل: فنسعى إلى نَشْرِ رِسالتها، رسالة الرَّجاء إلى كلِّ مَن هُم حَولنا، ونعيشها في حياتنا اليوميّة، فتكون تصرُّفاتنا وأعمالنا مرآةً تعكس إيماننا بقيامة الربّ وبالتّالي بقيامة الأموات. كما أنَّنا مدعوّون إلى السَّعي الدائم للبحث عن أجوبة لكلِّ ما لا يستطيع عقلنا البشريّ فَهمَه، ولا ضَرر مِن طرح تساؤلاتنا الإيمانيّة على مَن يمتلكون خبرةً روحيّة أعمق مِنّا. في القديم، كان المؤمِنِون يلجأون إلى مرشدٍ روحيّ للحصول على الأجوبة عن تَساؤلاهم الإيمانيّة؛ أمّا اليوم، ومع وجود وسائل التَّواصل الاجتماعيّ، فقَد أَصبح مِنَ السَّهل علينا البحث عن أجوبةٍ لكلِّ تساؤلاتِنا. إنَّ عَيشَنا لروحانيّة هذه الجماعة الّتي ننتمي إليها، لا تقتصر على حضور الاجتماعات الروحيّة الّتي تدعونا إليها، إذ إنّنا مدعوِّون إلى السَّعي لتنشئة ذواتِنا روحيًّا، من خلال قراءة كلمة الله والتعمُّق بها.
إنَّ روحانيّة "أذكرني في ملكوتك"، ما هي إلّا روحانيّة الإنجيل. أمَّا الأديان فَقد اخترعها البشر لا الله، لذا نجد تناقضات في تعاليمها، فالله لا يستطيع أنْ يُناقِضَ نفسه. إنَّ المسيحيّة ليست دينًا بل هي حياة، إنّها علاقة شخصيّة مع الربِّ يسوع المسيح. نحن المجتمعون ههنا، نُشكِّل عائلة، إذ نتشارَك معًا لا مائدة المحبّة وحسب، إنَّما أيضًا، التَّعاليم الكنسيّة الّتي نتلَّقاها خلال اجتماعاتنا، فمشاركتنا لمائدة الربّ، هي الّتي تجعل منّا عائلة واحدة. نحن نُشكِّل "كنيسة" لأنّنا نؤمِن بيسوع المسيح، وما الأسرار الكنسيّة إلّا عبارة عن ترتيب لعلاقة المؤمِن الخاصّة بالربّ، ولعلاقة المؤمِنِين بالربّ. نحن نُشكِّل هيكل الله، لذا نحن لا نعمل على تنشئة الجماعة ككلّ، بل نعمل على تنشئة كلِّ فردٍ بشكلٍ خاصّ، فكلُّ شخصٍ في هذه الجماعة هو فريدٌ وفاعلٌ فيها. إنّ كلَّ واحدٍ منّا هو مهمٌّ في نظر الله أوّلاً، ثمّ في نظر الجماعة، فكُلُّ واحدٍ منّا هو حجرٌ حيّ في هيكل الله. وبالتّالي إنّ أيّ مكروهٍ قد يُصيب أحد أفراد الجماعة فَهو يُصيب الجماعة كَكُلّ. هذا ما يجعل مِن جماعتنا، جماعة رسوليّة، يجمعها الربّ يسوع المسيح، إذ يتلقَّى أعضاؤها تعاليم الربِّ لكي يتمكّنوا من نَقلِها للآخَرين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
22/1/2019 كيفية إعطاء موضوع إنّ الإنسان ينجح في إيصال رِسالته إلى الآخَرين إن كان لديه شَغفٌ
"كيفيّة إعطاء موضوع"
للأب ميشال عبود الكرملي
في لقاء شبيبة "أذكرني في ملكوتك"

22/1/2019

قبل البدء في إعطاء أيّ موضوعٍ للآخرين، علينا القيام بخطواتٍ أساسيّة معهم، نتعلَّمها من طريقة تَعامُل يسوع مع تِلميذَي عمّاوس.
بعد موت يسوع، قرّر تلميذا عمّاوس العودة إلى قريتهما، إذ قد خاب أملُهما في معلِّمهما يسوع، الّذي مات مَيتة العبيد، هو الذي كان في نَظَرِهما مُخلِّصَ اسرائيل. وبينما هما يتحادثان في الطريق حول الأمور الّتي جَرت مؤخَّرًا في أورشليم مع الربّ، إذا بالربّ يَدنو منهما، ويسير معهما. إذًا، قبل البدء بإعطاء موضوع للآخرين، علينا أوّلاً الدُّنو منهم، وثانيًّا السَّير معهم، فيكون كلامنا معهم على مستوى تفكيرهم، لا كلامًا نظريًّا لا يُحاكي توقّعاتهم وآمالهم. بعد دُنوِّه منهما، وسَيْره معهما، طرح يسوع على تلميذَي عمّاوس أسئلة، ليعرِف مدى إدراكهم لهذه الأحداث، وهذا ما يُسمّى بإحداث الفَراغ، على المستوى التربويّ. وبالتّالي، نحن أيضًا، قبل البدء بأيّ موضوعٍ مع الآخرين، علينا أن نطرح عليهم بعض الأسئلة فنُدرك إلمامَهم بالحديث، موضوع نِقاشِنا معهم، لنتمكَّن من تحديد نقطة انطلاقِنا في الحديث معهم. إنّ يسوع لم يكتفِ بطرحِ سؤالٍ واحدٍ على التلميذَين ليعرِف مدى إدراكهما لسرّ موت المسيح وقيامته، بل أرفق سؤاله الأوّل بأسئلة أخرى، ليتمكَّن من معرِفة تأثير هذا الحدث على نفسيَّتهما، فأدرَك الربُّ الإحباط واليأس وفقدان الرَّجاء الّذي يسيطر على قَلبَي هَذَين التِّلميذَين نتيجة موت الربّ. لقد أخبر الرَّسولان الربَّ يسوع عن التساؤلات الَّتي تملأ قلبَيهما وخاصّةً بعد سماعهما ما قالته النِّساء بعد عودتهنَّ من زيارتهنَّ لقبر المسيح.

إذًا، في القسم الأول من النَّص الإنجيليّ، نتعلَّم من يسوع طريقته التربويّة الّتي تقوم أوّلاً على الدُّنو من الآخَرين، والسَّير معهم على مستواهم الفِكريّ، من خلال طرح الأسئلة عليهم، لمعرفة مكنونات قلوبهم. لقد أخبر التلميذان الربَّ يسوع، أحداثًا تاريخيّة عاشاها معه، وهو لم يُقاطِعهما، بل تركهما يتكلَّمان بما يُخالِج قلَبيهما من تساؤلات حوله، وكان مُصغياً لهما. بعد أن أدرَكَ مدى تأثير حدث موته على نفسيَّتهما، وعدم إلمامِهما الكافي بجوهر هذا الحدث، بدأ الربّ يسوع يشرح لهما حقيقة هذا الحدث، انطلاقًا من الكُتُب المقدَّسة، مركَز إيمانهما اليهوديّ. بعد انتهائه من الشَّرح، "تظاهرَ" يسوع بأنّه ذاهبٌ إلى مكان أبعد، وكلامه هذا لهما ليس كذبًا، بل هو وسيلة تعليميّة تهدِف إلى جَذبِ التِّلميذَين له. إذًا، إنَّ نجاحنا في إعطاء الموضوع يستند على توافُر هذه الأهداف الموجودة في هذا النّص: أوّلاً، الدُّنو من الآخَرين، ما قد تتَّخذ أشكالاً عديدة، منها مَعرِفتنا بالأشخاص منذ فترةٍ زمنيّة معيّنة، وبالتّالي يكون دُنوُّنا منهم منبثقًا من اختبارنا معهم. ثانيًا، الانطلاق في شرح الموضوع المقترح، وتقديم معلوماتٍ جديدة للسّامِعين تجذبهم للاستمرار في الاستماع لنا.

قبل إعطاء أيّ موضوعٍ، علينا أوّلاً وضع عنوانًا لحديثِنا، وهذا مِن أصعب الأمور الّتي تعترِضنا في إعطائنا موضوعًا. على المحاضِر أن يكون كالـمُهندِس: فكما أنّ المهندس يُصوِّر في مخيِّلته كلّ تفاصيل مشروعه المعماريّ، كذلك على المحاضِر تحضير موضوعه، فيُصوِّر في فِكره كلّ تفصيلٍ يريد إيصاله للسَّامِعين. وكما فَعل يسوع مع التِّلميذَين اللّذين شَرح لهما الكُتُب، ثمّ دَعاهما إلى اختبار حقيقة ما أعلنه لهما، كذلك نحن أيضًا، يتوجَّب علينا شَرح الموضوع المطلوب منّا إلى الآخَرين، مُقدِّمِين لهم كلّ جديدٍ فيه، ثمّ ندعوهم لاختبار حقيقة ما أعلناه لهم. إنّنا رُسُلٌ للربّ في هذا العالم، لذا علينا لا إعطاء المعلومات الروحيّة للسّامِعين فحسب، بل حثُّهم على اختبار ما أخبرناهم به من خلال علاقتهم الشخصيّة بالربّ. على الرَّسول إيصال كلمة الله للآخَرين بكلّ أمانة، لا إستخدام كلمة الله من أجل إيصال ذاته، وفي هذا الإطار يقول لنا الرَّسول يوحنّا: "لا بُدَّ له أن يكبُر، ولا بُدَّ لي مِن أن أَصغُر" (يو 3: 30). على الرَسول تحديد هَدفِه، ورَسْم الطريق المؤدِّية إليه وسلوكُها، كي يتمكَّن من إيصاله إلى السَّامِعين. على المحاضِر: أوّلاً، أن يحدِّد هَدَفَه: أي ما يريد إيصاله للآخَرين. فمَثلاً، حين يُطلَب منِّي إلقاء عظةٍ على الحاضِرين على غفلةٍ، أطلب من الكاهن المسؤول إمهالي بضع دقائق، لأحدِّد في فِكري الهَدَف الّذي أرغب في إيصاله للمؤمِنِين، لأنّني حين أتمكَّن من تحديد هَدَفي من حديثي مع الآخَرين، أستطيع التحكَّم بالوَقت عبر اختصار الأفكار أو إطالة الشَّرح فيها. مَن لا يعرِف الطريق الّتي يريد الوصول إليها، فإنّ جميع الطُرُق ستكون متاحة له كي يسلكها، أمّا الّذي يعرِف الطريق الّتي يقصدها، فإنّه سيصل إليها، أي بمعنى آخر، مَن لا يَعرِف هَدَفه من الحديث مع الآخَرين، فإنّه سيقول لهم أشياء كثيرة سُرعان ما تتعرَّض للنِّسيان في أذهان المؤمِنِين؛ أمّا مَن يعرِف هَدفَ حديثه، فإنّه سيتمكَّن من إيصاله للسَّامِعين وسيترسَّخ في أذهانهم لمدَّةٍ طويلة.

