البحث في الموقع

لقاءات و نشاطات


رياضات روحية

14/3/2021 "لأنّ الله غير مُجرَّب بالشُّرور، وهو لا يُجرِّب أحدًا" (يع 1: 13) الإنسان هو الَّذي يَخضع للتَّجربة من الشِّرير
https://youtu.be/Vax8Ltj3vwo

"لا يَقل أحد إذا جُرِّب: إنِّي أُجرَّب مِن قِبَل الله،
لأنّ الله غير مُجرَّب بالشُّرور، وهو لا يُجرِّب أحدًا" (يع 1: 13).
للأب ابراهيم سَعد


الرِّياضة السَّنوية لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
عبر تطبيق "زوم"
14/3/2021


مساء الخير للجميع،
إنّ هذا الموضوع هو موضوعٌ في غاية الحساسيّة، لأنَّ التَّجربة تحمِلُ في طيّاتها عدَّة معانٍ.

في صلاة الأبانا، الّتي علَّمها الربُّ يسوع لتلاميذه في الموعظة على الجبل، نردِّد عبارة: "لا تُدخِلْنا في التَّجربة" (متى 6: 13). إنَّ التَّجربة نوعان: الأولى هي الضِّيقات والأحزان والشِّدة والضَّغط، الّتي يتعرَّض لها الإنسان في حياته، والّـتي قد تؤدِّي إلى توتُّر علاقته بالربّ. إنّ الهدف من التَّجربة هي قطع العلاقة، قطع الصِّلة، قطع الاتِّصال بين الإنسان وربِّه. لذلك، مِن غير الممكن أن يكون الله هو الـمُجرِّب لأنّ الله قد خَلق الإنسان وسَعى إلى توفير كلّ شيء له ليَكون هذا الأخير في أفضل حالاته، ولم يتردَّد الله في إرسال ابنه الوحيد يسوع من أجل خلاص الإنسان فمات الربّ على الصَّليب، كاشفًا بِذلك عظمة حبِّه للإنسان. وبالتّالي، لا يمكن لله أن يقوم بِعَملٍ يؤدِّي بالإنسان إلى قَطع العلاقة معه. إذًا، التَّجربة لَيسَت مِن صُنع الله، وهي أَمرٌ سلبيِّ ونتيجتُه سلبيّة، ولذا ننسبها إلى الشَّيطان. واستنادًا إلى الكِتاب المقدَّس، الـمُجرِّب الحقيقيّ للإنسان هو الشَّيطان. إنّ هدف الشَّيطان هو إبعاد الإنسان عن الله، من خلال دَفعِ المؤمِن إلى الوقوف في اليوم الأخير أمام الله القاضي الدَّيان الجالس على العرش، كَمُتَّهم بسبب خيانته للعهد وتمرُّده على الله. إنَّ الله لا يُجرِّب الإنسان، فالله هو فاحصُ الكِلى والقلوب، وهو يَعلم خفايا الإنسان كُلِّها، وبالتّالي ليس بحاجةٍ إلى امتحان الإنسان، ولكن هذا لا يعني أنَّ الإنسان مُسيَّرٌ بل هو مُخيَّرٌ وهو الّذي يختار موقفه من الربّ.

إنَّ التَّجربة الناتجة عن الضِّيق والأزمات، قد اختبرها أيُّوب الصِّديق، ويُخبرنا الكِتاب المقدَّس عن تحدِّي الشَّيطان لله في شأنِ أيُّوب، إذ كان الشَّيطان يدَّعي على أُيُّوب أمام الله، فِبَحسب الشَّيطان أيُّوب يتبَع الربَّ لأنّ حياته مليئةٌ بالنِّعم، ولكنْ مَتى فقَدها سيُترُك الله. لذا، سَمَح الله للشَّيطان أن يَمتَحن أيُّوب لأنّه كان متأكِّدًا من موقفِ أيُّوب، الّذي لن يترك الله مهما اشتَّدت عليه الأزمات. إذًا، التَّجربة إمّا أن تكون مِن الشَّيطان للإنسان، وإمّا أن تكون مِن الإنسان لله، وبالتّالي ليس الله مَن يُجرِّب الإنسان. وهذا ما يؤكِّده لنا العَهد القديم، فإنَّ الشَّعب اليَهوديّ الّذي خلَّصه الربُّ من العبوديّة في أرضِ مِصر، عانى في أثناء مسيرته في الصَّحراء، من الجوع والعَطش. لذا، لَجأ الشَّعب إلى ابتزار الله مُطالبًا إيّاه بِتَأمين كُلِّ احتياجاتهم ورغباتهم وإلّا ابتَعدوا عنه وعادوا إلى فِرعون. ونحن أيضًا على مِثال هذا الشَّعب نلجأ في بعض الأحيان، في صلواتنا، إلى ابتزاز الله مطالبين إيّاه بتحقيق رغباتنا الأرضيّة وإلّا ابتَعدنا عنه. إنَّ لُجوءَ الإنسان إلى ابتزاز الله يُعبِّر عن رَغبة الإنسان في قَطع العلاقة مع الربّ. وهذه هي إحدى التَّجارب الّتي يتعرَّض لها الإنسان المؤمِن.

"لا يَقل أحد إذا جُرِّب: إنِّي أُجرَّب مِن قِبَل الله، لأنّ الله غير مُجرَّب بالشُّرور، وهو لا يُجرِّب أحدًا"(يع 1: 13): إنّ هذه الآية تُلقي الضَّوء على أمرَين أساسِيَّين هما: أوَّلاً: إنّ الله لا يُجرَّب بالشَّرور، وهذا يعني أنَّ الله لا يساوم مع الشَّر، وبالتّالي، لا يستطيع الشَّر هزيمة الربّ؛ ثانيًا: إنّ الله لا يُجرِّب أحدًا، وهذا يُشير إلى أنّ الإنسان هو الَّذي يَخضع للتَّجربة من الشِّرير، مَتى انجَدَب إلى الشَّهوات الأرضيّة. في هذه الآية، التَّجربة تُشير إلى وقوع الإنسان في الخطيئة، لا إلى تعرُّضه للضِّيقات والشَّدائد. إنَّ عبارة "خطيئة" تعني سَير الإنسان في الطَّريق الخطأ. إنَّ التَّجربة تقوم على مواجهة الإنسان تَحدّي البقاء مع الله رَغم صعوبات الحياة: فإذا قادته صعوبات الحياة إلى الابتعاد عن الله، يَكون قَد وَقع الإنسان في الخطيئة، ولكنْ إذا بَقيَ ثابتًا في الربَّ على الرَّغم من كلِّ شيء، يكون قد انتَصر على التَّجربة. لذلك يقول لنا القدِّيس يَعقوب في رسالته: "إنَّ الشَّهوة إذا حَبِلَت، تلِد خطيئة، والخطيئة إذا كَمِلَت تُنتِج موتًا. لا تَضِّلوا يا إخوتي الأحبّاء" (يع 1: 15-16). مِن خلال هذا الكلام، أراد الرَّسول أن يقول لنا إنّ التَّجربة ليستَ عَملاً إلهيًّا، فالضِّيقات الّتي تُصيب الإنسان هي مِن صُنعِ إنسان آخَر. وإليكم مِثالٌ على ذلك: إذا تعرَّض الإنسان إلى اضطهادٍ أو ظُلمٍ، فذلك يكون بسبب وجود إنسان آخر مُضطَهد لأخيه أو ظالمٍ له؛ فإنَّ كُلَّ ضيقٍ يكون سببه إنسانًا آخر، مجموعةً كانت أم فَردًا. إنّ كلَّ خطيئة سببُها ليس الله، بل فِكرةٌ أو صورةٌ أو تخيُّلٌ في داخل الإنسان، أو إغراء أو رشوةٌ. إنّ الشّيطان يُشبه إنسانًا لديه دُكّان، واجهته في غاية الجَمال، تَدعو الرّائي لها إلى الدُّخول إليه لإلقاء نَظرةٍ على موجوداته. إنّ الشَّيطان لا يُجبر الإنسان على شيء ولا يَضغط عليه إنّما يلجأ إلى إغرائه. فعندما يَدخل المؤمِن إلى هذا الدُّكان، يكون قد تعرَّض للتَّجربة، ولكن إذ خرجَ منه من دون أن يشتري منه شيئًا، فهذا يعني أنَّه انتصَر على التَّجربة ولَم يرتَكِب خطيئة؛ أمّا إذا اشترى من بِضاعة الشِّرير فهذا يعني أنّه وقع في الخَطيئة، عندما تعرَّض للتَّجربة. إذًا، لا علاقة لله في التَّجارب الّتي يتعرَّض لها الإنسان، فالأمر متعلِّق بانجذاب الإنسان إلى إغراءات الشَّيطان. في القديم، قد امتَحن الله مرَّةً أيُّوب الصِّديق، ولكنَّه لم يُكرِّر هذا الأمر مُجدَّدًا. تمامًا كما فَعل الله في الطُّوفان مع نوح، فالله لَم يُكرِّر الأمر مُجدَّدًا، فتَكرار الطُّوفان كان لِيَدُلَّ على فَشل الله في خلق بشريّة صالحة، والله ليس كَذَلِك. إنّ انجذاب الإنسان للشَّهوة الأرضيّة، تشكِّل التَّجربة الّتي يتعرَّض لها الإنسان، وهي مَن قَصَدها الربُّ في صلاة الأبانا، حين علَّم تلاميذه أن يتوجَّهوا إلى الله الآب بالقول:"لا تُدخِلنا في التَّجربة" (متى 6: 13). في هذه العِبارة، يتوسَّل المؤمِن إلى الله بِعَدم السَّماح بأن يَقِف المؤمِن أمامه كَمُتَّهم في اليوم الأخير حين يجلس الله على عرشِه السَّماويّ ليَدين البشريّة. عندما أورَدَ الإنجيليّ هذه العبارة في نصّ الأبانا، استخدم عبارة "تَجربة"، في صِيغة الـمُفرَد لا في صِيغَة الجَمع، وهذا يعني أنَّ التَّجربة الحقيقيّة الّتي يتعرَّض لها الإنسان لا تقوم على تناوله طعامًا معيَّنًا في الصَّوم أو الامتناع عنه، بل تعني ارتكابه الخطيئة الّتي تؤدِّي إلى قَطع علاقته بالربّ. يُخبرنا سِفر التَّكوين عن آدم الّذي كان يعيش في النَّعيم قَبْل لقائه بالحيَّة أي إبليس والخضوع لإغراءاتها. فالحيّة زَرَعت في فِكرِ آدم أفكارًا شريرةً، فَتَبنَّاها فوقَع في الخَطيئة.

في حياتنا الرُّوحيّة، نتعرَّض، كمؤمِنِين، للتَّجارب، الّـتي قد تكون واضحةً ومباشرةً، كما قد تكون غير واضحةٍ وغير مباشرة. في بعض الأحيان، إنَّ موهَبَةَ الإنسان تتحوَّل إلى تَجربة، بسبب تفسير الإنسان لها، أو بسبب تفسير آخَرين لها: فالموهبة تؤدِّي إلى مَديح الإنسان الموهوب، ممّا قد يولِّد عنده شعورًا بالكِبرياء، فيتكبَّر على إخوته بسبب موهبته هذه، إذ يُعطي لِذاته حَقَّ الحُكم على الآخَرين، ممّا يؤدِّي إلى قَطع العلاقة بينه وبينهم. إخوتي، إنَّ الله لَم يتخلَّ عن عرشِه ولم يُسلِّم صلاحيّته في إدانة الآخَرين لأحدٍ من البشر، ولذا فإنَّ حُكمنا على الآخَرين يشكِّل احتلالاً لأرضِ الله، الّتي هي الآخَر، وبالتّالي يتحوَّل موقفنا إلى موقفٍ شيطانيّ. إذًا، إنّ المواهب الّتي أفاضها الله علينا، إضافةً إلى كلّ الايجابيّات الّتي نَملِكها مِن سلطة ومال وجمال، قد تتحوَّل إلى تجارب، الّتي قد تقود الإنسان إذا انصاع لها، إلى وقوعه في الخَطيئة. على المؤمِن أنْ يسعى إلى إجهاض حَبَل الشَّهوة، كي لا يَقع في الخَطيئة. إنّ إجهاض الشَّهوة يكون بالعودة مباشرةً إلى كلمة الله، وبالتَّوجُه إلى حِضن الله من خلال التَّوبة، فيتمكَّنَ الإنسان من الحصول، من جديد، على حماية الله ورَحمته. إنَّ الله رَحيمٌ والرَّحمة هي صِفةٌ أُنثويّة، مشتَّقة من الرَّحم، الّذي يُعطي الحياة ويُحافِظُ عليها. وبالتّالي، إنَّ الرّحمة هي وجود الإنسان داخل الرَّحِم، حيث إمكانيّة الحياة متاحةٌ، أي إمكانيّة ولادة حياةٍ جديدة. إذًا، على المؤمِن أن يُحارب هذه التَّجربة لئّلا تنقطِع الصِّلة بينَه وبين الله، فَيَبقى في رَحمة الله، أي في أحشائه، في رَحمِه، فيعيش المؤمِن حياةً طبيعيَّة وصَحيحة. وبالتّالي، عندما يقول لنا الرَّسول يَعقوب: "الشّهوة إذا حَبِلت تُولِّد خَطيئة" (يع 1: 15)، فهو يستخدم عبارات مِثل الحَبَل والولادة، والحَبل كما هو مَعروف ليس ولَيد السَّاعة، بل هو يستمرُّ لفترةٍ من الزَّمن وهي تِسعةَ أشهرٍ؛ كذلك الشَّهوة إذا وُلِدت في قلب الإنسان لا تكون وليدة اللَّحظة الآنيَّة، بل هي وليدة أفكارٍ تعشَّشت في فِكر الإنسان، فانجذب هذا الأخير إليها، فطوَّرها ممّا أدَّى إلى وقوعه في الخَطيئة، وبالتّالي إلى أذيّة الإنسان ذاته. في هذا الإطار، يَنَصَحُنا الآباء الرُّوحيِّون بالتَّعلم من الشَّيطان أمرًا واحدًا وهو الجِهاد، وعدم الكَسَل، فالشِّرير لا يتعَب ولا يَكِّلُ من العَمل حتّى يوقِعنا في الخَطيئة، كذلك نحن علينا السَّهر على نفوسِنا من خلال المحافظة على صِلَتِنا بالله من خلال المثابرة على قراءة كلمة الله المقدَّسة، والمثابرة على الصّلاة والقراءات الرُّوحيّة، والمثابرة على طَلبِ الإرشاد الرُّوحيّ، ومحبَّة الإخوة، مع فِعل الصَّدقة والعطاء وعَمل الخِدمة، فكلّ هذه الأمور تُحَصِّننا ضدَّ كلّ تجربة وتَحمينا منها متَى واجَهَتنا، فلا تُغرينا كلُّ بضاعة الشِّرير.