كان يسوع معلِّمًا تربويًّا ناجحًا: فعندما جاء إليه معلِّمٌ في التَّوراة ليُحرِجَه قائلاً له:"ماذا أفعل لأرِث الملكوت؟"، أجابه الربُّ يسوع طارحًا عليه سؤالاً:"أنت كيف تقرأ؟". إنّ الربَّ يسوع قد استعمل مع معلِّم التَّوراة طريقة تربويّة تُسمّى "إحداث الفراغ"، تقوم على الإجابة على السؤال بسؤالٍ آخر، لمعرفة مدى إطّلاع الآخر على موضوع النِّقاش، لمعرفة نقطة الانطلاق في الموضوع لإعطاء الجواب الشَّافي على السؤال المطروح. إذًا، على المحاضِر أوَّلاً معرفة ثقافة السَّامِعين له، ليتمكّن من تحديد نقطة الانطلاق في موضوعه معهم. في الكثير من الأحيان، قد يتفاجأ المحاضِر بثقافة السَّامِعين، فيُغيِّر نقطة الانطلاق في موضوعه الّتي قد حدَّدها سابِقًا. إنّ عالمنا اليوم يفتقر إلى الإبداع والخلَق، إذ إنّه يسعى إلى الأخذ لا إلى العطاء. طَلبْتُ مرّةً من تلاميذي تدوين ما شاهِدوه آخر مرّةٍ على وسائل التواصل الاجتماعيّ، ففشلوا في ذلك لأنّ هَدَفهم لم يكن القراءة، بل فقط رؤية ما تُقدِّمه لهم تلك الوسائل الاجتماعيّة. ولكن حين يكون هَدَفُنا واضحًا من استخدامِنا لوسائل التواصل الاجتماعيّ، فإنّنا ننجح في تَذكُّر ما قرأناه فيها. إنَّ رأسنا هو عبارة عن اسفنجة تمتصُّ كلّ ما نغمسها فيه، فإذا غذّينا فِكرَنا بما لا فائدةَ منه، كانت أفكارُنا سخيفة وغير فعّالة، أمّا إذا غذَّيناها بما فيه فائدة، فإنّنا سننجح في إرواء عَطَش الآخَرين بالمعلومات الّـتي نَملِكُها. إنّ الإنسان السَّعيد هو مَن يحوِّل همومَه إلى اهتمامات: فانغماس الإنسان في همومِه يؤدِّي إلى ارتباكه، أمّا حين يحوِّل الإنسان الهموم إلى اهتمامات، فإنَّه يُصبح أقوى من هُمومه إذ يسعى إلى معالجتها والتفكير فيها لإيجاد الحلّ المناسب. إذًا، هناك ضرورة إلى محبّة الكلمة وتَذوُّقِها، لأتمكّن من اتِّخاذ القرار إنْ كانت مُناسِبة لحياتي أم لا.

عند انطلاقنا في الحديث مع مجموعةٍ معيّنة، علينا أولاً الإمعان في النَّظر إليهم، لأنّ النَّظر هو مسألةٌ في غاية الأهميّة. إنَّ يسوع المسيح قد حدَّق كثيرًا إلى الشَّاب الغنيّ الّذي جاء يسأله عن كيفيّة حصوله على الملكوت؛ وكذلك حدَّق الربُّ إلى زكّا العشّار الّذي كان قد تسلَّق جميَّزةً، وطلب منه النُّزول على عجلٍ لأنّه يرغب في الإقامة في بيته. صحيحٌ أنَّ لغة العيون هي لغةٌ في غاية الأهميّة في تواصُلِنا مع الآخَرين، ولكنّها في الوقت نفسه قد تؤدِّي إلى إرباك الآخَرين. طُلِبَ منِّي في أحد الأيّام إعطاء محاضرة لمجموعة من المؤمِنِين، فقبِلتُ ذلك. ولكن حين وَقفت أمام جماعة المؤمِنِين وحدَّقت بهم، ارتجف جسديّ كلُّه لأنّني شعرت بالخوف والارتباك، وعلى أثَرِ ذلك نَسِيتُ ما كُنت أرغب في قوله، ولم أتذكَّر إلّا القليل القليل منه. لذا هناك ضرورة لكتابة كلّ ما نرغب في قوله، حتّى في أدّق تفاصيله، كي لا يفوتنا شيءٌ نتيجة الرَّهبة الّتي قد نشعر بها عند وقوفنا أمام جماعة معيَّنة من المؤمِنِين. في هذا الصَّدد، تقدِّم لنا القدِّيسة تريزيا الأفيليّة نصيحة مفادها المحافظة على كتاب الصّلاة بين أيدينا، كي نتمكَّن من العودة إلى الصّلاة بعد انجذابنا نحو أفكارٍ تُلهينا عن الصّلاة، وتبعِدنا عن التفكير في الله وَحده. على الـمُحاضِر أن يتَّخذ وضعيّة ثابتةً أثناء إلقائه الموضوع، فلا يُشتِّت أنظار المحدِّقين به في كثرة حَركته، بل تخرق كلماته آذانهم وتتسلَّل إلى قلوبهم، من خلال ثبات حَرَكَته الجسديّة. على الـمُحاضِر الانتباه إلى نبرته في إلقائه المحاضرة وعلى سُرعته في الكلام، إذ قد تسبِّب سُرعته في الكلام عدم استيعاب الحاضرين كلّ الأفكار الّتي يطرَحُها عليهم.

على الـمُحاضِر التحلِّي بالحكمة كي يتمكَّن من الجَمع بين الكلمة والحيويّة، فلا يكون بطيئًا في إلقائه المحاضرة فيَنعس السَّامِعون له، ولا سريعًا في الكلام فيعجز هؤلاء عن التقاط جميع الأفكار المطروحة وبالتّالي عدم مقدرتهم على التفكير فيها.
على الـمُحاضِر تحديد نقطة للانطلاق منها في موضوعه ونقطة للوصول، وهذا ما يشدِّ انتباه المستمعين إليه. عندما أحدِّد نقطة الانطلاق في حديثي، سأتمكَّن من الوصول إلى الهَدَف المنشود من الموضوع. ولكن إن لم أحدِّد تلك النِّقاط، فَسَأفشل في إعطائي الموضوع للجماعة الّتي أتوجَّه إليها، ولن أتمكّن من إيصال هَدفي من الحديث إليهم. هذه الأمور في غاية الأهميّة، وهي تُكتَسب مع الوَقت، ولكن يمكنني التباحث فيها مع أشخاص لهم خبرةٌ في ذلك.

إنّ امتلاكنا للمعلومات في الموضوع المطروح للنِّقاش لا تكفي، بل هناك ضرورة قصوى لامتلاكِ أسلوبٍ خاصّ يجذب الآخَرين إلى السَّماع. فمثلاً، حين أريد أن أنسج قميصًا معيّنًا، عليّ أوّلاً شراء القِماش وأدوات الخياطة، قبل البدء بحياكة القميص. كنتُ مرّةً مع رفيقٍ لي أهداني قلمًا غالي الثَّمن، فقَبِلتُه منه، وعندما طَلب مِنّي أحد التّلاميذ قلمًا ليتمكَّن من تدوين دُروسه، أعطيته له، ولكنّه تفاجأ بامتلاكي هذا القلم الغالي الثَمن وبالتخلِّي عنه بسهولةٍ، فاحتفظ به. إذًا، بعض الأمور الّتي قد تبدو في غاية الأهميّة لي، قد تبدو سخيفةً للآخَرين، والعكس صحيح، لذلك معرفة ثقافة الجماعة الّتي نتوجَّه إليها هو أمرٌ في غاية الأهميّة لنتمكّن من لَمسِهم في العُمق، فلا تذهب كلماتُنا سُدىً، بل تفعلُ فِعلها في حياتهم. ونحن اليوم، شبيبة "أذكرني في ملكوتك"، مدعوِّون إلى الانطلاق نحو شبيبة من رعايا مختلفة، لذا علينا التعرُّف بدايةً إلى الخَلفيّات الثَقافيّة لهذه الشبيبة الّتي ننطلق نحوها، لنتمكَّن من جَذبِهم إلى حديثنا، لذلك علينا أن نطلب منهم أن يُعرِّفوننا إلى ذواتهم: إلى أيّ جماعة كنسيّة ينتمون، أعمارهم، أسماؤهم. من أجل النَّجاح في مَهمَّتنا هذه، على كلّ واحدٍ منّا التزوُّد بالمعرفة حول آخر التطورّات العِلميّة، كي نتمكَّن من جَذب الآخَرين إلينا، وإيجاد نقطة انطلاقٍ لحديثنا معهم، فنتمكَّن من إعطائهم ما يُفيد حياتهم لا كلامًا فارغًا لا جدوى منه. على الـمُحاضِر تقديم أمورٍ جديدةٍ في الموضوع المعروض للنِّقاش، إذ إنّ تلك الأمور هي إحدى وسائل جَذب الآخَرين لحديثنا.

إنّ المعلومات الكثيرة الّتي نملِكها حول موضوع حديثنا مع الآخَرين، لن تتمكَّن من الوصول إليهم، إنْ لم تكن موضوعة ضمن إطارٍ مناسب يلامس قلوب الحاضِرين، وهنا ضرورة الانتباه إلى طريقة الإلقاء كي لا تكون مملَّةً ولا تكون سريعةً فلا يتمكَّن الآخَرون من استيعاب الأفكار المطروحة. إنّ طريقة الإلقاء هي إحدى وسائل الجَذب المهمَّة للآخَرين، إذ تُعطي الموضوع حيويّة وتترك أثرًا في نفوس الحاضِرين. في إحدى المرّات، طُلِب منّي إعطاء موضوع في تَجمُّع "يسوع فرحي"، وعندما وَصلت شعرت بالارتباك إذ إنَّ الجماعة الحاضرة تنتمي إلى ثقافاتٍ متعدِّدة: إذ تتضمّن تلامِذة مدارس لا يجيدون التأمُّل في الكتاب المقدَّس، كما تتضمَّن طُلّاب جامعات وأصحاب اختصاصات متعمِّقين في كلمة الله. شعرت بالارتباك إذ إنّني لم أُدرِك نقطة الانطلاق في حديثي: إذا توجّهتُ إلى طّلاب الجامعات، فَلَن يتمكَّن تلامِذة المدارس من الاستفادة من موضوعي، وإذا توجَّهت إلى تلامِذة المدارس، فَسَيَشعر الباقون بالـمَلل. في هذه الحالة، اخترتُ التوجُّه إلى تلامِذة المدارس، كي يتمكَّنوا نتيجة سماعهم لحديثي من النموّ روحيًّا، فيتوصّلوا رويدًا رويدًا إلى التعمُّق روحيًّا على مِثال طلّاب الجامعات وأصحاب الاختصاص. أمام جماعةٍ متعدِّدة الثقافات، نجد صعوبة في التَّعامل مع كلّ المستويات في الوقت نفسه، لذا مِن الأفضل أن نختار شريحةً معيّنة من هذه الجماعة، ونوجِّه حديثنا إليها، فبهذه الطريقة نكون قد نجحنا في إيصال هَدَف حديثنا إلى شريحةٍ واحدة من الجمهور الحاضر، وهذا هو الـمطلوب. على حديثنا دائمًا أن يُقدِّم أمراً جديدًا للسَّامعين، فمثلاً إذا سألتنا الشبيبة الّتي نتوجَّه إليها: ما الّذي يميِّز شبيبة "أذكرني في ملكوتك"، من سائر الحركات الشبابيّة في الكنيسة؟ علينا أن نملك جوابًا يُبرز ميزتنا من بقيّة الحركات، وإلّا فما فائدة حديثنا مع الشبيبة والانطلاق صوبهم، إن كنّا على مِثال كلّ الحركات الموجودة في الكنيسة؟ على روحانيّة جماعة "أذكرني في ملكوتك"، أهدافها ومبادئها، أن تكون واضحة لنا جميعًا، فنُعطِيَ جميعنا جوابًا واحداً لكلّ شابٍّ أو شابَّة سنلتقي به أو بها، ولكن كلّ واحدٍ منّا بطريقته الفريدة، إذ إنَّ جوابنا هو ثمرةُ تعمُّقِنا في عيش رسالة هذه الجماعة.

لقد نجح الربّ يسوع في التَّعامل مع كلّ البشر كلٌّ حسب مستواه الفِكريّ، وهو بالتّالي يشكِّل مِثالاً لنا في التعاطي مع الاخَرين ونَقل البشارة إليهم. لقد نجح يسوع في الدُّنو من البشر إذ ترك سماءه وجاء ليتجسَّد في أرضِنا. إنَّ وضعيّة الجلوس في أثناء إعطائنا المحاضرة مُهمّةٌ جدًّا، وقد تؤثِّر على المحاضِر بشكلٍ خاصّ، فإنْ لم يكن المحاضِر مرتاحًا في إعطائه الموضوع، فهو لن يتمكّن من إيصال الرِّسالة المطلوبة منه. فمثلاً، حين يُطلَب من المحاضِر الجلوس على مِنَصّةٍ، في حين أن جمهوره بعيدٌ عنه، فإنّ المحاضِر لن يتمكَّن من جَذب السَامِعين له وإيصال رسالته إليهم إلّا إذا نجح في شدِّ أنظارِهم إليه من خلال تحديقه بهم، أو من خلال طريقة إلقائه المحاضرة، أو بنبرة صوته وتفاعله الجسديّ مع الموضوع الّذي يُعطيه. لحركات الجَسَد في أثناء إلقاء المحاضرة تأثير كبير في جَذب السَّامِعين: إذ لا يستطيع المحاضِر مِن جَذب الآخرين إليه إنْ كان جامدًا دُونَ حَركة. لكلِّ كلمةٍ تعبيرها: فأنا لا يُمكنني أن أُخبر الآخَرين عن خبرتي المؤلِمة وأنا أشهق بالبكاء، لأنّهم لن يتمكَّنوا من فَهم خبرتي، لذا عليّ أن أتحلّى بضبط النَّفس فأنقل إليهم خبرتي بكلماتٍ واضحة وبصوتٍ واضح. على حركات الجسد أن تكون منسجمة مع مشاعر المحاضِر، فبعض حركات الجسد قد تكون أبلغ من الكلمات. إنَّ أولى الحركات الجسديّة الّتي تَجذِب السَّامِعين لنا حين نُلقي محاضرةً على مسامِعهم، هي النَّظرات، وعلى تلك النَّظرات أن تعكس ثِقة المحاضِر في المعلومات الّتي يرغب في نَقلِها إليهم. فإن لم يتمكَّن من النَّظر بثقة إلى الآخَرين، فهذا يدلّ على خَجل الـمُحاضِر. على الـمُحاضِر أن يُعلِّم الآخَرين بِمَثَله، إذ لا يُمكنه أن يُخبر الآخَرين عن مضّار التَّدخين على صحّة الإنسان، وينصح الآخَرين بعدم اللّجوء إلى التَّدخين إن كان هو مِن الـمُدَّخنِين.

إنّ الإنسان ينجح في إيصال رِسالته إلى الآخَرين إن كان لديه شَغفٌ في ما يقوم به، فيُبدِع في إيجاد الوسائل واختراعها من أجل إيصال هَدَفه إليهم. لا تكمن المشكلة في إيصال الرسالة إلى الآخَرين في وجود الوسائل المتاحة لذلك أم لا، إنّما المشكلة في القلوب. وهنا تقول لنا الأم تريزيا دو كالكوتا بما معناه: إن الله لا يطلب أعمالاً عظيمةً، بل يطلب حبّاً كبيرًا قادِرًا على القيام بأعمال عظيمة. إنَّ شَغَفنا في رسالة الجماعة هو ما يدفعها للاستمرار والنموّ.

ملاحظة: دوِّن الحديث مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف. تتمة...
28/11/2018 لقاء مع شبيبة رعيّة مار جرجس - الديشونية أنَّ الموت هو مرحلةُ رقادٍ
https://youtu.be/58wyoe3hHJU

"نحن أبناء السَّماء"
للأب ميشال عبود الكرملي
في لقاء شبيبة "أذكرني في ملكوتك"
مع شبيبة كنيسة مار جرجس - الديشونية