في الحياة الرُّوحيّة، نوعان من الشَّهوات: الشَّهوات الضّارة، والشَّهوات غير الضّارة. وإليكم مِثالٌ عنهما: الجوع هو شهوةٌ غير ضارّة، أمّا الشَّراهة فهي شهوة ضارَّة. إنَّ الغضب هو شهوة ضارّة، لأنَّ كُلَّ غَضَبٍ يولِّد أذيّة، إمّا في الفِكر أو في الكلمة أو في الفِعل. فإذا تعرَّض الإنسان بالأذيّة للآخَر، يكون قد قطعَ علاقته بالله، لأنَّ الله تماهى مع الإنسان الآخر الّذي يواجه المؤمِن في حياته اليوميّة. عندما يقول الله لنا: "إن غَفرتُم للنَّاس خطاياهم، يغفر لَكم أبوكم السَّماويّ خطاياكم. وإنْ لم تَغفروا للآخَرين خطاياهم فأبوكم السَّماويّ لن يَغفر لكم زلّاتكم"(متى 6: 14)، فهذا يعني أنّ علاقة الإنسان بالله مبنيَّة على تصرُّف الإنسان مع الآخَر. إنَّ أكبر التَّجارب الّتي يتعرَّض لها الإنسان هي نَظرَته إلى الآخَر. لذا على الإنسان أن يُزخِّم نفسه بالمحبّة للآخَرين والقدرة على المسامحة والغفران لهم. إنّ المسامحة والتَّواضع هما زينَتا الفضائل، لأنَّ الإنسان المتواضع يستطيع مسامحة الآخَرين. إنَّ المسامحة والتواضع هما حِصنان كبيران، إذا تمسَّك بِهما الإنسان حصَّن ذاته من أيِّ تدخُّلٍ خارجيّ يهدف إلى إيقاعه في الشَّهوة والتَّجربة. إنّ الله أمامك، وهو ينتظر مجيئك إليه، لأنّه يريد أن يُعطيك الحياة، ويُرشِدك بكلمته المقدَّسة وروحه القدُّوس. للأسف، في الكثير من الأوقات، نلجأ إلى تسخيف التَّجربة الّتي نتعرَّض لها، وذلك بِهَدَف إبعاد المسؤوليّة عنّا وإلقائها على الآخَرين. لذلك، يكون الشَّيطان بالنِّسبة إلى الإنسان الّذي وَقع في التَّجربة، المسؤول الوحيد عن خطيئته. بعدما ارتَكَب خطيئته، سارع آدم إلى إخبار الله أنّ المسؤول عن وقوعه في الخطيئة هي حوّاء، المرأة الّتي مَنَحه الله إيّاها. إنَّ عدم تحمّل الإنسان مسؤوليّته في الأعمال الّتي يقوم بها، تَجعله خاضعًا للعبوديّة من جديد. إنّ الإنسان الّذي يتحمَّل مسؤوليّة أعماله هو إنسانٌ حُرٌّ لأنّ قراره يَنبع من ذاته؛ أمّا الإنسان العَبد فهو يُنفِّذ أوامر سيِّده، لذا هو لا يتحمَّل مسؤوليّة ما يقوم به. في هذا الإطار، يقول لنا بولس الرَّسول إنّنا "مُحرَّرون" لا أحرار، وهذا يعني أنّ الله هو الّذي حرَّرنا من خطيئتنا، ولذلك أصبَحنا أحرارًا. إنّ الله قد دَفع ثَمن عبوديّتنا على الصّليب، فتمكَّن من شرائنا من أيدي الشِّرير، ثمَّ أعاد لنا حرَّيتنا، وبالتّالي أصبحنا مسؤولِين عن أعمالِنا، لذا علينا التصرُّف كأحرار لا كَعبيد. في سرّ الاعتراف، نلاحظ أنّ بعض المؤمنِين يَعمدون إلى تبرير خطاياهم، عند اعترافهم بها، مُلقِين المسؤوليّة على الآخَرين. إنّ أساس الغضب موجودٌ في ذاكرة الإنسان وقلبه وذِهنه.


إذًا، التَّجربة هي دائمًا أمرٌ سلبيّ، ولا يحتاج الله إلى امتحانِ الإنسان، كي يَعلم موقِفَ هذا الأخير منه، فالله يرى الإنسان إذ إنّه "فاحص الكِلى والقلوب"، وهو يعرف ضُعفَ كلَّ إنسان. لذلك هو يتعامل مع البشر، كما يتعامل الرّاعي مع قطيعه، فالربُّ قد عرَّف عن نفسه للمؤمنِين بالقول: "أنا الراعي الصّالح، أعرف خرافي وخرافي تَعرفني" (يو 10: 15). إنّ الراعي يسمّي نِعاجه كلٌّ بحسب ضُعفها، فينادي هذه النّعجة بالعرجاء وأخرى بالطرشاء، ويتعامل مع كلِّ واحدةٍ منها بحسب ضُعفها، لا كقاضٍ قاسٍ، يتعامل معها كأبٍ رحيم؛ فرَحمة الله للبشر، تَجعل هؤلاء، مَتى أدرَكوا رَحمة الله لهم، محميِّين من كلّ تجربةٍ. إنّ كُلّ عطيّة صالحة، هي نازلةٌ من عند أبي الأنوار، الّذي لا تغيير فيه، شاءَ فوَلَدنا بكلمة الحقّ، كي نكونَ باكورة خلائقه.

ملاحظة: دُوِّنت مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف. تتمة...
14/3/2021 "أخْتَبِئ نحو لُحيظة حتّى يَعبُر الغَضَب" (أش 26: 20) الدُّخول إلى أعماق ذواتنا
https://youtu.be/n18I-cH0pNI

"هَلُمَّ يا شَعبي، أُدخُل مخادِعَكَ، وأغلِق أبوابَك خَلفَك.
اخْتَبِئ نحو لُحيظة حتّى يَعبُر الغَضَب" (أش 26: 20)
للخوري جوزف سلوم


الرِّياضة السَّنوية لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
عبر تطبيق "زوم"
14/3/2021


الله معكم من جديد، أتمنَّى لَكم وقتًا مبارَكًا غنيًّا في فترة الصّوم كي نَكتنز كنوزًا عظيمةً فَنَتجدَّد!
إنَّ موضوعي اليوم هو: "اِخْتَبِئ نحو لُحَيظَة حتَّى يَعبُر الغَضب"(أش 26: 20).

بدايةً سأقوم بمقدّمة، ثمّ سأتطرَّق إلى خمسة مشاهد من العهد القديم، ثمّ سأتطرَّق إلى تسعة مشاهد من العهد الجديد، وأخيرًا سأنُهي حديثي بِخُلاصة.
مقدمة: أودُّ أن أعترف أمامكم أنّنا اليوم موجودون في القَعر، في الهاوية، إنّها "الجَحيم". إنّ المرحلة الّتي وَصلنا إليها، جَعلتنا في حالةٍ من البؤس والشِّدة، والضِّيق، والقلق، والخوف؛ وقد ساهَمت في اختبارِنا "اللَّيل الطويل"، فَخساراتُنا المتكرِّرة في هذا الزَّمن أنهَكَتنا، وجَعلتنا في حالة من الإفلاس التّام، في حالةٍ من التَّقيوء من الوَضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ اللّذين نعيشهما. إنَّ وَضعنا اليوم يَدفعنا إلى القول مع التّلاميذ: "تَعِبْنا اللَّيل كُلَّه ولَم نَصطَد شيئًا" (لو 5: 5). عندما تفاقَمَت المشاكل عليه ولم يَعُد قادرًا على احتمالِها، قال أيُّوب الصِّديق لله: "أتَحسَبُ أنَّ لَحمي مِن نُحاس!" (أيُّوب6: 12)، ثمّ يُضيف الصِّدِّيق قائلاً:"ليتَكَ تُوارِيني في الهاوية"(أيُّوب 14: 13)، أي ليتَك تُخبِّئني في الهاوية، إلى أن يَنصرفِ غضَبُك. اليوم، أوَدّ أيضًا أن أقول معكم للربّ، على مِثال أيُّوب: ليتَك يا ربّ تُخبِّئنا في قلبك، فالعواصف قويّة جدًّا علينا. إنّ هذا الاختباء أو بالأحرى هذا الهروب، ليسَ هروبًا من الله، هروبًا مِن الحقّ، بل هو هروبٌ من الخطيئة. في هذا الإطار، يقول سِفر الحِكمة: "ليسَ أحدٌ يَستَطيع أن يَهرُب من يَدك" (حكمة 16: 15). إنّ الإنسان يستطيع أن يختبئ من جميع النَّاس ولكنَّه لا يستطيع الاختباء والهروب من الله، لأنَّ الله هو "فاحِص الكُلى والقلوب" (إرميا 17: 10)، ويقول سِفر يشوع بن سيراخ (21: 2) "اهرب من الخطيئة، هَربَك من الحيّة، فإنَّك إنْ دَنَوت مِنها لَدَغتْكَ". وبالتّالي، علينا الوقاية والحماية من الخطيئة بِكُلّ الطُرق. إنّ الهروب أو الاختباء هو نوعان: الهروب الأوّل هو هروبٌ من الله، وهو هروبٌ سلبيّ، مرفوضٌ تمامًا لأنَّه يَضُرُّ بِنا، وهنا نتذكَّر صاحب الوزنة الواحدة الّذي قال للربّ: "عَرفتُكَ رَجُلاً قاسيًا، تَحصُد حيثُ لَم تَزرَع، فَخِفتُ وذهَبتُ فَدَفنْتُ وَزنَتَك أو فِضَّتك" (متى 25: 24-25). هذا الهروب يدلُّ على رغبة الإنسان في الابتعاد عن الله. أمّا النَّوع الثّاني من الـهُروب، فَهو هروبٌ مَرغوب ومطلوب، وهو هُروب من العالَم، حتّـى أتمكّن من الدُّخول إلى أعماقي، فألتقي بالربّ، في الصَّمت. هذا الهروب الثّاني هو هروبٌ نحو حِضن الله، ذاك الحِضن الـمُريح والحامي من الخطيئة، والربُّ يدعونا إلى لقائه قائلاً: "تعالوا إليَّ يا جَميع الـمُتعَبِين والـمُثقَلِين بالأحمال وأنا أُريحكم"(متى 11: 28). إذًا، أنا أختَبئ من الخطيئة وأحتمي بالربّ، هو "صَخرتي"، "صَخرة خلاصي" (مز 18: 2). وفي هذا الإطار، أوَدُّ الإشارة إلى أنَّه في فِعل النَّدامة الّذي نُردِّده بعد الاعتراف بخطايانا، نقول: "أقصُد أن أهرب مِن كلّ سبب الخطيئة". هذا الهروب هو الهروب البُطوليّ، الّذي علينا أن نسعى إلى عيشِه في حياتنا. إنّ الكِتاب المقدَّس يدعونا أيضًا إلى الهروب من كُلِّ أصدقاء السُّوء والمعاشرات الرَّديئة، الَّتي تُفسِد الأخلاق الحميدة: هذا ما يقوله لنا بولس الرَّسول على سبيل المِثال؛ وكذلك سِفر التَّكوين، يدعونا إلى الهروب قائلاً لنا: "أُهرب إلى الحياة، لا تنظر إلى ورائك لئلَّا تَهلِك" (تك 19: 17). نحن نهرب إلى الأمام، إلى الحياة، إلى ملاقاة الله. كذلك نقرأ في المزمور 137(7-10): "أين أذهَبُ مِن روحك؟ أين أذهب من وجهك؟ إنْ صَعِدْتُ إلى السَّماء، فأنْتَ هناك، وإنْ اضَجَعت في مثوى الأموات، فأنتَ حاضِر. إنْ اتَّخذتُ أجنحة الفَجر وسَكنْتُ أقاصي البحر فهناك أيضًا يَدُكَ تَهديني، ويَمينُك تُمسِكني". إضافةً إلى كُلّ المعاناة والصُّعوبات الّـتي نعيشها، حلَّت علينا جائحة الكورنا، الّتي نعتبرها أزمة العَصر، الّتي دَفعتنا جميعًا إلى الاختباء وراء كمامةٍ، والبقاء على مسافةٍ آمِنةٍ من الجميع، فَلم يَعُد باستِطاعَتِنا القيام بالزيارات واللِّقاءات، كما أوقَفَتْ كلَّ أنشِطتنا ومناسباتِنا وبَدَّلتها، وجَعلت الشَّوارع فارغة. إنّ جائحة الكورونا، فرَضَتَ علينا الجلوس في البيت، إلى أن تَعبُر. في ظلّ هذه الظُّروف الصَّعبة، أودُّ أن أذكِّركم وأقول إنّه في أعماق القَعر، في أعماق الجَحيم، الربُّ موجود، لذا لا تخافوا.
مشاهد العهد القديم:
- المشهد الأوّل هو مِن سِفر إشعيا النبيّ، الّذي منه أُخِذَتْ الآية الّتي نعالجها اليوم في موضوعنا: "هَلُمَّ يا شَعبي، أدْخُل مَخادِعَك. اغلِق أبوابَك خَلفَك. اِختَبئ نحو لُحيظة حتّى يَعبُرَ الغَضَب" (اش 26: 20). إنّ النبيّ إشعيا قد عاش قَبْل مجيء المسيح بما يُقارب السَّبعَ مِئةِ وخمسين سنة؛ وكِتابه يُعتبر الأكبر في العهد القديم بعد سِفر المزامير. يُعتَبر النبيّ إشعيا، الإنجيليّ الخامِس بعد الإنجيليِّين الأربع. عاصَر هذا النبيّ خمسةَ ملوكٍ، وتَنَبّأ على مملكة يَهوذا المنقسمة عن مملكة اسرائيل، وارتَكزَتْ كلُّ كِرازتِه على فِكرة خلاص الله. وهنا السُّؤال الّذي نَطرَحُه اليوم: كيف يستطيع الله أن يُحقِّق هذا الخلاص لِشَعبه؟ يستطيعُ الربُّ أن يُخلِّص شَعبَه من خلال كلمةٍ واحدة كان يُنادي بها إشعيا، وهي"توبوا". إذًا، كلُّ سِفر إشعيا، يرتكز على دعوتِه الشَّعب إلى التَّوبة. إنّ إشعيا طلَب إلى الشَّعب أن يعودوا إلى الله، خصوصًا بعد فسادِ الشَّعب وفسادِ ملوكه، وانغلاق الشَّعب اليَهوديّ على نَفسِه، فَهُم لَم يعيشوا انفتاحًا على الأُمَم. إنّ الشَّعب اليهوديّ، اعتبَر نفسه شَعب الله حَصرًا مِن دون بقيَّة الشُّعوب؛ لذلك أعلن النبيّ إشعيا لهذا الشَّعب عن إنذاراتٍ من الله، ووعودٍ منه، وتجارب وضيقات ستَحلُّ بهم؛ ثمّ أعلن لهم كلمات رَجاءٍ وتَعزية. إنَّ الشَّعب اليهوديّ قد عَبَد الله عبادةً سطحيّة، وأشرَكَ مع عبادته لله الحيّ عبادة الأصنام. ونحن أيضًا في الكثير من الأحيان، نبتَعدُ عن الله. إنَّ الله كلَّم النبيّ في رؤيا وأبلَغه فيها عن السَّبي إلى بابل والضِّيقات الّتي سيُعاني منها الشَّعب ما لَم يتُبْ إلى الربّ؛ وعلى إثرِ هذه الرُّؤيا نبَّه النبيّ إشعيا الشَّعب قائلاً لهم: "هَلُمَّ يا شَعبي، أدْخُل مخادِعَك، أغلِق أبوابَك خَلفك. اِختبِئ نحو لُحَيظة حتّى يَعبُر الغضب". على إثر هذه التَّنبيهات، جَمَع الشَّعب ما بين الخوف من الله وخوف الله، فَسَكب الشَّعب أمام الله المخافة، لا الخوف منه. وبعد تأديب النبيّ للشَّعب، عاد الشَّعب إلى الله، فاجتاز الشَّعب هذه التَّجربة كما تتمخَّض المرأة الحُبلى قَبْل أن تَلِد حياةً جديدة إلى العالَم. بعد توبته، انطلق الشَّعب نحو الحياة الجديدة، كما انطَلق الابن الشَّاطر في حياةٍ جديدة بعد عودته إلى أبيه الّذي قال عن ابنه العائد إلى البيت: "كان مائتًا فعاش" (لو 15: 32). إنّ الربّ ينظر إلى دموع التّائبين، فَدُموع هؤلاء تُقيم الجُثث، بِحَسب قول إشعيا، إذ تُنادي سُكَّان التَّراب، قائلةً لهم:" استَيقِظوا، رنِّموا، سبِّحوا" (إشعيا 26: 19). إنّ النبيّ إشعيا دعا الشَّعب إلى العَيْش في الخوف المقدَّس، من خلال الدُّخول إلى مخادعهم وإغلاق أبوابِهم، فيتمكَّنوا من الكلام إلى الله. للأسف، في عالمِنا اليوم، الإنسان كَليمٌ في كلّ شيء إلّا الله. إخوتي، إنَّ الضِّيقات الّتي تُعاني منها العائلات لا تُحَلُّ في الشَّوارع، أي في الخارِج، بل في الدَّاخل. إنّ إشعيا يدعونا إلى الدُّخول إلى الدَّاخل كي نتمكَّن من الانفراد بالله، لا خوفًا منه، إنّما للعمل معه. يقول لنا إشعيا النبيّ:"اِختَبئ نحو لُحَيظة"، أي اختَبئ لِوَقتٍ قَصير. إنّ الله يريد مِنَّا هذا الوقت القليل كي نَختَبِئ في قلبه، فيَحمِينا من الأمواج وعواصِف الغضَب. إنَّ الربَّ يدعونا إلى الدُّخول إلى عُلِّياتِنا للحديث معه، وهذا ما عبَّر عنه الربّ حين وَجد تلاميذه نِيامًا في ليلة آلامه، قائلاً لهم: "ألا تسهرون معي ساعة" (متى 26: 40). يُخبرنا إشعيا النبيّ أنَّ الربَّ قد خَرج ليُعاقِب الشَّعب على خطاياه. في المجيء الأوَّل، أي في التجسُّد، جاء الربُّ لا لِيَدين العالَم بل لِيُخلِّص العالَم؛ أمّا في المجيء الثّاني، أي في نهاية العالَم، فهو سيأتي ليَدين العالم، أي ليُحاسِب النَّاس على أعمالِهم. عندها سَتَكشِفُ الأرض عن دِمائِها، أي ستَكشِف حقيقة القَتَلة، الّذين يرتَكبون الشَّر في هذا العالَم. إنّ الربَّ سيُعاقب النّاس على شرورهم كما سيُعاقب"الحيّة الهارِبة" (إشعيا27: 1). ففي قصّة آدم وحوَّاء، هَربَتْ الحيّة وبالتَّالي هي لا تَزال موجودة في هذا العالم، وهي لا تزال تُغري النّاس، وتدفعهم إلى ارتكاب الخطايا والشُّرور؛ ولكنَّ الربَّ سيتمكَّن منها وسيُعاقِبها. إخوتي، نحن مدعوون إلى صناعة عليَّتِنا الخاصَّة فنَدخُلَ إلى مخادِعنا ونُغلِق أبوابِنا لنتمكَّن مِن سماع صوت الربّ.