28/11/2018

المجد لله، دائمًا لله.
ها قد أتيناكم اليوم مع شبيبة جماعة "أذكرني في ملكوتك"، لنَنقُلَ إليكم روحانيّة هذه الجماعة الـمَبنِيّة على السّماء. في الإنجيل،كلّمنا الربُّ يسوع بأمثلةٍ كثيرةٍ عن ملكوت السّماوات، قائلاً: "يشبه ملكوت السّماوات". إذًا، يقدِّم لنا الإنجيلُ خريطةً تقودنا إلى السّماء. حين نتكلَّم عن السّماء، لا بدَّ لنا أن نتكلَّم عن الموت. إنّ الموت هو أمرٌ مزعجٌ للإنسان، إذ يَفصلُه جسديًّا عن أحبّاء له في هذه الحياة. كان الموت أيضًا أمرًا مزعجًا بالنسبة للربِّ يسوع، بدليلِ أنّه صلّى في بستان الزّيتون، في ليلة آلامه، إلى الله أبيه، طالبًا منه أن يُبعِد عنه هذه الكأس، كأس الموت. في "الدَّفتر الأصفر" الّذي تمّ فيه تدوين الكلمات الأخيرة للقدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع، تُعبِّر القدِّيسة في مرحلة نزاعها، أي في الفترة الفاصلة ما بين الموت في هذه الأرض والحياة الثانية مع الربّ، عن اختبارها الرّوحيّ وإيمانها بالربِّ يسوع بالقَول:"أنا لا أموت بل أدخل الحياة". إنَّ نظرة المؤمِنِين إلى الموت قد تبدَّلت، إذ لم يَعُدِ الموتُ أمرًا مزعجًا، بل هو مجرَّد مرحلةِ عبورٍ ضروريّة من هذه الحياة إلى لحياة الثانية. قد يقول البعض إنّنا لا نعرِف ماذا ينتظِرنا في الحياة الأخرى، إذ لم يَعُد أحدٌ من الموتى ويُخبرنا بما عاين هناك. إنَّ الربَّ يسوع قد نزل مِن السَّماء إلى أرضنا ليُخبرنا بكلّ ما سَمِعه من الله الآب، وبالمجد الّذي عاينه في الملكوت السماويّ. إنَّ الربّ يسوع، قد مات على الصَّليب وقام من بين الأموات، ثمّ ظهر لتلاميذه ليؤكِّد لهم أنّه غلب الموت بالحياة، وأنَّ تلك الحياة ستُوهَب لكلّ مَن يؤمِن به. في كتابٍ عنوانه: "سرّ موت ميتران"، دُوِّن اختبار الرئيس الفرنسيّ الأسبق، فرنسوا ميتران، قُبَيل استعداده للموت.كان فرنسوا ميتران رجلاً كاثوليكيًّا، ولكنَّه ألحَد فيما بعد، وحارب الكنيسة. قبل ثمانية أشهر من موته، أخبره الأطبّاء بأنّه لم يعد هناك من علاجٍ طبيّ لحالته الصحيّة وأنّ عليه الاستعداد للموت. فذهب الرئيس الفرنسيّ لزيارة أحد الفلاسفة الفرنسيّين، واسمه جان غيتون، طالبًا منه جوابًا على سؤالٍ يُحيِّره: ماذا يوجد بعد الموت؟ فأعطى الفيلسوفُ الرئيسَ إنجيلاً، طالبًا منه قراءته، إذ لا أحد يستطيع إخباره بحقيقة ما بعد الموت إلّا يسوع المسيح، الّذي مات وعاد إلى الحياة، فانكبّ الرئيسُ على قراءة الإنجيل والتأمُّل به. وقَبْل شهرَين مِن وفاته، جاء الرئيسُ لزيارة الفيلسوف مرَّةً أخرى، طارحًا عليه سؤالًا آخرَ، هو: "لماذا جهنّم؟"، أجابه الفيلسوف: "لأنّ الله محبّة"، فتَعجّب الرئيسُ من هذا الجواب. عندئذٍ شرحَ الفيلسوفُ للرئيسِ الأمرَ، قائلاً: إنَّ المحبّة تفترض الحريّة؛ والله يحبّ الإنسان، لذا ترك له الحريّة في الاختيار ما بين العيش معه أو العيش بعيدًا عنه. فإذا قرّر الإنسانُ العيشَ بعيدًا عن الله، فإنَّ الله يحترم هذا القرار، ويسمح للإنسان بالعيش كما يريد، فيختبر الإنسانُ جهنمّ الّتي هي ثمرةُ اختيارِه الحُرِّ؛ أمّا إنْ قرّر الإنسان العيش بمعيّة الربّ، فيختبر الإنسان طعم السَّماء الّتي هي نتيجة اختياره الحُرّ أيضًا. لقد دوَّن الفيلسوف هذا الحوار الّذي جَمَعَه بالرئيس الفرنسيّ في الفصل الأخير من كتابٍ عنوانه: "وصيّتي الفلسفيّة الأخيرة". إنّ حياتنا على هذه الأرض هي تلك الأُمسيَة الّتي نمضيها مع الربّ. ويقول لنا الإنجيل إنَّ الربَّ يقف على أبواب قلوبنا يقرعها، فمتى سمِعنا صوته، علينا أن نفتح له الباب ليتمكّن الربُّ من الدُّخول إلى حياتنا ومشاركتنا العشاء، فالربُّ لا يدخل إلى حياتنا بالقوّة. إنّ اللِّص، أي الموت، يأتي في أثناء وجودنا مع الربِّ على العشاء: فإنْ جاء اللِّص في ساعات اللِّيل الأولى، أي عند بداية العشاء، نتكلَّم حينها عن موت الأطفال؛ وإنْ جاء اللِّص في منتصف اللَّيل، يكون موت الشباب؛ وأمّا إنْ جاء اللِّصُ عند نهاية العشاء،كان موت الشيوخ. لذا، يدعونا الإنجيل إلى الاستعداد للموت، لأنّ الموت يأتي كالسَّارق، إذ لا نعلم لا الوقت ولا السَّاعة الّتي يأتي فيها الموت إلينا.

إنّ مجتمعنا اليوم يعاني من أزمة حقيقيّة على صعيد الصّلاة، أي على مستوى علاقة الإنسان بالله والثِّقة بكلام الله. وهذا ما يبرِّر وجودَ شَكٍّ عند غالبيّة المؤمِنين، حين نسألهم عن مصيرهم بعد الموت، فَهُم غير متأكِّدون من أنّ السَّماء ستكون مِن نصيبِهم. لذلك يشعر المؤمِنون بالارتياب حين يتكلَّمون عن الموت، إذ إنّهم للأسف، غير واثقين بكلام الربِّ، الّذي وَعدهم بالحياة الأبديّة. وهنا، نطرح السؤال: إن كان الإنسان غير متأكِدٍّ من أنّه سينال السَّماء، بعد موته الجسديّ، ما نفع إيمانه بالربّ، وصلاته وتقشُّفاته وصومه؟ فإن لم يكن الإنسان متأكِّدًا من مصيره بعد الموت، فالحريّ به أن يستمتع بملذّات هذه الدُّنيا، لا محاربة شهواته الأرضيّة، إذ من غير المنطقيّ القبول بعذابات هذه الحياة، لينال العذاب الأبديّ أيضًا بعد الموت. إنَّ بولس الرَّسول يشجِّعنا على احتمال مشقّات هذا الدَّهر وآلامه، لأنّ الفرح والمجد اللّذين سننالهما في الملكوت يفوقان ما تَحمَّلناه من صعوبات في هذه الحياة. إنّ السّماء متعلِّقة بالله لا بالإنسان، فالإنسان لا يستحقّ السّماء إذ إنَّه مجبولٌ بالخطايا؛ ولكنَّ الله برحمته للبشر أعطى النِّعمة لكلِّ إنسانٍ يريد العيش مع الربّ، أن ينال السَّماء. لذلك، نستطيع القول إنّنا شركاء المسيح في الملكوت السّماوي. بعد عودتهم من الرسالة التبشيريّة الّتي أرسلهم إليها الربّ، كان التّلاميذ فَرِحين فأخبروا المسيح بالأعاجيب الّتي قاموا بها باسمه. فقال لهم الربّ ألا يجعلوا فرَحهم الحقيقيّ مرتبطًا بالأعاجيب، بل بأسمائهم المكتوبة في السَّماء.

إذًا، إنّ الإنجيل يخبرنا عن السَّماء، الّتي يمنحها الله للإنسان الّذي يُبدي رغبة في الحصول عليها، من خلال ممارسته لتعاليم الربِّ في حياته. إنّ الربَّ يسوع يؤكِّد لنا وجود الحياة الثانية بقوله: "مَن آمَن بي وإن مات فسيحيا"(يو 11: 25).
إنّ إيماننا بكلام الربِّ هذا، يدفعنا إلى مواجهة الموت برجاءٍ لا بِيَأسٍ وخوفٍ. عندما نفقد إنسانًا عزيزًا، نحن لا نبكي على الشَّخص بحدِّ ذاته، إنّما نبكي على ذواتنا، إذ إنّنا نتوَّجع مِنَ الفُراق الّذي سبَّبه لنا انتقال هذا الإنسان العزيز على قلوبنا، إلى السَّماء. إنَّ فراق الأحبّة يسبِّب لنا وجعًا إذ لا يعود باستطاعتنا رؤيتهم ولَمْسهم وسماع صوتهم، لذا نسعى إلى العودة في ذاكرتِنا، إلى كلماتهم الأخيرة ونصائحهم لنا، وأعمالهم الحسنة معنا، حين كانوا لا يزالون في هذه الحياة. إنَّ سِفر الرؤيا يخبرنا عن الحياة الثانية قائلاً لنا إنّه في تلك الحياة لا وجود للدُموع ولا للأوجاع، لأنّ الربَّ سيمسح الدُّموع عن وجوه أحبّائه؛ ويضيف هذا السِّفر قائلاً إنّنا جميعًا سنكون من شعب الله، وهو أي الله، سيكون إلهَنا، ويضيف أيضًا قائلاً إنّه في الحياة الأبديّة، هناك أرضٌ جديدة وسماء جديدة، لا وجود فيها للموت، بل للحياة فقط.
إنّ الإنسان يُدرِك أنّ هذه الحياة قد أُعطِيَت له مرَّة واحدةً، لذا يسعى إلى عيشها بملئِها، فيسعى إلى تأسيس عائلةٍ له، وإقامة علاقاتٍ طيِّبةٍ مع الآخَرين، ولكنَّ حياته لن تخلو من الحزن الّذي يَنتُج عن فراق الأحبّة. هذا ما يختبره الإنسان في حياته على الأرض. عند موت طفلٍ أو شابٍ، أو عند حدوث موتٍ فجائي نتيجة أمراض أو حوادث، يطرح الإنسان السؤال: ما فائدة وجود الإنسان في هذه الحياة، إن كان لا بدَّ له من أن يغادِرها بالموت الجسديّ بعد مرورِ فترةٍ زمنيّة معيّنة؟ يعتقد الأقدَمون أنّ الموت هو إرادة الله للبشر، وما على الإنسان إلّا القبول بها والاستسلام لمشيئته القدُّوسة. غير أنّ هذا الاعتقاد خاطئٌ تمامًا لأنّ الله يمنح الإنسان الحياة لا الموت، لأنّ إلَهَنا هو إله أحياء لا إله أموات، بدليلِ أنّ الله أرسل ابنه يسوع المسيح إلى العالم ليمنح البشر الحياة الأبديّة ويخلِّصهم من الموت، وانطلاقًا من تلك الحقيقة الإيمانيّة، نرفض نحن المؤمِنين إلقاء مسؤوليّة موت الإنسان على الله. إنَّ العِلم أَثبَتَ أنّ الله غير مسؤولٍ عن موت الإنسان، بل الطبيعة هي المسؤولة عن ذلك. إنَّ تفاعُل عناصرِ الطبيعة مع بعضها البعض، يؤدِّي إلى حدوث كوارث طبيعيّة وأمراضٍ، ممّا يؤثِّر سلبًا على بعض البشر فيموتون. وهنا نطرح السؤال: كيف يستطيع الإنسان أن يؤمِن بالنظريّات العِلميّة المدوَّنة في الكتُب العِلميّة، والّتي تعطي بعض الشروحات عن عوامل طبيعيّة يتعرَّض لها الإنسان، ولا يؤمِن بشروحات عن الحياة الأبديّة، الّتي يعطيها له الربُّ يسوع في الكتاب المقدَّس؟ هناك عدَّة وسائل تساعدنا للوصل إلى الملكوت السماويّ، أهمّها الكتاب المقدَّس، ثمّ اختبارات القدِّيسِين، فالقدِّيسون وصلوا إلى القداسة نتيجة عيشِهم كلام الإنجيل في حياهم اليوميّة.

إنَّ الإنجيل يدعونا إلى العيش وَفق تعاليم الربّ، من خلال التمرُّس في ثلاث فضائل إلهيّة، هي: الإيمان والرَّجاء والمحبّة، لنتمكَّن من الوصول إلى القداسة، إلى الملكوت. إنَّ الإيمان هو عطيّة مجانيّة من الله للإنسان، تقوم على وثوق هذا الأخير بكلام الله من دون علاماتٍ حسيّة ملموسة. إنَّ اعتراف بطرس بحقيقة المسيح بقولِه:"أنت المسيح ابن الله الحيّ" (متى 16: 16)، هو ثمرةُ نِعمةٍ إلهيّة وَهبَه إيّاها الله الآب، لا ثمرةُ تعليم بشريّ ناله مِن معلِّمي الشريعة. أمّا الرَّجاء فهي فضيلة إلهيّة، ترتبط بالسَّماويّات لا بالأرضيّات، ممّا يدفعنا إلى التمييز بين الأمل والرَّجاء. إنّ الأمل هو حين يتمنّى الإنسان أمورًا أرضيّة، قد تتحقَّق كما أنّها قد لا تتحقَّق؛ فمثلاً قد يأمل الإنسان أن يتوقَّف المطر، ولكنَّ المطر قد يتوقَّف أو قد يستمرّ في هذا اليوم المحدَّد. أمّا الرَّجاء، فهو أمرٌ إيمانيّ مؤكَّدٌ، لكنَّ الإنسان لا يستطيع لَمسَه في هذه الحياة إنّما في الحياة الثانية؛ فمثلاً، نحن نرجو الحياة الأبديّة، لذا إن كانت حياتنا في هذه الأرض، مطابقة لتعاليم الربَّ، فمِنَ المؤكَّد أنَّ السَّماء ستكون من نصيبِنا، لأنّنا نؤمِن أنّ الربَّ أمينٌ في وعوده للبشر، وهو قد قال لنا: "مَن آمن بي، له الحياة الأبديّة" (يو 6: 47). إذًا، نحن من أبناء السّماء لا من أبناء الأرض، أي أنّنا لن نكون مجرَّد حفنةٍ من التُّراب في القبور يوم انتقالنا من هذا العالم، بل سنكون من سكّان السّماء، لأنّه موطن أبناء الله. لذا، علينا أن نقوم بكلِّ عملٍ في حياتنا كأنّه عَمَلُنا الأخير فيها، إذ لن تُفيدنا في الحياة الأبديّة إلّا أعمال المحبّة الّتي قمنا بها تجاه الآخَرين؛ كما علينا أن نقوم بكلِّ عملٍ في حياتنا كأنّنا سنعيش أبدًا، فنعيش في حالةِ اندهاش لاكتشافنا عظائم الله في حياتنا، وفي حالةِ اندفاع نحو الأمام في مسيرة حياتنا الأرضيّة.

إنّ الإنجيل هو خريطة الطريق للوصول إلى الملكوت، غير أنّه لا يُحدِّد لنا لائحةً بالممارسات التقويّة الّتي يجب الالتزام بها للوصول إلى السَّماء، فالإنجيل يطلب منّا فقط أن نحبّ بعضنا بعضًا كما الله أحبّنا، وبالتّالي أعمالنا هي انعكاسٌ لمحبّتنا لله. إنّ الأديان هي صناعة بشريّة لا إلهيّة، إذ إنّ جميع الأديان السماويّة متناقضة في الجوهر أي في إيمانها بالله، ولكنَّها متوافقة في السلوكيّات، فجميع الأديان تشجِّع على المعاملة الحسنة مع الآخَرين. ليست المسيحيّة دِينًا بل إنَّها حياةٌ، مبنيّة على علاقةٍ شخصيّة بين الإنسان والربّ يسوع المسيح. إنَّ المؤمِن هو الإنسان الّذي سَمِع صوت الله، فأعلن استعداده لسماع كلمة الله وتنفيذها في حياته. إنّ الله يكلِّم البشر بكلمته المقدَّسة في الإنجيل، ولذا على المسيحيّ قراءة الإنجيل والتأمّل بكلمة الله، لمعرفة مشيئة الله عليه. إنّ الإنسان الّذي يتعرَّف حقًّا إلى المسيح مِن خلال كلمة الإنجيل، لا يستطيع إلّا أن يحبّ المسيح لأنّه سيكتشف عظمة حبّ الله له.

أمام حادثةَ موتِ أحد الأحبّاء، يطرح المؤمِن السؤال على ذاته: أين هو الله؟ إنّ الله يسكن في داخلنا، وبالتّالي هو ليسَ بِبَعيدٍ عنّا. إنّ الله لا يتركنا في لحظات الألم والوجع، بل يحضر في وَسَطنا لمساعدتنا على تخطِّي تلك الصُّعوبة. وكذلك العذراء مريم حاضرةٌ معنا لتُساعِدنا على مواجهة سرّ الموت، كما كانت حاضرة عند أقدام الصّليب عندما مات ابنها على الصَّليب. في علاقاتنا مع الآخر، ولا سيّما في علاقتنا مع الله، علينا طَرِح سؤالَين والإجابة عنهما: مع مَن نتكلَّم؟ وأين يسكن ذاك الّذي نتكلَّم معه؟ يخبرنا سِفر التَّكوين أنّ الله رافق الإنسان في الفردوس، ولكنَّ الشيطان قد تسلّل إلى قلب الإنسان، وأوهَمَهُ أنّ الله كاذبٌ. فصدَّق الإنسان للأسف كلام الشِّرير، فخالف أوامر الله له، وأَكَلَ مِن ثمار شجرة معرفة الخير والشَّر، ممّا أدّى إلى وقوع الإنسان في الخطيئة. إنّ آدم الخاطئ لم يتمكّن من الإجابة على أسئلة الله: آدم أين أنت؟ وكذلك قايين، لم يتمكّن من الإجابة عن سؤال الربِّ: أين أخوكَ؟ بعد وقوع البشريّة في الخطيئة، أرسل لها الله أنبياء ورسلاً لتبشيرها بكلمته، وحثِّها على التّوبة. ولـمّا باءت كلّ جهود هؤلاء الـمُرسلين بالفشل، أرسل الله ابنه في ملء الزّمن، ليخلِّص البشريّة من ضلالها، وليَمنحها الحياة الأبديّة. عندما أتى نيقوديموس ليلاً إلى يسوع لسؤاله عن كيفيّة الحصول على الملكوت السماويّ، أجابه الربّ، إنّ لا أحد يستطيع الدّخول إلى السّماء، إلّا ذلك الّذي سَبَق ونزل منها، وهو ابن الإنسان. بموته وقيامته، نزل المسيح إلى مثوى الأموات، ليُخلِّص النُّفوس الّـتي كانت تنتظره، ويمنَحها الحياة الأبديّة، ولهذا السّبب، نحن نؤمِن بوجود مثوىً للأموات.