- آدم وحوّاء: في قصّة آدم وحوَّاء، نكتشف أوَّلَ هروبٍ عاشته البشريّة، (تك 3: 7). إنّ الربَّ طلَب من آدم وحوَّاء عدم لَمِسِ شجرة معرفة الخير والشَّر، فلَم يأبها لكِلامه، إذ أصبحا كليمَي الحيّة، الّتي أغوتهما، ودَفعتهما إلى مخالفة أوامر الربّ، فما كان من آدم وحوَّاء إلّا أن أسرَعا إلى خياطة مآزِرَ لهما من أوراق الشَّجر، عندما سَمعا صوت الربّ صارخًا إلى آدم قائلاً:"آدم، أين أنت؟"(تك 3: 9)
- سفينة نوح: (تكوين 9: 12- 14). يُخبرنا سِفر التَكوين أنَّ الربَّ قد رأى أنّ الشُّرور في الأرض قد كَثُرَت، وأنَّ نوحًا كان رَجُلاً بارًّا، كامِلاً، تقيًّا، سالكًا مع الله، مملؤءًا نعمةً، طلب الربُّ إلى نوح الدُّخول إلى السَّفينة مع عائلته للاختباء من الطُّوفان الّذي كان الربُّ مزمِعًا أن يقوم به. ونحن اليوم، مدعوون إلى الاختباء في قلب هذه السَّفينة، في قلب هذه العِليَّة، فالربّ يؤدِّب ساعة، ويرحم إلى الأبد. بعد هذا الاختباء من الطُّوفان، دشّن الله عَهدًا جديدًا مع الإنسان من خلال إعطاءِ نوح علامة قوسَ قُزَح. عند خروجه من السَّفينة، أدرَك نوح أنّ الربَّ قد خبَّأه من الوباء، أي من الطُّوفان. في اختبائنا من الضِّيقات، نحن نحمي ذواتنا، مع الربّ؛ وعند خروجنا من مخابئنا سنكتشفُ أنّ الله كان حاضرًا معنا لحمايتنا في ظلّ تلك الضِّيقات.
- يوسف: إنّ سِفر التَّكوين يُخبرنا أيضًا عن يوسف الّذي باعه إخوته للإسماعيليِّين في مِصر، حيث اشتراه رئيس الحرس، وهو خِصيّ فِرعون. في ظلّ هذه المحنة، نال يوسف حُظوةً عند فِرعون فسلَّمه هذا الأخير أعمال بيته. في بيت فرعون، تعرَّض يوسف إلى تَجربة كبيرة، مِن قِبَل زَوجة رئيس الحرس، إذ أرادت إقامة علاقة معه، فرَفَض، واختار تركَ ردائه بين يَديها، والهروب من الخطيئة، وقد تمكَّن من الهروب بِفَضل صلاته وإيمانه بالربّ.
- يونان النبيّ: إنّ الربَّ قد رأى أنَّ الشَّر والفساد قد تعاظَما في نينوى، فطلب الربُّ إلى يونان الذَّهاب إلى هذه المدينة، فرفَضَ وحاول الهروب من دعوة الله له، في سفينةٍ إلى ترشيش. في السَّفينة، أظهر الربُّ لِرَبابِنَة السَّفينة أنَّ يونان هو السَّبب في مواجهتهم العواصِف في البحر، فرَموه في البحر، فابتلعه الحوت، وبَقيَ في جوفه ثلاثة أيّام. إنّ يونان لم يتمكَّن مِن الهروب مِن صوت الله، الّذي عاد وأرسَله من جديد إلى نينوى.كان يونان خائفًا جدًّا من الذَّهاب إلى هذه المدينة، لأنّ نينوى مدينةٌ صَعبةٌ جدًّا، فِيها الكثير من أعمال الدَّعارة وهي مدينةٌ وثنيّة وهي تَقع على البَحر. وعلى الرَّغم من كلِّ ذلك، تمكَّن يونان بِمَعونة الربّ من تبشير هذه المدينة وحَثِّها على التَّوبة. إذًا، تَوارِينا هو للتَّوبة ولإعادة قراءة الحياة.

في العهد الجديد: سأتوَّقف عند تسع نقاط:
- حياة يسوع الخفيّة: إنَّ الربَّ يسوع عاش ثلاثين سنة في الخفاء، وثلاث سِنِين أمضاها في التَّبشير بكلمة الله، أي أنّ الربَّ قد تحضَّر للتَّبشير، فَكانت الثلاثون سنة، مرحلةَ عيشِه في الخفاء، مرحلةً للنُّمو.
- الهروب إلى مِصر مع يوسف ومريم: لـمّا اضطرب هيرودس وكلّ المملكة معه، عندما عَلمِ من خلال المجوس أنّ الربَّ قد وُلد في بيت لَحم، قام هيرودس بِإصدار أمرٍ بِقَتلِ كلَّ أطفال بيت لحم. عندها ظَهر الملاكُ ليوسف في الحُلم وطلب إليه الهروب مع الصَّبي وأمَّه إلى مِصر، ففعل يوسف ما أمرَه ملاكُ الربِّ به. هذا الهروب هو مبدأ روحيّ: عندما يُبصِر الصِّديق الشَّر، يتوارى. هذه هي الحِكمة، هذه هي طريق السّلام بَدَلَ الدُّخول في حروب. إنَّ القدِّيس يوسف عَمِل على تنظيم وترتيب هذا الهروب. عاش يوسف في الخَفاء طِيلةَ حياته.
- يسوع يتوارى عن تلاميذه والجموع، فَيعتزل للصّلاة. نلاحظ في الكثير من الأوقات أنَّ الربّ كان يَصعد إلى الجبل، تاركًا الجموع، ومُتواريًا عن التَّلاميذ، ليُصلِّي إلى أبيه في الخفاء. "عندما صار المساء، كان هناك وَحده على الجبل يُصلِّي"(متى 14: 23).
- بعد تكثير الخبز والسَّمك على جبل طبريَّا، وشفائه لمَرضى كثيرين، وتعليمِهم كلمة الله، وإطعامهم من القوت الأرضيّ، شعر الجمع بالفرح، فقالوا عن الربِّ يسوع: "هذا هو حقًّا النبيّ الآتي، إلى العالَم"(يو6: 14). وعَلِم يسوع أنَّ الجموع تُريد اختطافَه لإعلانه مَلِكًا أرضيًا عليهم، فما كان من الربّ إلّا أن توارى عن الجموع وصَعِد إلى الجَبَل ليَجلِس وَحده ويصلِّي إلى أبيه. إنَّ الربَّ يسوع طلب إلينا في الصّوم أن نعيش أمورًا ثلاثة، هي الصَّوم والصَّدقة والصّلاة؛ وعلى هذه الأمور الثلاثة أن تتمَّ في الخَفاء، لا أمام النَّاس. وهذه قاعدةٌ أساسيٌّة وفي غاية الأهميّة.

- إنَّ الربَّ أعطانا مَثَل اللؤلؤة الثَّمينة، الّتـي تكون متوارية عن الأنظار، ولكن حين يكتشِف الإنسان وجودها، فإنّه يفرح بها، ويعبِّر عن استعداده لِبَيع كلّ ما يَملِك من أجل الحصول عليها، لأنّها كَنزٌ بالنِّسبة إليه.
- بعد قيامة لِعازر، (يو 11: 1- 45) أراد رؤوساء اليَهود قَتلَ الربِّ لأنّه أقام لِعازَر من الموت، فقرّر الربُّ التَّواري عن أنظارهم، فتَابع مسيرته التَّبشيريّة في الخفاء.
- إنَّ الربَّ يسوع قال عن ذاته إنّه نور العالم، فامتَعض رؤوساء اليهود من هذا الكلام، قائلين له:"مَن أنت؟"(يو8: 25)، عندها قال لهم إنّه كائنٌ قَبلَ ابراهيم. عندها حَملوا حجارةً وأرادوا رَجمه، فخرج من الهيكل وتوارى عنهم، وتوقَّف عن القيام بالأعاجيب علانيّة. هذا الاختفاء هو سرّ حكمة يسوع.
- في وجود يسوع في القبر، توارى الربُّ عن أنظارنا ليقول لنا إنّه لا يزالُ حاضرًا معنا ولكن بطريقة أُخرى. يمكننا الاستفادة من وقت الاختباء هذا الّذي نعيشه، وتحويله إلى وقت خِصبٍ عند التَّواري عن الظَّهور في العَلن.
- مار بولس: بعدما اهتدى على طريق دِمشق، أثار انتماء بولس إلى الرُّسل جدلاً كبيرًا في أوساط المؤمنِين. فقام التّلاميذ بتهريب بولس في سلّة دلُّوها عن سُور دِمشق. توارى بولس في سلّة صغيرة. لَم يبدأ مار بولس رسالته التَّبشيريّة فورًا بعد اهتدائه على طريق دِمشق، بل بَقِي ثلاث سنوات يتحضَّر لهذه الرِّسالة .