إذًا، الموت هو وسيلةٌ لعبور الإنسان من هذا العالم إلى العالم الثاني. إنّ العقل البشريّ لا يستطيع أن يُدرِك حقيقة سرّ الموت، ولكنّ الله قد منَح الإنسان من خلال الإيمان، نِعمة فَهمِ هذا السرّ، فأدرك هذا الأخير أنّ رُوحه مدعوّة للخلود لا للموت.
لكلِّ جماعةٍ في الكنيسة رسالةٌ منبثقةٌ من حياة يسوع المسيح الأرضيّة. لذلك، تقوم بعض الجماعات مثلاً بالاهتمام بالفقراء، تشبُّهًا بالمسيح الّذي أطعم الفقراء، في حين أنَّ جماعاتٍ أخرى تُكرِّس حياتها للصّلاة تشبُّهًا بيسوع المسيح الّذي كان يصلّي في القَفر وحيدًا إلى الله الآب قبل قيامه بأيِّ عملٍ رسوليّ وخلاصيّ. كذلك جماعة "أذكرني في ملكوتك"، قد كرَّست ذاتها للتعمّق في المفهوم المسيحيّ للموت والقيامة، انطلاقًا من إيمانها بالربّ يسوع القائم من الموت. لقد اختبرت جماعة "أذكرني في ملكوتك"، من خلال مسيرتها الإيمانيّة مع الربّ أنّها مدعوّة للعيش في السّماء مع الربّ، لا إلى الموت في هذه الأرض. لقد أدركت هذه الجماعة أنَّ كنيسة الأرض، المؤلَّفة من المؤمِنِين الأحياء في هذه الأرض، مدعوّة إلى الاتِّحاد بكنيسة السّماء المؤلَّفة من المؤمِنِين الّذين انتقلوا إلى جوار الله، من خلال الصّلاة. على طريق دِمشق، ظهر الربُّ يسوع لِبُولس الّذي كان يضطهد المسيحيّين، قائلاً له: "شاوول، شاوول، لماذا تضطهدني؟" عند سماعه هذا الصّوت، سأل بولس صاحب الصّوت عن هويّته، فأتاه الجواب:"أنا يسوع النّاصريّ الّذي أنت تضطهده". لم يلتقِ بولس الرّسول يومًا بالمسيح في حياته الأرضيّة، أي أنّه لم يتعرَّض للربّ يسوع بأيّ نوعٍ من الاضطهاد، فبولس الرّسول قد اضطهد المسيحيّين لا المسيح. وبالتّالي حين عرّف الربّ عن نفسه لبولس، على طريق دِمشق، بالقول:"أنا يسوع الّذي أنت تضطهده"، ماهى يسوع نفسَه بالمؤمِنِين الّذين يتعرَّضون للعذاب نتيجة قبولهم المسيح إلهًا في حياتهم. بعد ظهور الربّ لبولس على طريق دِمشق، أدرَك بولس الرَّسول، أنَّ مَن يضطهد الكنيسة، أي جماعة المؤمِنِين، إنّما يضطهد الربَّ نفسه. لذا، في رسائله الّتي وجَّهها للمؤمِنِين، بعد ارتداده إلى المسيحيّة، أطلق بولس على الكنيسة عبارة:"جسد المسيح السريّ".

تتألّف الكنيسة من الكنيسة المجاهدة في هذه الأرض، ومن الكنيسة الممجَّدة في السّماء، وترتبط الواحدة بالأخرى من خلال الصّلاة. إنَّ كنيسة الأرض، محدودة في الزّمان والمكان، أمّا كنيسة السّماء فلا يستطيع الزّمان أو المكان أن يحدَّاها لأنّها في حضرة الله اللّامحدود، والمالئ الكلّ. يقول لنا مار بولس في إحدى رسائله، إنّنا نعرف الربَّ على هذه الأرض، معرفةً ناقصةً، ولكن حين نلتقي به وجهًا لوجهٍ في السّماء، فعندئذٍ سنعرِفه معرفةً كاملة، إذ سنُعاين وجهه القدُّوس. في مفهوم الكنيسة، السَّماء هي العيش بصحبة العذراء مريم والقدِّيسِين، أمام وجه الربّ. لذا، كي يصِل المؤمِن إلى الملكوت، عليه أن يعيش حياته على هذه الأرض، وَفق تعاليم الربِّ يسوع في الإنجيل، متَّخِذًا من القدِّيسِين مثالاً له في القداسة. إنّ مسيرة الإنسان على هذه الأرض، صوب الملكوت، لن تخلو مِنَ العَثرات، ولكن على المؤمِن عدم الاستسلام لها بل مواجهتها، فيتابع مسيرته بنجاح صوب الملكوت، حيث ينتظرنا الربّ لمشاركته في المائدة السماويّة.

في الختام، جوابًا عن السؤال الّذي طُرِح في بداية اللِّقاء: ماذا بعد الموت؟ بعد الموت، ينتقل المؤمِن من هذا العالم، إمّا إلى السَّماء وإمّا إلى جهنَّم؛ أمّا "المطهر" فهو حالة تمهيديّة للسّماء، فيها يتطهّر المنتقلُ مِن بيننا من جميع خطاياه الأرضيّة ليُصبح أهلاً لمعاينة وَجه الله القدُّوس في السَّماء. هناك انقسام في الكنائس حول مسألة "المطهر"، فالكنيسة الكاثوليكية تعترِف بوجود "المطهر"، أمّا الكنيسة الأرثوذكسيّة فلا تعترف بوجوده. لقد استندت الكنيسة الكاثوليكية في إيمانها بــــ"المطهر" على كلام يسوع حول تجديف على الرُّوح القدس، إذ يقول إنَّ مَن يُجدِّف على ابن الإنسان، يُغفر له، أمّا مَن يُجدِّف على الرُّوح القدس، فلا يُغفر له لا في هذا الدَّهر ولا في الدَّهر الآتي. لقد أدرَكت الكنيسة الكاثوليكيّة من خلال كلام يسوع هذا، وجود غفرانٍ للخطايا في الدَّهر الآتي، أي في الملكوت، فأطلقت على تلك الحالة الّتي يعيشها المنتقل من هذه الأرض، متطهِّرًا من خطاياه، اسم "المطهر". ولكنْ في الآونة الأخيرة، تَعرَّض مفهوم "المطهر" عند المؤمِنِين إلى سوء فَهمٍ، إذ قاموا بتحديد عدد السَّنوات الّتي تحتاجها بعض النفوس المطهريّة للوصول إلى السّماء، غير أنَّ الحقيقة هي أنّ تلك النُّفوس أصبحت عند الربّ، أي خارج الزّمن، لذا لا يمكن تحديد فترة مَطهرها استنادًا إلى عددٍ معيَّنٍ مِن السِّنين. إنَّ الربُّ هو خارج الزَّمن، لا وجود للماضي أو للمستقبل عنده، بدليل أنَّ جميع وعود الربّ في الكتاب المقدَّس هي في الحاضر. فعلى سبيل الـمِثال، قال الربُّ يسوع للصّ اليمين:"اليوم تكون معي في الفردوس". إنّ جهنَّم هي حالةٌ يعيشها المنتقلون من هذا العالم، الّذين اختاروا بإرادتهم، العيش بعيدًا عن الله. وقد تكلَّم عنها القدِّيس متّى في إنجيله (متّى 25)، في مَثل الدينونة، الّذي أعطاه يسوع قائلاً:"ابتعدوا عنّي أيّها الملاعين، إلى النّار المعدَّة لإبليس وجنوده". إنّ إبليس وَقفَ ضدّ الله في مشروعه الخلاصيّ، وبالتّالي كلُّ إنسانٍ يقف مع إبليس ضدّ الله، يُصبح من جنود إبليس. إذًا، إنَّ جهنَّم مُعَدَّةٌ لكلِّ مَن يرفض الله رفضًا قاطعًا في حياته على الرُّغم من كلِّ العلامات الملموسة الّتي يُظهرها الله له، للدلالة على أنّه إلهٌ حيّ؛ بعبارةٍ أخرى، جهنّم هي لكلِّ إنسانٍ يُجدِّف على الرُّوح القدس. لقد جدَّف اليهود، حين اعتبروا أنَّ يسوع المسيح يطرد الشياطين ببَعل زبول، رئيس الشياطين، على الرُّغم من توضيح الربِّ لهم المسألة قائلاً لهم إنّه يطرد الشياطين بقوّة الله. إنّ جهنَّم إذًا، هي حالة البُعد عن الله، أمّا السَّماء فهي العيش بمعيّة الله، وأمّا النُّفوس الّتي انتقلت إلى الحياة الثانية وهي في حالة الخطيئة، فتنتقل إلى المطهر لتتخلَّص من خطاياها، فتتمكّن من معاينة وجه الله.

تصلِّي جماعة "أذكرني في ملكوتك"، من أجل راحة نفوس المنتقلين من بيننا. وتستند الجماعة في صلاتها لأجل تلك النُّفوس على إقامة الربّ لصديقه لعازر، إذ يقول الربُّ لتلاميذه إنّه ذاهبٌ ليوقِظ صديقه لعازره من النَّوم. ومن هنا، تعترف جماعة "أذكرني في ملكوتك"، أنَّ الموت هو مرحلةُ رقادٍ يعيشها المؤمِن ينتقل فيها من هذا العالم إلى العالم الآخر، فالمؤمِن يُغمِض عينيه عن مُغريات هذا العالم، ليفتحَهما في الحياة الثانية، على نور وجه الله. لقد انتشرت قصةٌ عن ابراهيم الخليل، الّذي كان يرفض الموت، باعتبار أنّ الله لا يرضى بموت أحبّائه، ولكنّ الله أوضح له من خلال ملاكٍ أنّ الموت هو مرحلةُ انتقال من هذا العالم، للقاء الحبيب، وعندما أدرَك ابراهيم، خليلُ الله هذا الأمر، قَبِلَ الموت، لأنّه لقاءٌ مع الحبيب وجهًا لوجهٍ. كذلك القدِّيسة تريزيا الطِّفل يسوع تُدرِك تمامًا أنّها يوم تنتقل من هذا العالم، ستشاهد المحبوب، لذا قالت:"أنا لا أموت أبدًا بل أدخل الحياة"، وبالتّالي لم تتكلَّم في مرحلةِ احتضارها عن "المطهر" ومدَّته، بل تكلَّمت فقط عن السَّماء.

في احتفالنا بالذبيحة الإلهيّة، تُقدَّم القرابين ذاكِرين المنتقلين من بيننا، للدَّلالة على أنّنا في اتِّحادٍ مع موتانا. لذا، نذكرهم في صلاتنا، طالبين من الربّ أن يفيض مراحمه عليهم، فيتمكّنوا من مشاهدة وجه القدُّوس. إنّ أمواتنا، قد انتقلوا من هذه الأرض، ليُشاهِدوا وجه الربِّ القدُّوس، أمّا نحن فلا نزال مجاهِدين في مسيرتنا الأرضيّة لنتمكّن من الوصول يَوم انتقالنا من هذا العالم، إلى السَّماء، فننال الفرح الحقيقيّ الّذي لا يزول، ويتحقّق رجاؤنا بالقيامة من بين الأموات. إنّ الإنجيل هو "البشرى السّارة" للمسكونة كلِّها، لذا حين نسعى إلى عيش كلمة الله في حياتنا، نختبر الفرح الحقيقيّ مع الربّ، الّذي لا يزول، فكلمة الله تُفرِّح قلب الإنسان. عندما يُطرَح علينا السؤال حول مصيرنا بعد الموت، فليكن جوابنا أكيدًا بأنَّ السَّماء ستكون من نَصيبِنا لا بفضل أعمالنا الصَّالحة وتقويّاتنا، بل بفضل ثِقتنا بكلام الربِّ الّذي أثبت عبر التّاريخ أنّه أمينٌ في كلِّ وعوده. في مسيرتنا على الأرض، علينا التخلّي عن كلِّ عملٍ لا يساعدنا على التقدُّم في مسيرتنا صوب الملكوت، والقيام بكلِّ ما مِن شأنه أن يساعدنا على الاقتراب أكثر من الربّ، أي علينا السَّهر على علاقتنا بالله أوّلاً في سبيل تحقيق مشيئته في حياتنا، وثمّ السَّهر على علاقتنا بإخوتنا البشر، فنتمكّن من الوصول إلى هَدِفنا، ألا وهو العيش مع الربّ، أي في السّماء.

ملاحظة: دوِّن الحديث مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف. تتمة...
22/5/2018 وقالت مريم... أن نسمع كلمة الله ونتأمّل بها ونعمل بها
"...وقالت مريم"
تأمّل للأب ميشال عبّود

22/5/2018

خلال تأمُّلنا في العذراء مريم، نطرح السؤال: متى تكلّمت مريم؟ وماذا قالت؟

استنادًا إلى الكتاب المقدَّس، تكلّمت مريم بدايةً في البشارة: إنّ النّصّ الإنجيليّ حول البشارة (لو1: 26-38)، يُخبرنا أنّه حين دخل الملاك على مريم مُلقيًا عليها التحيّة قائلاً لها:"السّلام عليك يا ممتلئة نعمةً الربّ معك"، اضطربت مريم لهذا الكلام وسألت نفسها "ما معنى هذا السلام؟". فقال لها الملاك:"لا تخافي يا مريم، فقد نِلتِ حُظوةً عند الله. فستَحمِلين وتَلِدين ابنًا فسمِّه يسوع." فقالت مريم للملاك:"كيف يكون هذا ولا أعرِفُ رَجُلاً؟". إنّ هذا السؤال الّذي طرحته مريم على الملاك يُشبه سؤال زكريّا للملاك يوم بشَّره بِحَبَل أليصابات، مِن حيث التركيبة اللّغويّة؛ ولكنّه مختلفٌ كلّ الاختلاف في المضمون: فسؤالُ مريم كان سؤالاً استفساريًّا بينما سؤالُ زكريّا للملاك: "بِمَ أعرف هذا، وأنا شيخٌ كبير، وامرأتي طاعنةٌ في السِّن؟"، كان سؤالاً يعبِّر عن شكِّه بكلام الملاك الـمُرسَل إليه مِن عند الله. لا نبغي بهذا الكلام اتِّخاذ موقف المدافع عن العذراء مريم، وإبعاد عنها كلّ احتمالٍ في شكِّها بكلام الملاك، إذ يحقّ لكلِّ مؤمِن أن يطرح التساؤلات على الله حين لا يفهم تدخّل الله في حياته.

إنّ مريم وزكريّا كانا مؤمِنَين بالربّ ولذا رغِبا في معرفة تفاصيل حول تدخّل الله المفاجئ في حياتهما، ولذا طرحا الأسئلة على الملاك. حين سألت مريم الملاك:"كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رَجُلاً؟"، أجابها الملاك قائلاً لها: "إنّ الرّوح القدس سينزل عليكِ وقدرة العليّ تُظلِّلُكِ، لذلك يكون المولود منكِ قدُّوسًا وابن العليّ يُدعى". إذًا، أمام كلَّ نعمةٍ ينالها من الله، على المؤمِن أن يطرح الأسئلة ليفهم معنى تدخّل الله المفاجئ في حياته. في بشارة العذراء مريم، اعتلن الثالوث الأقدس مجتمعًا للمرّة الأولى، ثمّ اعتلن ثانيةً يومَ عماد يسوع في نهر الأردّن: فالابن نال العماد، وسُمِع صوت الآب من السّماء، والرّوح القدس حلّ على الربّ في شكل حمامةٍ.

إنّ عالمنا اليوم، يُعاني من مرض الاكتفاء، إذ يعتقد أنّه يملك مِنَ المعلومات ما يكفي، ولا حاجة له لمعرفة المزيد، وهذا ما يبرّر عدم سعيه إلى طرح الأسئلة على ذاته وعلى الآخرين وحتّى على الله، لِفَهمٍ أوسع للأمور المحيطة به. إنّ الإنسان الّذي يبحث عن معرفةٍ أوسعٍ، لا يُوقِف بحثه حتّى يجد أجوبةً على كلّ تساؤلاته. غير أنّ المؤمِن قد يجد صعوبةً كبيرة في فَهمِ بعض الأمور بعقله البشريّ، لذا نلاحظ أنّ الله يتدخّل في حياة طالب المعرفة فيُعطيه علامةً تساعده على التعمُّق أكثر في معرفته. وهذا ما حدث مع مريم إذ أعطاها الله من خلال الملاك علامةً تساعدها على التأكُّد من صحّة ما يقوله لها، وعلى الغوص أكثر في التعمُّق في إرادة الله، وهي: حَبَلُ نسيبَتِها أليصابات الطاعنة في السِّن. في بعض الأحيان، تخالجنا بعض التَّساؤلات الإيمانيّة على سبيل المثال: هل إيماننا بالله نابعٌ من حقيقة وجوده أم هو مجرَّد أفكارٍ فلسفيّة وأخلاقيّة؟ وهل القداسة هي حقيقة قابلة للعيش والتطبيق في عالمنا، أم هي مجرّد أوهام تتوقّف عند كونها مجموعة أفكار جذّابة ورائعة غير قابلة للتطبيق؟

أمام كلّ هذه التّساؤلات أدعوكم إخوتي، إلى التأمّل في سِيَر حياة القدِّيسين، وإلى طرح السؤال على ذواتكم: هل يُعقل أن تكون كلّ اختبارات هؤلاء مبنيّة على أفكار فلسفيّة، وعلى أوهام؟ وهل يُعقَل أن يُضحيّ البعض منهم بحياتهم، من أجل وَهمٍ لم يختبروه؟ بعد أن نالت مريم من الملاك كلّ الأجوبة والتوضيحات على تساؤلاتها، قَبِلَت بالبشارة قائلة للملاك: "أنا أَمَة الربّ، فليكن لي بحسب قولك". إذًا، تعلِّمنا مريم الطواعيّة لكلمة الله، فهي لم تتكلّم إلّا لتعبِّر عن قبولها لمشيئة الله في حياتها. ليسَ من السَّهل على المؤمِن أن يقبل كلمة الله في حياته، إذ يُعاني من الصِّراع الداخليّ بين أفكاره وبين ردّات فِعله، وبين ما تتطلّبه منه كلمة الله. على المؤمِن أن يتدربَّ على سماع صوت الله، فيتمكّن من معرفته وتمييزه مِن بقيّة الأصوات الّتي يسمعها في هذا العالم، فيسعى إلى تحقيق مشيئة الله دون سواها في حياته.