خلاصة: في الختام، أطلب إليكم أن يقوم كُلُّ واحدٍ منكم بِصناعةِ عِليَّته، والعِليّة الأهمّ تكمن في داخل الإنسان. نحن مدعوون إلى الدُّخول إلى أعماق ذواتنا، فنَكتَشف حضور الله فينا. في هذه المرحلة، نحن مدعوون إلى استخدام حِكمَتنا، ونقول لِذواتنا إنَّ هذه المرحلة الّتي نَختَبِئُ فيها، سنتمكَّن من اجتيازها عمّا قريب، إذ إنّها لن تَدوم إلى الأبد. فعلى الرَّغم من كلِّ الخِسارات الّتي تكبَّدناها، سنتمكَّن، بعد الخروج من أزمة الكورونا والأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، من الوصول إلى ولادةٍ جديدة حقيقيّة، مُشدِّدين ذواتِنا، باحِثِين عن أولويّاتنا، جاعِلين يسوع نُصبَ عينَينا، هو الأساس. لذلك، أتمنَّى أن نتوارى ولو قليلاً حتّى يَعبُر هذا الغضب، فنعود ونلتَقي، ونكمِّل رسالتنا. اليوم، علينا العمل على ذواتنا من الدَّاخل، فنعيش حياة يسوع الخفيّة، كي نتمكَّن فيما بَعد من الانطلاق نحو الرِّسالة من جديد.
ملاحظة: دُوِّنت من قِبَلِنا بِتَصَرُّف. تتمة...
14/3/2021 "أحد شفاء المخلّع" (مر 2: 1-12) قم، احمل سريرك وامشِ
https://youtu.be/BaaTaW1FQtU

عظة في "أحد شفاء المخلَّع" (مر 2: 1-12)
للأب ميشال عبُّود الكرمليّ

الرِّياضة السَّنوية لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
عبر تطبيق "زوم"
14/3/2021

كان ينبغي لنا أن نتأمَّل في القراءتَين: الرِّسالة والإنجيل؛ وإنّما كي نُعطي الإنجيل حقَّه في التأمّل، سأتوقَّف فقط عند نصّ إنجيل الـمُخلَّع.
بدايةً، إنّ محور الإنجيل، أي البشرى السّارة، هو يسوع المسيح. لذلك عند قراءتنا لِنَصٍّ إنجيليّ، نُركِّز على ما قام به الربُّ يسوع وعلى ما قاله للمُحيطين به، فَنَعمل كي تكون حياتنا مُشابهةً لِحياة الربِّ يسوع، فيَكون فِكرُنا مطابقًا لِفكره، وكلماتُنا مُطابقة لتعاليمه، وهنا نتذكَّر قول بولس الرَّسول:"لِيَكُن لَكم فِكرُ المسيح". (في 2: 5)
عند قراءتنا لِنَصٍّ إنجيليّ، علينا أن نَضع ذواتَنا مكان الأشخاص الّذين التَقوا بالربّ، الّذين يُخبرنا عنهم النَّص؛ فإنَّ لِكُلِّ واحدٍ منهم قصّةً، تحوَّلت بعد لقائهم بالربِّ يسوع إلى تاريخٍ مُستَقبليّ. قَبْل إقدامِه على أيِّ مُخطِّطٍ مستَقبليّ، يقوم كلُّ إنسان بوقفةٍ مع ذاته، فيَطرح على ذاته السّؤالَين التّاليَّين: لماذا؟ وكيف؟ كذلك، نحن اليوم، المجتمعون في هذه الرِّياضة، وقد فرَّغنا وقتًا للمشاركة فيها، لا بُدَّ لنا من أن نَطرح هذين السُّؤالين على ذواتنا.
أوّلاً: لماذا: لماذا أَسمَع كلمة الله؟ لماذا أشارِكُ في هذه الرِّياضة الرُّوحيّة؟ والجواب هو أنَّ الله يَعْنِيني، لذا أسعى على الدَّوام إلى تقوية علاقتي بالربّ، فَكلمته تُعطي حياتي مَعنىً. قد يَحمل هذا الجواب في طيّاته بعض الأنانيّة، إذ قد يشعر البعض بأنَّ مشاركتهم في هذه الرِّياضة مبنيّة على شُعورهم بالرَّاحة والسّلام في أثناء الصّلاة، وأنّ مشاركتهم في هذه الرِّياضة تَمنحهم شعورًا بأنّ الله راضٍ عنهم. ولكنَّ الأهمَّ في كلِّ ذلك هو أنَّ لقاءنا بالربَّ هو مَصدر رِبحٍ لنا ولا خِسارةَ فيه.

ثانيًا: كيف؟ بالإصغاء. في هذ النَّص الإنجيليّ، نلاحظ أنَّ الجموع قد تَجَمهرّت حول الربِّ يسوع لِسماع كلمة الله الّتي يُعلِنها للشَّعب. وبالتّالي، هؤلاء لَم يتجمَّعوا حول الربِّ يسوع ليتعلّموا فنَّ الإضغاء أو بعض الأخلاقيّات الحَميدة الّتي يبشِّر بها الربّ، فهذه كلُّها تأتي في مراحل لاحقة. لذلك قال لنا الربُّ: "أُطلبوا ملكوت الله وبرَّه، والباقي يُزاد لكم" (متى 6: 33). وهنا أودُّ أنْ أُعيد على مسامِعكم قصَّة ذلك الإنسان الذي أراد تَعلُّمَ صناعة الأسلحة، فذهب إلى مُعلِّم في هذه الحِرفة، لِيُعلِّمه كيفية صناعة السُّيوف والخناجر والسِّهام، تلك الأسلحة المـتعارَف عليها في ذلك الزَّمان. فكان له ما أراد. وبعد مدَّةٍ من الزَّمن، قرَّر صاحب معمل الأسلحة أن يُسلِّم مَعمَله لِهذا الرَّجل الّذي تعلَّم هذه الحِرفة، ليَختَبر قدرة هذا الأخير على صناعة الأسلحة في وقتٍ قصير. وبَعدَ مُضي أسبوع، عاد صاحب المعمل إلى عَملِه، فتَفاجأ عندما وَجد أنَّ هذا الرَّجل الَّذي تعلَّم الصَّنعة لم يَقم بأيّة قِطعة سلاحٍ في غباب سيِّده، فسأله صاحب المعمل عن السَّبب، فأجاب الرَّجل: يا سيَّدي أنت علَّمتني كيفيّة صناعة الأسلحة، ولكنَّك لَم تُعلِّمني كيفيّة إشعال النَّار، كي أتمكَّن من صناعة الأسلحة.
"فكان يخاطبهم بالكلمة": إنَّ علاقتنا بالله مبنيّة على إصغائنا إلى كلمته. لذلك، عند قراءتنا لأيِّ نصٍ إنجيليّ، لا بُدَّ لنا من أن نَطرَح هذا السُّؤال على ذواتِنا: هل هذا الإنجيل الّذي أسمعه اليوم يَعنيني، أم لا؟ في هذه الأيّام، نكرِّس وقتًا طويلاً لمشاهدة كلِّ ما تعرِضه علينا وسائل التواصل الاجتماعيّ، وهي تعرض علينا أمورًا لا تستغرِق وقتًا بل تَمُرُّ بسرعةٍ. ولكنْ، أودُّ أن أطلبَ إليكم أن تَضعوا هاتفكم جانبًا محاولِين أن تتذكَّروا ما قرأتموه أو سمَعتموه عبر هذه الوسائل التواصليّة، فما تتذكَّرونه يُشير إلى ما تَهتمُّون به، وما لا تتذكَّرونه يُعبِّر عن عدم اكتراثكم له. إخوتي، إنَّ إصغائنا لِكلمة الله يتطلَّب منّا تكريسَ وقتٍ لها، كي نتمكَّن من سماعها، أي بِمعنى آخر يجب ألّا تَكون كلمة الله "فَضلَة حياتي"، فأكرِّس لها ما تبقَّى من وقتي. على المؤمِن أن يُكرِّس وقتًا لسماع كلمة الله، فتَدخل إلى أعماق حياته.
"ولَم يبقَ موضِعٌ لأحد ولا عند الباب" (مر 2: 2): إنَّ هذه الجموع الموجودة قُرب يسوع أتَت لِسماع كلمة الله، ولكن قد يكون بعض الموجودين في هذا الـمَنزل، قد أتوا لِطَلب الخُبز من الربّ، أو لِطلَب شفاء مَرضاهم، أو أيضًا بِفعل الفُضول.