"فما إنْ وَقَع صوتُ سلامِك في أُذنيّ، حتّى ارتكض الجنين ابتهاجًا في بطنيّ" (لو 1: 44)، هذا ما قالته أليصابات في مريم. إنّ زيارة مريم لنسيبَتِها أليصابات تدعونا للتّفكير في زياراتنا للآخرين: فبعض الأشخاص الّذين نلتقي بهم، هم مدعاة للتشاؤم، حتّى أنّنا نتجرّأ على وَصفِهم بـ"ورقة نعوة"، لِما يزرعونه من طاقاتٍ سلبيّة في المحيطين بهم؛ بينما آخرون يزرعون فينا التفاؤل عند رؤيتنا لهم. إنّ لقاءنا ببعض الأشخاص قد يسبِّب لنا إنزاعاجًا نتيجة نبرةَ صوتهم أو تصرّفاتهم، وهذا يدفعنا إلى تحاشي اللّقاء بهم؛ غير أنّ لقاءنا بهم يشكِّل اختبارًا لنا على مدى تَقَبُّلَنا لهم على الرّغم من اختلافهم عنّا، وبالتّالي يشكِّل لقاؤنا بهم دعوةً لنا للعمل أكثر فأكثر على ذواتنا من أجل تحسينها في هذا الإطار. غير أنّ لقاءنا بآخرين يزرع فينا سلامًا إذ تُعبِّر وجوههم المشرقة عن امتلائهم من كلمة الله. على المؤمِن أن يكون ممتلئًا من كلمة الله، وهذا يتطلّب منه الصّمت ليتمكّن مِنَ الإصغاء إلى كلمة الله والتعمُّق بها. إنّ الصعوبات الّتي تعترض حياة الإنسان بشكلٍ يوميّ تجعله في حالةٍ مِن التوتُّر، لذا يبحث عمّا يؤمِّن له الرّاحة الحقيقيّة، ولن يجدها إلّا في تأمّله في كلمة الله. إنّ الإنسان الّذي يختبر تلك الرّاحة الحقيقيّة مع الله، يتحوّل إلى مصدر لراحة الآخرين عند لقائهم به. في هذا الصدّد، يقول يوحنّا الصّليب إنّ النَّفس السائرة في طريق الربّ لا تَتعَب، ولا تُتعِب. وتشكِّل مريم العذراء خيرَ مثالٍ لنا في هذا الموضوع إذ قالت أليصابات إنّ صوتَ مريم قد أحدث سلامًا في داخلها، بدليل ارتكاض الجنين في أحشائها.

لقد تكلَّمت مريم، فعظّمت الربّ قائلة:"تُعظّم الربَّ نفسي، وتبتهج روحي بالله مخلِّصي" (لو 1: 46). لقد نَسَبت مريم حالة النِّعمة الّـتي تعيشها إلى الله لا إلى ذاتها. وهذا ما نفتقده للأسف في عالمنا، إذ يسعى كثيرون إلى نَسبِ الانجازات الّتي يُحقِّقونها إلى قوّتهم وجبروتهم الخاصّ، مُتنَاسين مجهود كلِّ مَن ساعدهم للوصول إلى الحالة الّـتي وَصلوا إليها. إنّ رغبة الإنسان في لفت أنظار الآخرين نحوه، يُعبِّر عن ضُعفه لا عن قوَّته. على الإنسان أن يُبرِز أهميّة ما قام به الآخرون في سبيل مساعدته للوصول إلى هدفه، إذ بِدُونهم لم يكن باستطاعته تحقيق أيِّ إنجازٍ يُذكَر. إنّ مريم العذراء عظّمت الله قائلة: "تُعظّم الربَّ نفسي وتبتهج روحي بالله مخلِّصي لأنّه نَظَر إلى أمته الوضيعة"، أي أنَّ مريم لم تَنسُب إلى ذاتها ما وَصَلت إليه من حالة النعمة بل أرجعته إلى الله، وهذا ما جعلها رسولةً لكلمة الله. وبالتّالي، نتعلّم من مريم أنَّ الرّسول النّاجح هو المؤمِن الّذي يَنسِب ما يُحقِّقه في رسالته التبشيريّة بكلمة الله، إلى الله لا إلى ذاته. إنّ الإنسان لا يستطيع أن يقوم بأيّ عملٍ تبشيريّ أو أيّ عملِ رحمةٍ تجاه الآخرين من دون الله، فالله هو الّذي منَحَهُ الحياة ووَهبه كلّ ما يمنُّ به على الآخرين مِن عطايا للمحتاجين. إذًا، ليس المؤمِن هو صاحب العطايا بل هو مجرَّد وسيطٍ يمرِّر الله من خلاله عطاياه للبشر؛ فالمواهب ليست مِلكَ الإنسان بل هي مِلكُ الله، وبالتّالي عليه أن يُعيدها إلى الله من خلال مشاركته للآخرين بها. وهنا نتذكّر كلام الربّ القائل للمؤمِنين به إنّهم لا يستطيعون شيئًا من دونِه.

إنّ الكتاب المقدَّس، لا يُخبرنا فقط عن أقوال مريم في حياتها الرسوليّة، بل يُخبرنا أيضًا عن صمتِها الّذي كان أبلغَ في بعض الأحيان من الكلام. فبَعد ولادتها للربّ يسوع في بيت لحم، كان باستطاعة العذراء مريم أن تتفاخر أمام زائريها المجوس والرُّعاة، بأنّها أمّ الله، أمّ المخلِّص، غير أنّها بقيَت صامتة، ويخبرنا الكتاب المقدَّس عنها:"كانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور وتتأمّلها في قلبها" (لو2: 19)، فكان لصَمتها قوّة الكلمة. في إحدى البرامج التِّلفزيونيّة الّتي كنْتُ أتولّى تقديمها، واجهتُ ضيوفًا يسعون إلى إظهار ذواتهم، لا إلى إظهار الرِّسالة الّـتي يُقدِّمونها للنّاس، والّـتي هي أساس اختياري لهم كضيوفٍ في برنامجي.

لقد كان صَمتُ مريم في بعض المواقف، أفضل تعبيرٍ عن وَجَعِ قلبها. في النّص الإنجيليّ الّذي يتكلّم عن وجود يسوع في الهيكل، نقرأ: "ثمَّ أَخَذَا يبحثان عنه، عند الأقارب والمعارف. فلمّا لم يجداه، رجِعا إلى أورشليم يبحثان عنه، فوَجداه بعد ثلاثة أيّام في الهيكل، جالسًا بين العلماء يستمع إليهم ويسألهم. وكان جميع سامِعِيه مُعجَبِين أشدَّ الإعجاب بذكائه وجواباته. فلمّا أبصراه دَهِشا. فقالت له أمّه: يا بُنيّ، لِـمَ صنَعت بنا ذلك؟ فأنا وأبوك نبحث عنك مُتَلهِفَين" (لو 2: 44-48). قد يقول البعض عند سماعهم هذا النصّ الإنجيليّ، إنّه من البديهي أن يتفاجأ العلماء بأسئلة يسوع، لأنّه هو الله. غير أنّي أستطيع أن أقول لكم، انطلاقًا من خبرتي مع الأطفال أنّ أسئلتهم قد أدهشتني فعلاً لأنّي لم أكن أتوقّعها وجعلتني أختبر ذكاءهم. إنّ عبارة "مُتَلَهِفَين"، الّتي وَرَدت في هذا النَّص، تعبِّر عن مدى قلق مريم ويوسف حين أضاعا الربّ، مدّة ثلاثة أيّام، وكان يبلغ من العمر آنذاك اثنتي عشرة سنة. لقد سألت مريم ابنها يسوع حين وَجَدته في الهيكل: "لِمَ صنعت بنا هكذا؟"، وهذا السؤال بديهيّ حين يتعرَّض الإنسان للمصائب في حياته، إذ لا بدّ له أن يطرح السؤال على ذاته وعلى الله لمعرفة سبب تعرُّضه لكلّ تلك المشاكل الّـتي تواجهه في حياته. إنّ سؤال مريم ليسوع يعبِّر عن مدى خوفها وقلقها على وحيدها. إنّ النّاس فئتان: مِنهم مَن يجد سهولةً في التَّعبير عن مشاعره إذ يلجأ إلى التَّعابير الخاصّة بالأحاسيس، ومِنهم مَن يجد صعوبةً في التعبير عن مشاعره بالكلمات. إن تعبير الإنسان عن مشاعره هو نقطة قوَّةٍ لا نقطة ضُعفٍ. حين يجتاز الإنسان صعوبةً تعرَّض لها، يُخبِر عنها الآخرين بفرحٍ، مع أنّها أبكته في الماضي. كما أنّ بعض الأمور الّـتي يُخبرها الإنسان للآخرين تُشعره الآن بالحزن مع أنّها كانت مدعاةً لفرحه في الماضي.

وفي الختام، هناك كلمة أخيرة قالتها مريم للخدم في عرس قانا، وهي: "اِفعلوا ما يأمركم لكم". وهذه الكلمة تشكِّل وصيّتها لنا، نحن أبناءها، المؤمِنِين بيسوع المسيح ابنها. إنّ محبّتنا لمريم العذراء تُتَرجَم بطاعتنا لها، فهي لا تطلب منّا سوى أن نطيع ابنها، وبالتّالي علينا الانكباب على قراءة الإنجيل لنفهَم ما هي مشيئة الله في حياتنا. طلب منّا أحد الحبساء، في أثناء زيارتي له مع فريق من الشباب، أن يكون لكلِّ فردٍ منّا إنجيله الخاصّ، ليتمكّن كلّ منّا مِن وَضع إشاراته الخاصّة حول الآيات الّتي يلمسه الربّ بها. كما أَضَفْتُ إلى تلك الوصيّة نصيحةً أخرى، فطلبتُ من تلاميذي شراء كتابٍ مقدَّس خاصٍ لكلٍّ منهم، ووَضْعِه قرب فراشهم والقراءة فيه في مساء كلّ يوم، والتأمّل بتلك الكلمة الإلهيّة كلّما سَمَح لهم الوقت بذلك. وبعد مُضِي أسبوع، أخبرني بعض تلاميذي عن الطاقة الإيجابيّة الّـتي حصلوا عليها، وعن الانتعاش الّذي شعروا به نتيجة قراءتهم المتواصلة للكتاب المقدَّس. هذه هي وصيّة العذراء لنا: أن نسمع كلمة الله، ونتأمّل بها ونعمل بموجبها في حياتنا الأرضيّة مع الآخرين.

ملاحظة: ألقي التأمّل في لقاء الشبيبة، 22 أيار 2018، ودوِّن مِن قِبَلِنا بتصرّف. تتمة...