إنَّ الرِّجال الأربعة الّذين حَملوا الـمُخلَّع يرمزون، بحسب تفاسير الآباء القدِّيسِين في الكَنيسة، إلى أربعة أقطار العالَم. حمل هؤلاء الرِّجال الأربعة الـمُخلَّعَ ووضَعوه أمام الربّ: هذا هو عمل الجماعات. إنّ هذه الرِّياضة الرُّوحيّة قد نَظَّمتها جماعة "أذكرني في ملكوتك"، الّتي حَمَلتنا، من خلال مسؤوليتِها، لِتَضعَنا أمام الربّ. في الكثير من الأوقات، قد نشارك الآخَرين وصفةً طبيّة أو أيَّة وصفةٍ أخرى، كي يتمكَّنوا من اختبارِ فائدتها، الّتي اكتَشفناها فيها. في بعض الأوقات، قد نشاهد فيلمًا، فنَنصَحُ الآخَرين بمشاهدته، بسبب وجود رغبة في داخِلنا كي يتذوَّق الآخَرون ما سَبَق وتذوَّقناه في هذا الفيلم. والإنسان الّذي يتذوَّق كلمة الله، يَحمِلُ الآخَرين إلى هذه الكلمة، إلى الربِّ يسوع.
"فأتوه بمخلَّع يحمله أربعة رجال" (مر 2: 3)، ولكنّهم اصطدموا بالعوائق، الّـتي كانت متمثِّلة بالجموع الحاضرة في هذا الـمَنزل، الّذين هم أيضًا جاؤوا على مِثال هؤلاء الرِّجال إمّا لِطَلب شِفاء أو لِسماع كلمة الله. إذًا، غالبًا ما تكون العوائق الّتي تمنعنا من الاقتراب من يسوع، هي الأشخاص الموجودين قُربَ الربّ، تمامًا كما حَدَث مع زكَّا العشَّار. إخوتي، إنَّ الإنسان الذي يُقرِّر اتِّباع الربّ، والتقرُّب منه لا بُدَّ من له أن يُدرِك أنّه سيَصطدم بالعوائق. فمَثلاً: حين يقرِّر الإنسان المؤمِن تكريس وقتٍ للصّلاة، يتفاجأ بأنَّ كلَّ الأمور الّتي كان غافلاً عنها قَبْل الصّلاة تتوارَدُ إلى ذهنه، في وقت الصّلاة، فيتذكَّر مثلاً في هذا الوقت ضرورة الاتِّصال بشخصٍ معيّن، أو يتبادر إلى ذِهنه، الشُّعور بالجوع و العطش، أوشعوره بأنْ لا نَفع من صلاته، إضافةً إلى شعوره بالكَسَل. كلّ العوائق تدعوني إلى تأجيل موعد صلاتي، وعندما أؤجِّلها، أصْطَدم مجددًا بعائق الوقت، فلا أعود أجد وقتًا للصّلاة مجدًّدا. إنَّ الإنسان الّذي يريد أن يَكون مع الله، سيتمكَّن من تَخطِّي كلّ العوائق. هنا أدعوكم إلى عدم تكريس وقتٍ كبير للربّ كي لا تصطدموا بالكَسل، وبالضَّياع. على المؤمِن أن يُعطي قيمةً للوقت الّذي يَعيشه.
"وبسبب الجمع، لم يستطيعوا الوصول به إلى يسوع، فكَشفوا السَّقف فوق يسوع، ونبشوه. وبعدما نقبوه، دلُّوا السَّرير الّذي كان المخلَّع مُضطَجعًا عليه" (مر2: 4). أمام هذا الـمَشهد، رأى الربُّ إيمانَ هؤلاء الرِّجال. في بعض الأحيان، قد نكون أمام مَشهدٍ واحدٍ ولكنّه قد يَحمل تفسيراتٍ متعدِّدة؛ فعلى سبيل الـمِثال: قد نكون أمام فريقَين، كلُّ فريقٍ مؤلَّفٌ من شَخصَين، فنرى في كلّ فريق أنَّ أحد أعضاء الفريق يضرب زَميله. إنَّ هذا المشهد يَحمل تفسيرَين، فالضَّرب قد يكون لِلتَحَبُّب، كما قد يكون للتعبير عن الغضب. لا أحد يستطيع أن يَعرف نِيَّتنا الكامنة خَلفَ أعمالنا إلّا الربُّ. إنَّ بعض الأشخاص يَقضون حياتهم في العَمل على إرضاء الآخَرين، نَجِدهم حَذِرين في كلماتهم وأعمالهم وتصرُّفاتهم. على المؤمِن أن يقوم بِعملِه من دون التوقُف عند فَهم الآخَر لهذا العَمل، لأنّه إذا كان الله يَفهم عَملي فمَا همِّي مِن فَهم الآخَر له، فمَن أَعملُ على إرضائه هو الله، لا النَّاس، فَعَملي أقوم به نتيجة حصولي على القوّة من السَّماء.
"ورأى يسوع إيمانهم، قال للمخلَّع: مغفورة لك خطاياك" (مر 2: 5). في هذا المشهد الإنجيليّ، نلاحظ وجود شخصٍ مريضٍ أمام الربِّ يسوع، وآخَرون قد تحمَّلوا كلّ العوائق، من أجل إيصال هذا الرَّجل إلى أمام يسوع، للحصول على الشِّفاء الجسديّ. إخوتي، إنَّ الله ينظر إلى القلوب قَبْل الأجساد، فيَمنح الشِّفاء للنُّفوس قَبْل الأجَسَاد. أنا لستُ بجاحةٍ إلى جَسَدي كي أتقدَّس: لستُ بحاجةٍ إلى رِجليّ ويديّ وعينَيّ كي أتقدَّس، فأنا أستطيع أن أتقدَّس حتّى ولو كان في جَسدي عِطلٌ أو مَرَض. أنا بحاجة إلى قلبي وفِكري كي أتقدَّس. لذلك قال الربُّ للمُخلَّع:"مَغفورةٌ لَكَ خَطاياك"، على الرُّغم من أنّه قادر على شفاء الجسد، لأنّ النَّفس بالنِّسبة إلى الربّ هي أهمُّ من الجسد، فالجسد بعد الموت يُصبح ترابًا، أمّا النَّفس فإلى الحياة الأبديّة.
"مغفورةٌ لك خطاياك" (مر2: 5): إنَّ التذمُّر من هذا الكلام الّذي قاله الربُّ يسوع، جاء مِنَ الّذين يسمعون كلمة الله خارجيًا ولا يسمحون لها بالدُّخول إلى أعماقهم، ألا وَهُم الفريسيُّون. عند سماعهم هذا الكلام، قال الفريسيُّون في قلوبهم: "مَن هذا حتّى يغفر الخطايا؟" وهذا يُعبِّر عن عدم قُدرتهم على مواجهة يسوع وَجهًا لوجه؛ ولكنَّ الربَّ تمكَّن من معرفة أفكارِهم. إنَّ الربَّ قد تمكَّن من معرفة الأفكار الإيجابيّة عند الرِّجال الأربعة الّذين أتوه بالمخلَّع، كما تمكَّن الربُّ من معرفة الأفكار السَّلبيّة عند الفريسيِّين؛ فالله يستطيع قراءة القلوب. عندما أقف أمام الله، أسعى في بعض الأحيان إلى تبرير ارتكابي للخطيئة، متناسيًا أنّ الله يَعرف خفايا القلوب، وأنَّه لا يريد أشخاصًا مُصطَنَعِين أمامه، يَدَّعون "وَهْم القداسة" بل أشخاصًا حقيقيِّين، يسعون إلى القداسة. إنَّ عبارة "وَهْم القداسة"، تُشير إلى الأشخاص الّذين يريدون أن يُصبحوا قدِّيسِين على الفَور، مُتَناسِين أنّ القداسة لا تتحقَّق على هذه الأرض، بل في السّماء. إنَّ الربَّ لا يريد أشخاصًا يَضعون ذواتهم "في الثّلاجة"، أي أنَّهم يقومون برياضة روحيّة للاستفادة من كلمة الله، ولَكن ما إنْ تنتهي الرِّياضة حتّى يعودوا إلى حياتهم اليوميّة كما كانت عليه قَبْل مشارَكتهم في الرِّياضة الرُّوحيّة. إنّ الربَّ يريد أشخاصًا يَضَعون ذواتَهم في "فُرن الرُّوح القُدُس"، فَتُنضِجهم كلمة الله. إنّ الربَّ يسوع قال لأبيه السَّماويّ في ليلة آلامه: "قدِّسهم في الحقّ. إنَّ كلمَتَك حقّ."في القديم، كان الشَّعب يُقدِّم للربّ ذبيحةً حيوانيّة، يَضَعونها على نارٍ حاميَّة لِشوائها. لتتقدَّسْ كلُّ كلمةٍ فينا أمام كلمة الله، لتتقدَّس كلُّ نُقطةِ ضُعفٍ فينا عَبْرَ وَضعها في حضرة الله، فَيتمَّكن الربُّ من شِفائنا منها.
إنَّ الهَدف من كلام الربّ الّذي وَجَّهه إلى المخلَّع: "مغفورةٌ خطاياك"، عندما عَلِم أفكار الفرِّيسِيين هو القول لهم إنّهم لا يستطيعون رؤية داخل الإنسان إذ إنّهم يَكتَفون بالخارج، وليؤكِّد لهم أنّ ابن الإنسان قادرٌ على الشِّفاء الخارجيّ والدَّاخليّ في الوقت نفسه، لذا أضاف قائلاً للمخلَّع: "لك أقول: قُم احمل فراشَك وامشِ". إنّ الربَّ يسوع أعطى الفرِّيسِيِّين العلامة الحسيَّة على قُدرته على الشِّفاء الخارجيّ. للأسف، نلاحظ أنَّ بعض المؤمنِين لا يزالون يسعَون وراء الأعاجيب. إنَّ الأعاجيب تكون عادةً للشَّخص غير المؤمِن، إذ إنّ الإنسان المؤمِن يَعلَم أنَّ الله قَدير وبالتّالي لا حاجة لَهُ إلى الأعاجيب. إنّ المؤمِن الّذي يَطلُب الأعاجيب هو قليلُ الإيمان. أعطى الربُّ الفرِّيسِيِّين هذه العلامة لأنّهم لم يؤمنوا بكلمته، حين قال للمخلَّع:"مَغفورةٌ لَكَ خطاياك".
" لك أقول: قُم واحمل سريرك واذهب إلى بَيتِكَ" (مر 2: 11). إنَّ هذا السَّرير هو الّذي كان يَحمِل المخلَّع حين كان هذا الأخير مَريضًا، أمّا بعد حصوله على الشِّفاء، أصبَح المخلَّع هو الّذي يَحمِلُ السَّرير. في الكثير من الأوقات، نَحملُ همومَنا الّتي تُخلِّعنا، ونَضعها أمام الربِّ. إنّ الربّ يَقلُب المقاييس، إذ يُدخِل نعمتَه إلى القلوب بكافّة الطُرق.
ونحن اليوم، في جماعة "أذكرني في ملكوتك"، نَطرَح السُّؤال: كَم من الأبواب قرعها الربُّ علينا، في وقت المرض أو الموت؟ كَم من الأحيان، شَعر البعض مِنّا إثرَ فقدانه لِعَزيزٍ بالموت، بأنّ العالَم قد انتهى بَالنِّسبة إليه؟ كم مِن الأحيان، شَعرنا بأنَّ الربَّ ظالمٌ؟ كَم مِن الأحيان، شَعرنا بأنَّ لا نَفع لِصلاتنا؟ كَم مِن الأحيان، شَعرنا بأنّه يجب علينا الابتعاد عن الله؟ ولكن، كَم مِنَ الأشخاص تَعَرَّفوا على الله، من خلال فقدانهم لأحبّائهم بالموت، أو من خلال الصّلاة، فأدرَكوا معنى حياتهم. كان السَّرير يَحمل المخلَّع في مَرضِه، ولكن بعد لقاء المخلَّع بِيَسوع، أصبح المخلَّع يحمل سريره، وهذه هي قوَّة الصّلاة. هذا ما يفعله لقاؤنا مع الربّ، إذ يُغيِّر المقاييس.
"حمل المخَّلع سريره، وخرج أمام الجميع.فاندهش الجميع ومَجدَّوا الله قائلِين: "ما رأينا مِثل هذا قَطّ" (مر2: 12). إنّ الّذين دُهشوا عند رؤية المخلَّع يحمل سريره، سَبَّحوا الله. نحن نعيش في عالَم الرُّوتِين، بسبب الحَجْر في الـمَنزل، وقد فَقدْنا كلَّ حِسٍّ بالدَّهشة. كان مار شربل يعيش داخل غرفةٍ من أربعة حيطان، وكذلك القدِّيسة تريزيا، وهما لم يكن لديهما لا تلفزيون ولا انْتِرْنَت ولا أيّة وسيلةَ تواصلٍ إجتماعيّ، وما ضَجِرا، ذلك لأنَّهما ما خرجا إلى العالَم الخارجيّ، بل دَخلا إلى أعماق نفسَيهما. إنَّ الإنسان الّذي يجلس مع ذاته ويسمع دقَّات قلبه، يَختَبر حضور الله، وسَيشعُر أنَّ كلَّ لحظة من حياته هي لَحظةٌ جديدة. ولكنَّ الإنسان غير المرتاح مع نفسه، فَسَيجلِسُ أمام التِّلفزيون، ويُقلِّب محطَّات التِّلفاز من دون أن يَجد ما يُعجبه، فينتهي به الأمر إلى الضَّجر. عندما يجلس الإنسان مع ذاته، يَجد أنَّ الله هو راحته، وراحة الربّ لا تعني تدليل الإنسان ولا هي مُخدِّر له أو وَهْم، إنّما هي اختِبار؛ وهذا الاختبار يُشبه يَد الطَّبيب الّتي تمتَّد إلى مكان ألم الـمَريض، لإعطاء العلاج المناسب وحصول المريض على الشِّفاء. لذلك نحن مدعوون على مِثال المخلَّع لأنْ نَضَع أمراضَنا وأوجاعَنا أمام الربَّ لِنَنال الشِّفاء المناسِب لحياتنا.
أتمَّنى لنا جميعًا، نحن المشارِكون في هذه الرِّياضة، أن تكون هذه الرِّياضة الرُّوحيّة انطلاقةً جديدة لنا، فنتمكَّن مِن تَخطِّي كلّ العوائق، فنتخطَّى الوباء والحجر الـمَنزليّ، من خلال وسائل التَّواصل الاجتماعيّ الموجودة بين أيدينا، للاستفادة من كلمة الله. ها نحن نرمي اليوم في هذه الرِّياضة الرُّوحيَّة، الحَبَّ، والربُّ هو الّذي يُنمِّيها في قلوبنا. نحن شارَكنا في هذه الرِّياضة والباقي متروكٌ لله.
في هذه الذبيحة الإلهيّة، ستتحوَّل القربانة إلى جسد المسيح؛ ولكن أنتم الموجودون في منازلكم، تخالج قلوبكم الرَّغبة والشَّوق إلى لقاء الربّ في القربانة. إنّ الله وحده يعرف رغبتكم وشَوقِكم له، لذلك ستكون هناك صلاة المناولة بالشَّوق. في سرّ المعموديّة، هناك أيضًا ما يُسمَّى معموديّة الشَّوق. فلنَطلب إلى الربّ أن يَملأ رَغباتِ قلوبِنا بحسب مَشيئته. ونصلِّي في هذه الذبيحة، على نِواياكم جميعًا، كي يُعطيكم الربّ ويُعطينا النِّعمة كي نبقى مُجتَمعين باسْمِه. له المجد إلى الأبد. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت مِن قِبَلِنا بِتَصرُّف. تتمة...
15/3/2020 أحد الابن الشاطر لو 15: 11-32 أقوم وأمضي إلى أبي، لو 15: 18
https://www.youtube.com/watch?v=82Chl2JqWus&t=31s

تأمّل في أحد الابن الشاطر لو 15: 11-32
للخوري جوزف سلوم
في الرياضة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة البشارة للرّاهبات الباسيليّات الشويريّات
زوق مكايل

15/3/2020

أحبّائي، الله معكم،
إنَّ حديثنا اليوم هو مِن وحي إنجيل مَثَل الابن الشَّاطر، الّذي يمكن أن نُعطيه عناوين أخرى، على سبيل الـمِثال: "الابْنَان"، أو "محبَّة الآب" (لو 15: 11- 32).
في مقدَّمة حَديثِنا، أودُّ أن أتكلَّم عن إطار هذا النَّصّ. في بداية النّص، نلاحظ أنَّ الربَّ قد دخل إلى بيتِ إنسانٍ خاطئ، وقد أكَلَ معه. وقد تذمَّر الكتبَة والفريسيِّون مِن موقف يسوع، فقاموا بِمُجادلَته. إنَّ الربَّ يسوع هو مُربٍّ، فَهو يستخدم طُرقًا مختلفة في كلِّ مرَّة للتَّواصل مع الآخَرين، ليَربح الجميع. ونلاحظ هذه المرَّة أنَّ الربَّ يسوع لم يُجادِل الكَتَبة والفريسيِّين، بل أعطى ثلاثة أمثلة تَمكَّن من خلالها الإجابة عن تَذَمُّرِهم واعتراضِهم على دُخولِه، إلى بيوت الخطأة ومخالَطَتهم. إنَّ الربَّ يسوع كان، بالنِّسبة للكَتبة والفريِّسيين، نَبيًّا.

إنَّ أوَّل هذه الأمثلة الثَّلاثة: هو مَثَل الخروف الضَّال، وفيه يُخبرنا الإنجيليّ أنَّ الرَّاعي قد ترَك تسعة وتسعين خروفًا ليَبحثَ عن الخروف الضَّال، وقد فَرِح عندما وَجَده، ويقول لنا الربُّ في نهاية هذا الـمَثل: "هكذا يكون الفرحُ في السَّماء بِخاطئٍ واحِدٍ يَتوبُ أكثر من الفرح بتِسعةٍ وتِسعينٍ من الأبرارِ لا يَحتاجونَ إلى التَّوبة"(لوقا 15: 7).
أمَّا الـمَثَلُ الثّاني فهو عن المرأة الفِلَسطِينيِّة الّتي حَصَلت على هديّة من والِدها وهي عبارة عن عَشرة دراهم وقد أضاعت إحداها، فقامت وأشعلت السِّراج وكَنَّست البيت بحثًا عن دِرهمِها المفقود، إلى أنْ وَجَدته، ففرِحت به. كذلك تفرح السَّماء بكلِّ شخصٍ يتوب، إذ إنَّ الربَّ يكون في انتظار عودته عن طريقه الضَّال، ليُظهِرَ للتّائب رحمته وحنانه وحُبّه له.

أمَّا الـمَثل الثَّالث والأخير فَهو مَثل الابن الشَّاطِر. إنَّ هذا الـمَثل الّذي نقرأه في إنجيل لوقا 15، يُعطي جوابًا لِكلٍّ مِنَّا، إذ يُخبرنا أنَّ الله الآب ينتظِر الجَميع، ممّا يدفعنا إلى العودة إلى بيت الآب الّذي ينتظرنا.
وفي هذا الإطار، أودُّ أن أعطي عنوانًا جديدًا لهذا النَّصّ، مختلفًا بعض الشَّيء، هو: "عودوا إلى البيت". في الظّروف الّتي كُنّا نعيش فيها، كُنَّا نعيش "هَرولة"، إذ كُنَّا نسعى وراء أمورٍ كثيرة، ولم نكن نملك الوقتَ سابقًا لإنهائها. نحن أخطأنا تجاه بيتنا الوالِديّ: إذ إنَّ البَعضَ منَّا خرج من البيت وقرَّر عدم العودة إليه مُجدَّدًا، والبعض الآخَر يقف أمام باب البيت رافضًا الدّخول إليه مُجدَّدًا؛ بمعنى آخر، هناك أُناسٌ يعيشون اللّامبالاة والغُربة، وآخَرون يرفضون الدُّخول إلى البيت وعَيْش الشَّراكة مع الآخَرين الّذين يعيشون في داخل هذا البيت.

بدايةً، سأتطرَّق في حديثي إلى تصرُّفات الابن الأصغر: إنَّ خَطأه الكبير يكمن في تقسيمه الميراث، وبالتّالي تَصرَّفَ بعكس المنطق الـمُعاصِر ليسوع المسيح، إذ لا يحقُّ للابن المطالبة بالميراث طالما أنَّ الوالد لا يزالُ على قيد الحياة. وهذا التصرُّف يختبره كلُّ إنسانٍ في الحياة عندما يسعى إلى إلغاء صورة الآب رافضًا الخضوع لسُلطته والخضوع للشَّريعة، فيعيش حياته وكأنَّ الله الآب غير موجود، وكأنّ الله لا علاقةَ له بتاريخ البشريّة وبالأخصّ بحياة الإنسان الخاصّة. إنَّ الابن الأصغر عاش في الغُربة، إذ ترَك بيت أبيه، وأَنفق كلَّ شيء. إنَّ هذا البيت يرمز إلى بيت الآب السَّماويّ. عندما نخرج من هذا البيت، نتعرَّى ونفتقر ونخسر هذا الجوَّ الموجود في هذا البيت. عندما يفتقر الإنسان، فإنَّه يُسبِّب افتقارًا للمحيط الّذي يعيش فيه، بدليل أنَّ المنطقة كلَّها، الّتي عاش فيها الابن الأصغر، عانَتْ من الفقر والمجاعة. إذًا، أنا لا أختبر الشَّر وَحدي، بل أصبح لبنان كُلُّه والعالم بأسرِه يَختَبِر الشَّر، لذا يعيش في حالةٍ من الخوف والقلق. إنَّ هذا الخوف وهذا القَلق وهذا الجوع من شأنها أن تُذكِّرنا أنَّنا ابتعدنا عن البيت الوالِدي. إخوتي، لا نسمحنَّ فقط للخوف والقلق أن يُعيدانا إلى البيت الوالِديّ، بل لِيَكُن الحُبّ والشَّوق والحَنين إلى الله الآب، هي ما يُعيدُنا إلى البيت الوالِدي. وهنا، تَظهر ضرورة صِناعة قرارنا من خلال العودة إلى نَفوسِنا، فالجلوس في البيت في هذه الفترة يساعدنا على ذلك، لِنَتصالح مع هذا الآب الّذي ينتظِرنا "ويَرانا مِن بعيد" عند عودتنا من السَّفر البَعيد. وهنا، نلاحظ أنَّ الله الآب لا مكانَ "بَعيدٍ" بالنِّسبة له، فمَهما ابتعدنا يبقى بانتظار عودتنا إليه. إنَّ موقف الآب هذا يدعونا إلى التَّفكير، وطَرحِ السُّؤال على ذواتِنا: هل نحن على مِثال الابن الأصغر، أخذنا كلَّ الغنى من البيت الوالِديّ، بما في ذلك المواهب، وبدَّدناه بعيدًا عن هذا البيت؟

والآن، ننتقل للكلام عن موقف الابن الأكبر: فهذا الابن الأكبر قد رَفَضَ الأُخّوة، تلك الأُخوَّة المجروحة. وهنا، نطرح السُّؤال على ذواتنا: كَم مِن المرَّات رفضنا بعضُنا البعض؟ في هذا الـمَثل، نلاحظ أنَّ الأب استقبل الابن الأصغر وذَبَح له العِجل الـمُسمَّن، وأرجع له الاستقلاليّة، تلك الحريّة الَّتي أساء استعمالها، وألبَسَه الحذاء، وأعاده للعَهد من خلال إلباسِه من جديد الخاتم في يدِه، وأَلبَسَه رداءً جديدًا، فنحن مع المسيح خليقة جديدة. ونلاحظ من جهة أخرى، موقف الابن الأكبر الّذي اتَّسم برفضِه الدُّخول إلى البيت، وقد تجسَّد رفضُه بقَولِه لأبيه: "ابنُكَ هذا"(لو 15: 30)، بدلاً من استعماله كلمة "أخي هذا". إنَّ النَّص لا يُخبرنا إنْ كان هذا الابن الأكبر عاد ودخل إلى البيت. إنَّ الابن الأكبر يرمز إلى كلِّ واحدٍ منَّا، وبالتَّالي القرار يعود لنا بالدُّخول إلى البيت مُجدّدًا والقبول بأُخوِّتِنا. ومن هنا، فالمطلوب منّا هو العودة إلى البيت. إنَّ الآب هو في خروجٍ دائم: فهو قد خرج لملاقاة ابنه الأصغر فاستقبله وقبَّله طويلاً؛ كما خرج من أجل الابن الأكبر، لِدَعوته إلى الدُّخول إلى البيت، فرغبة الآب تكمن في دُخول الجميع إلى البيت، لذا قال الآب للابن الأكبر:"أخوك هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالّاً فوُجِد"(لو 15: 32).
أمّا الآن، فننتقل إلى الكلام عن الخادم، الّذي أخبَر الابن الأكبر بما حدَث، فأخبره أنَّ أباه قد ذَبَح العِجل الـمُسمَن لأنَّه لَقِي أخاه الأصغر سالِمًا. وهنا أريد أن أتوقَّف عند هذه العبارة "لأنّه لقِيَه سالِمًا". واليوم، أتمَّنى بعد هذا الاختبار الّذي نعيشه من جلوسٍ في المنزل، أن ألقاكم جميعًا سالِمين، لذا انتبهوا على ذواتكم، كي نتمكَّن من الاشتراك مجددًّا معًا في الافخارستِّيا ونستعيد حياتنا، وهذا ما سيُفرِّحنا، فالعِجل الـمُسمَّن هو علامة فَرحٍ، فهذه المرحلة ليست دائمة بل عابرة. لكن من ناحية أخرى، أتمنّى أن ألقاكم سالِمين، تعني أن ألقاكم وقلوبكم نقيّة من دون خطيئة، كي نستحقّ هذا العِجل الـمُسمَّن، هذه الافخارستّيا، هذا الحمل المذبوح من أجلِنا من أجل خلاصِنا.

أدعوكم أحبّائي، كي يُفكِّر كلُّ واحدٍ منّا انطلاقًا من هذا الإنجيل، ماذا يريد الربُّ أن يقول له، وما هي الكلمة الّتي لَمِستَ قلبه، وأن يُعطي في ضوئها اختباره الرُّوحيّ.كما أتمنَّى أن نتشارك مع بعضنا البعض في هذا الاختبار الرُّوحيّ، فنُغني بعضنا البعض.
ملاحظة: دُوِّنت مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
15/3/2020 توبة زكا العشار، لو 19: 1-10 اليومَ حَصَلَ خلاصٌ لهذا البَيْت...لو 19: 9
https://www.youtube.com/watch?v=x_rwMzOiNig&list=PLTn_37ZC7JyGCYDymQyBqPIy_tJb4QZKr&index=3&t=49s

اليومَ حَصَلَ خلاصٌ لهذا البَيْت...لو 19: 9
للأباتي سمعان أبو عبدو
في الرياضة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة البشارة للرّاهبات الباسيليّات الشويريّات
زوق مكايل

15/3/2020

الله معكم إخوتي الأحبّاء،
يُشرِّفني أن أتكلَّم معكم اليوم، ونتأمَّل معًا في إنجيل القدِّيس لوقا (19: 1- 10)، الّذي يُخبرنا عن لقاء زكّا بالربِّ يسوع المسح.
يرتكز هذا النَّص الإنجيليّ على آيَتَيْن أساسيَّتَيْن: "اليوم صار الخلاص لهذا البيت"، و"فابنُ الإنسان جاء ليبحث عن الهالِكين ويُخلِّصهم" (لو 19: 10). إنَّ الإنسان يبحث دائمًا عن الفرح في حياته الأرضيّة. وهنا نَطرحُ الأسئلة التّالية: ما هي رغبتي الّتي تمنحني الفرح؟ كيف أعبِّر عنها وكيف تظهر هذه الرَّغبة في حياتي؟ بمعنىً آخر: ماذا نريد فِعلاً في حياتنا؟ أين نذهب حتَّى نتمكَّن من عَيْش الفرح في حياتنا؟
في مَثل زكَّا، نلاحظ أنَّ زكَّا كان رَجلاً غنيًّا احتلَّ مركزًا اجتماعيًّا مرموقًا في المجتمع، وَجَد مُتعته في جَمعِ المال، وخَلَقَ لِنَفسِه عالَمًا يَغيبُ عنه حضور الآخر، إذ اعتبر أنَّ المالَ هو هدفُ حياته ومصدرُ ثباتِه الإنسانيّ. بالمال، اعتقد زكَّا أنّه أصبح سيِّد نفسِه وأنّه يستطيع الوصول إلى الفرح والسَّعادة والهناء. بالمال، اشترى زكَّا كلَّ الأشياء المرتبطة بالسَّعادة كالطَّعام والشَّراب والمنزل الفَخِم، فعاش سعيدًا ولكن وَحيدًا. في قلب كلٍّ مِنَّا، اشتياقٌ لِصورة الـمُتعة: فَمِن النَّاحية الإيجابيّة، تمنحنا المتعة نَوعًا مِنَ التفوُّق في نَظرَتِنا للآخَرين من خلال ممتلكاتنا؛ ولكنْ في الوقت نفسه، ترفع المتعة في الكثير من الأحيان أنواعًا من الجُدران: بينَنا وبين الآخَرين، وبَينَنا وبين ذواتِنا. تحمل المتعة بِمَنطقِها ديناميكيّةً قويّة جدًّا، قُدرةً ذاتيّةً لا تتوقَّف أبدًا، إذ ما إن يصل الإنسان إلى متعته حتّى يسعى إلى طَلِب مُتعةٍ أخرى تمنحه الفرح، فعلى سبيل المِثال: الدِّعايات على التِّلفاز تدعونا دائمًا إلى طلب المزيد، إذ تَعرِضُ أمورًا تمنحنا، حسب قولها، مزيدًا من المتعة والفرح والرِّبح، أي إلى الحصول على ما هو أكثر.

وهنا نطرح السُّؤال: أين هي "كلمة الحياة" في حياتنا؟ إنَّ ما يُفرِّح القلب هو لقاء الإنسان بالآخَر. إنَّ كلمة الحياة هي غاية الإنسان: رغم كلّ شيء، المتعة تُبقي قلبَ الإنسان فارغًا. إنَّ كلمة الحياة الّتي اكتشفها زكَّا من خلال شخص يسوع المسيح يُناديه، دَفعته إلى تخطي الوضع الاجتماعيّ بعدما عرَف المسيح، فأصبح كلَّ همِّ زكَّا أن يرى الربَّ يسوع. تحرَّر زكَّا من دائرة الـمتعة الخانقة القائمة على شعوره بالرَّاحة لامتلاكه المال، فاستعاد نضارته وصار كالطِّفل، إذ تسلَّق الجميَّزة ليتمكَّن من رؤية الربِّ يسوع. انطلق زكَّا بفرح نحو الولادة الجديدة، غير آبهٍ لصورته الاجتماعيّة ولا لِكلام النَّاس عنه، وكأنَّ الأمور قد خرجت عن سيطرته، فلم يعد يهتمّ إلّا لِتَسلُّقه الجميَّزة ليرى يسوع. ولكنْ في الوقت ذاته، شعر زكَّا أنَّ المسيح يبحث عنه برحمته، وأنَّه يبحث عن كلِّ واحدٍ منّا من أجل خلاص كلِّ إنسان. يسوع يريد أن يتسلَّق كُلٌّ منّا الشَّجرة لَنتمكَّن من رؤيته، وهو سيهتمّ بالباقي. إنَّ الربَّ يسوع يريدنا أن ننزع عنَّا كلَّ قناع، فَنُصبح كالأطفال، وندعوه فيُفَجِّر فينا صرخة الحياة، في أعماق كلِّ قلبٍ متحجِّر ويحوِّله إلى قلبٍ من لَحمٍ.

والآن ننتقل إلى الكلام عن الآية التَّالية: "ابنُ الإنسان جاء ليبحث عن الهالِكين ويُخلِّصهم"(لو 19: 10). إنّ الهالِكين هُم الّذين ابتعدوا عن محبَّة يسوع. ومن خلال هذه الآية، نكتشف أنّ الله يبحث عنّا، وهذا ما يدفعنا للفَرح، على مِثال زكَّا. فكما شعر زكَّا بالفرح عندما ناداه الربُّ قائلاً له: "إِنزل سريعًا يا زكَّا، لأنِّي سأُقيمُ اليومَ في بيتِكَ"(لو 19: 5)، كذلك نحن أيضًا نشعر بأنّ الربَّ لن يَتركَنا أبدًا، إذ إنَّنا محبوبون منه، على الرُّغم من ضُعفِنا البشريّ. وهنا سرّ اللِّقاء مع يسوع المسيح: إذ نشعر إخوتي، أنّنا قريبون مِن شخص زكّا، فنتخلَّص من كلّ ما يدفعنا إلى اليأس. من خلال توبَتِنا، نلاحظ أنَّ الربَّ يسوع يُشرق علينا ويجعلنا قريبين منه ومن ذواتِنا. إنَّ رؤيتنا ليسوع تبدأ عند ارتكابنا الخطيئة، فتنقلِب حياتنا إلى حياة جديدة نتيجة رؤيتنا له، بدليل ما حدثَ مع زكَّا عند لقائه بالربّ، إذ قررَّ أن يُعطي نِصف أمواله للفقراء. عند رؤيته للربّ، تحوَّل قلب زكَّا، وقد أثنى الربُّ على ما قام به زكّا إذ قال الربُّ، بعد اتِّخاذ زكَّا القرار بتوزيع نصف أمواله على الفقراء: "اليوم حصل الخلاص لهذا البيت" (لوقا 19: 9). إنَّ النّاس يَحكُمون على الـمَظاهر، لا على القلوب. لقد حكم النَّاس على يسوع واعتبروه خاطِئًا على مِثال زكَّا، لأنّه دَخَل إلى بيتِ هذا الأخير. لم يهتمّ يسوع وزكَّا بالدِّفاع عن ذواتهما أمام النَّاس، ولم يسعيا إلى شرح موقِفهما: فزكَّا قد تحرَّر على مِثال يسوع من نظرة النَّاس إليه، إذ عرف زكَّا مع الربِّ يسوع طَعم الحياة وطعمَ الفَرح. عند لقاء زكَّا بالربّ، اكتشف الفرح الحقيقيّ، فلم يعد المال سببًا لِفَرحِه، بل أصبح المال فقط وسيلةً للمشاركة مع الآخَرين وتوسيع الآفاق. أصبح المال، "واسطة في سبيل الفرح"، ويُعلِن زكَّا بِغَمرة فرَحِه أنَّه يُوزِّع نِصف أمواله على الفقراء، وأنَّه إذا كان قد ظلم أحدًا في حياته، فإنّه مستعدٌّ أن يردَّ له مالَه أربعة أضعاف. عندها قال يسوع: "اليوم حصل الخلاص لهذا البيت". إنَّ المسيح يسوع هو الوسيط بين الإنسان مع نفسِه، وبين الإنسان والآخَر.

يسوع نادى زكَّا قائلاً له: "اليوم، سأُقيم في بيتك". إقامةُ الربِّ في بيت زكّا كانت نعمة ذلك اللقاء، وأدَّى إلى تغيير زكّا. إنّ كُلَّ لقاء مع المسيح يبدأ من تعبير الإنسان عن رغبته في لقاء الربِّ، والربُّ يهتمُّ بالباقي. إنَّ اللِّقاء مع المسيح يُغيِّرنا، إذ يكفي أن نقول للربّ: "ارحمني، يا ربّي يسوع، أنا الخاطئ". إنَّ الخطيئة تقود الإنسان إلى التّوبة وهذه الأخيرة تقود إلى المصالحة، فيتمكَّن الإنسان من الوصول إلى المحبة والغفران وصُنعِ السّلام في قلبه وفي قلوب الآخَرين، نتيجة لقائنا مع المسيح. بارككم الله.

ملاحظة: دُوِّن التأمُّل مِن قِبَلِنا بتَصرُّف. تتمة...
15/3/2020 إنجيل متى 14: 22-33 يا قليل الإيمان، لماذا شكَكْتَ؟ مت 31:14
https://www.youtube.com/watch?v=wsEeFflvIRk&list=PLTn_37ZC7JyGCYDymQyBqPIy_tJb4QZKr

تأمُّل في إنجيل متى 14: 22-33
للأب ميشال عبُّود الكرملي
في الرياضة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير سيّدة البشارة للرّاهبات الباسيليّات الشويريّات
زوق مكايل

15/3/2020

"وأمرَ يسوع تلاميذه أن يركبوا القارب في الحال، ويَسبِقوه إلى الشاطئ المقابل حتّى يصرف الجموع. ولـمَّا صرفهم، صَعِد إلى الجبل ليُصلِّي في العزلة، وكان وحده هناك عندما جاء المساء. وأمَّا القارب، فابتعد كثيرًا عن الشاطئ، وطَغَت الأمواج عليه، لأنَّ الرِّيح كانت مخالِفة له. وقَبْلَ الفجر، جاء يسوع إلى تلاميذه، ماشيًا على البَحر. فلمّا رآه التَّلاميذ ماشيًا على البحر، ارتَعبوا وقالوا: هذا شبح، وصَرخوا من شِدَّة الخوف. فقال لهم يسوع في الحال: تشجَّعوا، أنا هو، لا تخافوا. فقال له بُطرس: إنْ كُنتَ أنتَ هو يا ربّ، فَمُرني أن أجيءَ إليكَ على الماء. فأجابه يسوع: تعال. فَنَزل بطرس من القارب، ومشى على الماء نحو يسوع، ولكنّه خاف عندما رأى الرِّيح شديدة، فأخذ يَغرق. فصرخ: "نجِّني يا ربّ". فمَدَّ يسوع يَدَه في الحال، وأمسَكه وقال له: يا قليل الإيمان، لماذا شكَّكت؟ ولـمّا صَعِدا إلى القارب، هَدَأت الرِّيح. فسَجد له الّذين كانوا في القارب. وقالوا: في الحقيقة، أنت ابنُ الله" (متّى 14: 22- 33).

في هذا الإنجيل، نرى عدَّة رُموز، تُعبِّر عن عدَّة حقائق؛ ولكنَّ الحقيقة الأُولى، هي تلك التّي انتهى بها النَّص: "في الحقيقة، أنت هو ابنُ الله". إنَّ الربَّ يسوع قد أمرَ التَّلاميذ بأن يركبوا القارب؛ وهذه الجماعة الصَّغيرة الموجودة داخل القارب، تُمثِّل الكنيسة. طلب الربُّ يسوع من تلاميذه أن يَسبِقوه إلى الشاطئ المقابل، أي إلى الجهة الوَثنيّة.
صَعد يسوع إلى الجبل كي يُصلِّي في العُزلة: على الجبل صلَّى يسوع، وعلى الجَبل أعطى العِظة، وعلى الجبل تجلَّى، وعلى الجبل مات. تمامًا كما صَعِد موسى إلى الجبل ليلتقي بالربّ، وأخذ منه الوصايا، وايليّا النبيّ صِعد إلى جبل حوريب لِيَعيش حضور الله. إذًا، مَن يريد أن يلتقي بالربّ، عليه أن يخرج من ذاته، وأن يقوم بِجُهدٍ، وأن يتخّذ قرارًا، فَيَكون اللِّقاء مع الربِّ.
وكان هناك وحده عندما جاء المساء: "المساء" عبارةٌ تُعبِّر عن ليل الإنسان، عن ظلمة الإنسان. وإنَّما في الظلمة، هناك كلمةُ الله الّتي تُضيء طريقَنا، وهذا ما قاله صاحب المزمور: "كلامُكَ مِصباحٌ لِخُطايَ".
إنَّ القارب قد ابتعد عن الشَّاطئ: إنَّ الكنيسة تمشي في قلب هذا العالم. ويقول لنا الإنجيل: إنَّ الرِّيح كانت مُخالِفة للقارب. وهذا يشير إلى أنَّ مسيرة الكنيسة في قلب العالم، سَتُواجِه تيّارات فِكريّة عِلمانيّة مُلحِدة، ساعيةً إلى إغراقِها فيها. غير أنَّ الكنيسة تُدرِك أنَّ إلهها، يسوع المسيح حاضرٌ فيها، لأنّ الكنيسة هي جسد المسيح السِريّ. إنَّ الكنيسة تَغوص في قلب البحر، والربُّ صَلَّى من أجلها؛ وهذا ما قاله الربُّ لبُطرس، في ليلة آلام الربِّ: "صلَّيتُ لَكَ لئلّا تفقِد إيمانك".
جاء يسوع ماشيًا على الماء، فخاف التَّلاميذ وظنُّوا أنَّه خيال: هذا ما يختبره الإنسان، إذ يتعرَّض في حياته لأزمةٍ روحيّة، يعتقد خلالها أنَّ كلَّ ما يسمعه عن الله هو خيالٌ ولا يَمُتُّ إلى الواقع بِصِلة. وهذه الأزمة لا يستطيع الإنسان أن يتجاوزها إلّا إذا كان قَبْل تلك الأزمة، في معيّة الربّ. حين صرخ التَّلاميذ، قال لهم الربُّ: "تشجَّعوا، أنا هو، لا تخافوا"، أي أنَّه لم يَقُل لهم إنَّه يسوع بن يوسف النَّجار، أو ابن مريم، أي أنّه لم يُعطِهم تفسيرات كثيرة عن هويّته البشريّة، بل اكتفى بالقول لهم: "أنا هو"، فَتَمكنَّوا مِن معرفته لأنّهم سِمعوا صوته، قَبْل تلك الأزمة الّـتي تعرَّضوا لها. وبالتَّالي، لكي يتمكَّن انسان من اجتياز أيّةِ أزمةٍ يتعرَّض لها في حياته، عليه أن يكون قد اعتاد على سماع صوت الربّ سابقًا، ليتمكَّن من معرفة ذلك الصَّوت عند تعرُّضِه للأزمة. لذلك، نحن لدينا كلّ الإيمان وكلّ الوقت للجلوس مع الربّ، لِنُسلِّمه كلّ خطايانا وضُعفِنا البشريّ، ونسلِّمه كلَّ شكِّنا، فنتمكَّن من سماع صوته يقول لنا: "تشجَّعوا، أنا هُوَ، لا تخافوا"؛ تمامًا كما قِيلَ للأعمى:"تشجَّع، قُم إنَّه يَدعوك". إذًا، كلُّ واحدٍ منّا يُعاني من خوفٍ مُعيَّن، وخاصَّةً خوف من الخطيئة، ولكن عليه ألا يبقى مُتَمسِّكًا بها. فالقداسة لا تكون بالابتعاد عن الخطيئة فقط، إنّما في التعلُّق بيسوع. "تَقوّوا إنِّي غَلبْتُ العالم"، هذه الكلمة علينا أن نسمَعَها دائمًا أبدًا، في كلِّ مرَّةٍ أتعرَّض فيها لأزمةٍ، وفي كلَّ مرَّةٍ يتوجَّب عليّ المواجهة، وفي كلِّ مرَّة أواجهُ مُستَقبلاً مَجهولاً، وفي كلِّ مرَّةٍ أقع فيها في الخطيئة، ولا أنجح في تَخطِّيها، عليَّ أن أسمع صوت الربِّ، يقول لي: "أنا هُوَ، لا تخافوا". عليّ أن أنظر في عينيّ الربَّ، من دون خوف.

قال بُطرُس ليسوع: "إنْ كُنتَ أنتَ هو، فَمُرني أن آتي إليك"؛ فأجابه يسوع: "تَعال". إنَّ كلمة الله كفيلةٌ بأن تجعلنا نقترب منه. سار بطرس نحو الربّ، مِن دون أن يقوم باستعراضٍ، ولكنَّه خاف عندما رأى شِدَّة الرِّيح، لذا أخذ يَغرق. يقول لنا القدِّيس بادري بيو: "الخوف هو شرّ، أَشَدّ من الشَّرِ نفسه". لذلك على الإنسان أن يسمع صوت الربَّ، يقول له دائمًا: "لا تَخَفْ"، حتّى في عُمق الغرق. ويقول لنا الإنجيل إنَّ بطرس قد صرخ قائلاً: "نَجِّني يا ربّ". إنَّ صلاة الاستغائة هذه، الّتي أطلقها بطرس: "نَجّني يا ربّ، إليكَ أصرخ"، تدلُّ على إيمانه بأنَّ لدى الربِّ القوَّة، وأنّه إلهه، وأنَّ الربَّ هو مَصدر الحياة. عندها نُدرِك معنى "الله يُخلِّص"، أنَّه يسوع المسيح.
فمَدَّ يسوع يَده في الحال، وأمسَكه وقال له: يا قليل الإيمان، لماذا شكَكت؟: إنَّ الله يمدُّ لنا يَده في كلِّ مرَّة نصرخ إليه، فَهو لا يريدنا أن نغرق، غير أنَّ خوفَنا هو الّذي يدفعنا إلى الغرق. وبالتَّالي، علينا أن نكون على الدَّوام بِقُرب الربِّ، حتَّى عند ارتكابِنا الخطيئة، فنتمكَّن من رؤية يَد الله الممدودة لنا، والّذي يقول لنا: لماذا شكَكت؟ إنَّ هذا الشَّك لا يسمح للإيمان بأن يكون مُعاشًا في حياة الإنسان، لأنَّ الإيمان يمنعنا من الغرق أمام الصُّعوبات وأمام الاضطهادات. "نجِّنا يا ربّ"، هي صلاة الكنيسة الأولى، دائمًا أبدًا.

ولـمّا صَعِدَ إلى القارب، هدأت الرِّيح: إنَّ حضور الله في حياتنا يزيل كلّ اضطراب، وكلّ قلقٍ في قلوبنا. إنَّ أمواج البحر هي على سَطحه، إنَّما في عمق البحر هناك هدوءٌ وسلام. فعلى الرُّغم من الأمواج والصعوبات والمشاكل الّتي تعترض حياتنا اليوميّة، الاجتماعيّة والعائليّة والوظيفيّة، سنكتشف سلام الله ومحبَّته لنا، عندما نجلس مع ذواتنا، وحين نكتشف خطايانا، علينا أن نقدِّمها له.
سجدوا له الّذين كانوا على القارب وقالوا له: "أنتَ في الحقيقة ابنُ الله": هذه صرخةُ قائدِ المئة عند أقدام الصَّليب. إنَّ قائد المئة صلب يسوع ولكنَّه عندما رأى غفرانه لصالبيه، وكيف انشقَّ حجاب الهيكل، وكلّ ما حَدَث وقت الصَّلب، وعندما سَمِع الربَّ يُسلِم رُوحَه لأبيه قائلًا: "بين يَديكَ استودِعُ روحي"، عندها قال قائد المئة: "كان هذا في الحقيقة، ابنُ الله". هذه صرختُنا، وهذا إيماننا على الدَّوام: فنحن نؤمن بشخصٍ اسمه يسوع المسيح، لذلك قال لنا القدِّيس بولس: "أنا عارفٌ بِمَن آمَنت" (2تم 12:1).

ملاحظة: دُوِّن التأمّل مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
15/3/2020 برنامج الرياضة الروحيّة السنويّة "أَقومُ وأَمْضِي إلى أبي..." (لو 15: 18).
يَسِرّ جماعة "أذكرني في ملكوتك" دعوة كلّ الإخوة للمشاركة في الرياضة الروحيّة السنويّة وفق البرنامج التّالي:

الأحد 15/3/ 2020
دير سيّدة البشارة للرّاهبات الباسيليّات الشويريّات – زوق مكايل

9:00 الوصول
9:30 القدّاس الإلهيّ
10:45 وقتٌ حرّ
11:15 الموضوع: "فقالَ له يسوع: اليومَ حَصَلَ خلاصٌ لهذا البَيْت..."(لو 19: 9).
مع الأباتي سمعان أبو عبدو – أسئلة وحوار
12:45 الغداء
14:15 الموضوع: "نشأة الصّوم وتطوّره ومَعانيه"
مع الأب ابراهيم سعد-أسئلة وحوار
15:45 "رتبة توبة وسجود" مع الأب ميشال عبود الكرملي
17:15 الختام



للمشاركة يرجى الاتّصال قبل السّبت 7 آذار 2020
بأحد مسؤولي الجماعة في الرعايا أو بالأرقام التالية: 03 147157 - 03702998 تتمة...
31/3/2019 "أمّا أنا فرجائي مَنُوطٌ بالسَّماء على المؤمِن التّيقظ والسَّهر على علامات الأزمنة
https://www.youtube.com/watch?v=t40TWOk4hXI&t=1719s

"أمّا أنا فرجائي مَنُوطٌ بالسَّماء"
الخوري جوزف سلوم
في الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
في دير مار جرجس- بحردق

31/3/2019

في كلّ مرّة، نُصلِّي ونشارك في الصلوات مع الكنيسة جمعاء، نَطرح السؤال على ذواتنا: هل الوقت الّذي نُقدِّمه للربِّ كافٍ؟ ها نحن موجودون في هذه الرِّياضة الروحيّة، نقدِّم وَقتَنا للربّ، لنسمع ما يريد أن يقوله لنا، إذ تَركنا كلّ اِلْتزاماتنا وأَتَيْنا لسماع كلمته المقدَّسة. ولكنَّ الحقيقة هي أنّ الربّ هو الّذي يُقدِّم وَقته لنا، لأنَّه محتاجٌ أن يُخبرنا بمشيئته القدُّوسة لنا، من خلال كلمته لكلّ فَردٍ حاضرٍ ههنا.
إنَّ موضوعنا اليوم هو بِعنوان: "أمّا أنا فرَجائي منوطٌ بالسَّماء". إنَّ رجاءنا هو في السّاكن في الأعالي، غير أنّنا للأسف، في الكثير من الأحيان، نضع رجاءنا في الأمور الأرضيّة، غير القادرة على إعطائنا التعزية والرجاء.
حين يريد اصطياد فريسته، يقوم النَّسرُ بالإمساكِ بها على الأرض، ولكنّه يُقاتِلُها في السّماء، أي في المكان الـمُخصَّص له لا الـمُخصَّص لها، فيربح معركته معها، ويقتلها. كذلك نحن، فإنْ أقمنا معارِكنا في هذه الأرض، فإنّنا سنُصاب بخيبات الأمل واليأس، وسنتعرَّض للجروحات من الآخَرين، أمّا إنْ كان نظرُنا مشدودًا صوب السَّماء، فإنّنا سنَجِدُ الرَّاحةَ والسَّكينةَ الدَّاخليّة، على الرُّغم من بقاء الأوضاع والأزمات الَّتي نتعرَّض لها على ما هي عَلَيه.

إنّ موضوعنا اليوم، يُقسم على الشَّكل التّالي: أوّلاً، سنناقش الآية الكتابيّة عنوان موضوعنا، المأخودة من سِفر المكابيّين:"أمَّا أنا فرَجائي منوطٌ بالسَّماء" (سِفر المكابيِّين الثاني 9 : 20)،ثمّ سنناقش كلام مار بولس في رسالته إلى أهل رومة، القائل بأنّه ما مِن شيءٍ يستطيعُ أنْ يَفصِلَنا عن محبّة المسيح، لا شِدّة ولا ضيق، ثمّ سنناقش نصّ تلميذَي عمّاوس، وأخيرًا سنتطرَّق إلى واقعنا اليوم، وعلامات انعدام الرَّجاء وكيفيّة مواجهتها من خلال بعض الأمور العَمَليّة.

إنّ كلّ المعارك الّتي يقوم بها الإنسان واضعًا نَظره على الأمور الأرضية، لا بُدَّ لها من الفشل، ولكن حين يُصوِّب الإنسان نَظَرَه إلى السّماء، ويَضَع همومه أمام الربّ، فإنّ معاركِه ستكون رابحة، لأنّه وَضَع رجاءه في الربّ.
إنَّ العبارة "أمّا أنا فرجائي مَنوطٌ بالسّماء"، (المكابيين الثاني 9: 20) هي عبارةٌ مأخودة من سِفر المكابيّين الّذي يُخبرنا عن مرحلة ما قبل مجيء المسيح، ما بين 1700- 700 ق.م.، وهي تُعَدُّ مرحلةً مباشرةً تَحضيريّة لمجيء المسيح. يتكلَّم هذا السِّفر عن أنطوخيوس أبيفانوس الملك، الّذي كان يُسيء معاملة النّاس، إذ كان يعتَّدُ بكبريائه، ويعتقد أنّه قادرٌ على كلّ شيء، من خلال مهاراته وقدراته، ولا حاجة به إلى أحد. ولكن هذا الشَّخص المتكبِّر قد هزمه المرَض، إذ تآكله الدُّود، وكان يشعر بأنّه مَيِّت على الرُّغم من بقائه في هذه الحياة. لقد أُصيبَ بهذا الـمَرض بسبب إحزانه للآخَرين وإتعابه أحشائهم. لقد تكسَّرت عِظامُه من شِدَّة تكسيره لعِظام الآخَرين، وأُصيب بالاكتئاب. إنّ حالة أنطوخيوس ابيفانوس تشبه حالةَ كلّ واحدٍ منّا، حين نُعاني من خيبات الأمل مِنَ الآخَرين، ونُصاب بالجِراحات من داخل البيت كما مِن خارجه. بعد أن أُصيب الملك أنطوخيوس أبيفانوس بهذا الـمَرَض، خارت قواه، فنَظَر إلى العلى وقال: "إذا كُنتُم في سلامة، وكان أولادُكم وكلُ شيءٍ لكم على ما تُحبُّون، فإنِّي أشكُرُ اللهَ شُكرًا جَزيلاً. أمّا أنا فإنِّي طريحُ الفِراش عَديمُ القُوّة، وأحفظُ ذِكرًا طيّبًا لإكرامِكم وولائِكم" (المكابيِّين الثّاني 9: 20-21). وفي ترجماتٍ أخرى، تَرِدُ عبارة: "أمّا أنا فرجائي مَنوطٌ بالسَّماء". إنّ رجاءنا منوطٌ بالسّماء، ولذا حين ننظر إلى السّماء، سننال الشِّفاء من أتعابنا. وفي هذا الصَدد، نقرأ في المزمور (91: 14-16): " أُنجِّيه لأنَّه تعلَّق بي، أَحْمِيه لأنّه عَرَفَ اسْمي. يَدعُوني فأُجيبُهُ، أنا مَعَه في الضِّيق فأُنقِذُهُ وأُمجِّدُهُ. بِطُولِ الأيّامِ أُشبِعُهُ وأُريه خلاصي". إذًا، إنَّ الرَّجاء الحقيقيّ ليس هروبًا مِن الواقع الزّمني الّذي نَعيشُ فيه، بل الرَّجاءُ هو استشراف للمستقبل، أي محاولة لإدراك الحِكمة. إنّ الرَّجاء الحقيقيّ هو التَّحرُّر مِن كلّ ظلمٍ، من كلّ احتلال، من كلّ استغلال. إذًا، الرَّجاء الحقيقيّ يتطلَّب من المؤِمن الخروج مِن فوضويّة حياته الحتميّة ومن فوضويّة الطبيعة الحتميّة، ليتمكَّن من إدارة حياته. إنَّ رجاء الفقراء يكمن في حصولهم على رغيفٍ من الخُبز، وسَقفٍ من الطِّين يأويهم. ليس الرَّجاء تَصَوُّرًا جميلاً للحياة في العالم الآخَر، فالرَّجاء بالحياة الجديدة ليس مُخدِّرًا للإنسان عن هموم هذه الحياة، بل هو لمساتُ رجاءٍ نتلمَّسها ونزرعها في حياتنا اليوميّة، نتيجة تصويب نظرِنا إلى السَّماويّات.

"فماذا نُضيفُ إلى ذلك؟ إذا كان اللهُ مَعَنا، فَمَن يَكونُ علينا؟ إنَّ الّذي لَم يَضَنَّ بابنه نفسِه، بل أسْلَمَهُ إلى الموتِ من أجلِنا جميعًا، كيفَ لا يَهَبُ لنا مَعه كلَّ شيء؟ فَمَن يتَّهمُ الّذين اختارَهم الله؟ اللهُ هو الّذي يُبرِّر! وَمَن الّذي يُدين؟ المسيح يسوعُ الّذي ماتَ، بل قامَ، وهو الّذي عن يمينِ اللهِ والّذي يَشفَعُ لنا. فَمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّة المسيح؟ أشِدَّةٌ أم ضيقٌ أم اضْطِهادٌ أم جُوعٌ أم عُريٌ أم خَطَرٌ أم سَيف؟ فَقَد وَرَدَ في الكتاب: "إنّنا مِن أجلِكَ نُعاني الموتَ طَوالَ النَّهار ونُعَدُّ غَنَمًا للذّبحِ". ولكنَّنا في ذلِكَ كُلِّه فُزنا فَوزًا مَبيِّنًا، بالّذي أحَبَّنا. وإنِّي واثِقٌ أنَّ لا موتَ ولا حياة، ولا ملائكةَ ولا أصحاب رئاسة، ولا حاضِرَ ولا مُستَقبل، ولا قُوّات، ولا عُلوَّ ولا عُمق، ولا خليقةً أخرى، بِوِسعِها أن تَفصِلَنا عن محبَّةِ الله، الّتي في المسيح يسوعَ رَبِّنا." (رومة 8: 31-39). إنَّ هذا النَّص يساعدنا على اكتشاف عمل الله في حياتنا. يقول لنا بولس الرَّسول في هذا الّنص إنّه لا شيء يستطيع أن يفصِلَنا عن محبَّة المسيح، لا شِدّة ولا اضطهاد ولا غير ذلك. في كلّ يومٍ نتعرَّض للشِّدة في حياتنا اليوميّة: ففي كلّ يومٍ نسمع عن حالاتِ جوعٍ وفقرٍ في محيطنا وفي العالم؛ وفي كلّ يومٍ نتعرَّض للاضطهاد، وخيرُ مِثالٍ واضحٍ على ذلك هو ما تعرَّض له المسيحيّون في نيجيريا من ذَبحٍ وإحراقٍ للكنائس، كما نلاحظ اضطهاداتٍ من أنواعٍ مختلفةٍ، نتيجة عدم فَهمِهم للإلتزامات الكنسيّة والخبرات الروحيّة الَّتي يعيشها المؤمِن. إنَّ ثُلثَ سُكَّان العالم يُعانون من الـجُوع والفقر، والإحصاءات تشهد على أنّ شخصًا مِن أَصل سبعة، ينامُ من دون طعام، لعدم تَوَفُّرِه. إنَّ الرَّجاء هو فِعلُ ثقةٍ في الله، غير أنّ الإنسان يَضَع رجاءه في الآخَرين، فيتعرَّض لخيبات الأمل هذا لا يعني أنّه علينا مُعاداة الآخَرين، ولكنَّ المقصود هو عَدم وَضِع رجائنا في محبّة الآخَرين لِدَرَجةِ جَعلِهم مُخلِّصِين لنا. إنّ قاعدة التَّمييز في حياتنا هي البحث عن ثمار الرَّوح، وهذا ما يدعونا إليه نافور مار يعقوب الّذي نتلوه في القدَّاس:"احفظ علينا بهاء القداسة والبرارة". فحين نكون ممتلئين من ثمار الرُّوح، فإنّ كلّ قوّة خارجيّة تفقد من قوّة تأثيرها علينا.
إنّ نصّ تلميذَي عمّاوس (لو 24: 13-35)، يساعِدُنا على فَهْم رسالة الكنيسة تجاه كلّ النّاس، وخاصّة شبيبتنا. إنّ يسوع يسير مع التِّلميذَين . وفي اجتهادات حول معرفة اسم التِّلميذ الثاني، قرأتُ مرّةً أنّ الشَّخص الّذي يرافق كلاوبوس في عودته إلى قريته عمّاوس، قد تكون زوجته، لأنّ النَّص الإنجيليّ الّذي يُخبرنا عن موت يسوع على الصّليب يقول لنا إنّ بين المريمات الّلواتي كُنَّ حاضرات ساعة موت يسوع، زوجة كلاوبوس، وبالتّالي، هل يمكن لكلاوبوس أن يعود إلى قريته من دون زوجته؟ ومن خلال هذا الاجتهاد، نستنتج أنّ الصُّعوبات في هذه الحياة، تواجه العائلة معًا، وهي تُقرِّر كيفيّة مواجهتها لها. إنّ كلاوبوس وامرأته قرّرا ترك الجماعة والعودة إلى حالتهما القديمة، لقد تركا أورشليم، مكان الحدث، حيث مات يسوع. وهنا يُطرَح السؤال: كم من الأوقات، نُقرِّر تَركَ يسوع، عندما تواجهنا الصُّعوبات، مُفضِّلين العودة إلى حياتنا الماضية؟ إنَّ هَذَين التِّلميذَين قد تركا الجماعة الّتي كانا ينتميان إليها، والّتي كانت لا زالت تجمع على الرُّغم مِن تَضَّعضُعِها، والّتي تسعى إلى إعادة تكوين نفسِها بعد موت يسوع، بانتظار حلول الرُّوح القدس عليها. في سينودس الشبيبة، طلَبَ البابا فرنسيس السّماح من الشبيبية، نتيجة تقصير المسؤولين في الكنيسة تجاههم، طالبًا منهم أن يُعاودوا العمل مع رؤسائها لِمَا فيه مِن تَقَدُّمٍ للكنيسة جمعاء. إنَّ عالمنا اليوم، يفتقد لِنِعمة الصَّبر، إذ نرى أنَّ المؤمِنِين يَسعُون إلى الابتعاد عن الصَّعوبات الّتي تواجِهُهم، عِوَضَ العمل على احتمالها من خلال طلب نِعمة الصَّبر، لذا نرى تزايُدًا في نِسَب الطلاق في مجتمعاتنا. إنَّ عالَمَنا اليوم مَبنيّ على السُّرعة، إذ يسعى الإنسان للحصول على ما يريده بأسرع وقتٍ ممكن، من دون أن يؤدِّي ذلك إلى اكتفائه. إنَّ التِّلميذَين قرّرا مقاطعة جماعة الرُّسل والعودة إلى قريتهما، لكنَّ الربَّ يسوع لم يُقاطِع التِّلميذَين، بل رافَقَهما في مسيرة عودتهما، لأنّه لا يرغب بابتعاد أيّ مؤمِنٍ به عنه. لقد عاش التِّلميذان حالة من الضياع والحزن والكآبة، وقد عاتبا الربَّ قائلَين له: "كُنّا نرجو". إذًا، اختبر هذان التِّلميذان، نوعًا من الكآبة، على الـمُـستَويَين: أوّلاً، الفرديّ، إذ تآكلهما الحزن من الداخل؛ وعلى مستوى الجماعة، إذ تركا جماعة الرُّسل في هذه الظروف الصَّعبة. إنَّ حالة الكآبة الّتي نشهدها في محيطنا تدلّ على فقدان المؤمِنِين رجاءهم الحقيقيّ. لقد سار الربُّ مع هذين التِّلميذَين معتمدًا ثلاث خطوات: الأولى، طَرَحَ السؤال عليهما لمعرفة سبب حُزنهما؛ ثانيًا، أصغى لروايتهما الحَدَث على طريقتهما، وثالثًا وأخيرًا قام بمساعدتهما على فَهم سبب حُزنهما. على المؤمِن أن يساعِد الإنسان الـمُحبط معتمدًا هذه الخَطوات الثّلاث: أوّلاً طَرِح السؤال على الشَّخص الحَزين والـمُحبَط؛ ثانيًا الإصغاء لسبب حُزنه استنادًا إلى رواية الإنسان الـمَحزون لِما أصابَه؛ وأخيرًا محاولة مساعدته على تَخَطي حزنه. لقد تحلَّى الربُّ يسوع في إصغائه لِهَذين التِّلميذين بِنِعمة الصّبر، الّتي جَعلته يُدرِك سبب إحباطهما، المتعلِّقة بموته على الصّليب. في عالَمِنا اليوم، أخذت وسائل التّواصل الإجتماعيّ حَيِّزًا كبيرًا من حياة الإنسان حتّى أصبح لا يهتمّ للقائه بالآخَرين والإصغاء إلى آلامِهم ومساعدتهم. إنَّ الإصغاء إلى آلامِ الآخَرين وحده لا يكفي، إذ على المؤمِن محاولة التَّخفيف من أوجاعهم. لقد اختار الله موسى ليُحرِّر الشَّعب من حالة العبوديّة الّتي كان يعيشها في مِصر، فَظَهر لموسى وقال له: "إنّي قد رأيتُ مذَلةَ شعبي الّذي بِمِصر، وسَمِعْتُ صراخه بسبب مُسخِّريه، وعَلِمتُ بآلامِه، فنَزِلْتُ لأنُقِذَه من أيدي الـمِصريِّين وأُصعِدَه من هذه الأرض، إلى أرضٍ واسعةٍ"(خر 2: 7-8) . لقد أخبر الله موسى أنّه سَمِعَ صوت أنين شَعبه، ورأى مَذَلَّتهم، وعَلِم بمعاناتهم، ولذا قرَّر مساعدتهم عبر إخراجهم من هذه الأرض، بواسطة موسى. حين تتمسَّك الكنيسة برجائها بالمسيح، وتُصغي إلى أوجاع النّاس، فإنّه لا بُدَّ لها أن تسعى إلى مساعَدتهم، وعندها سيتغيَّر العالم وظروفه.
إنّ إنجيل اليوم في الكنيسة المارونيّة هو إنجيل المخلَّع. يُخبرنا هذا النَص أنّ هذا الرَّجل المريض قَد حُمِلَ مِن قِبَل أربعة رِجال، سَعوا إلى إيصاله إلى الربّ، على الرُّغم من ازدحام المكان بالنّاس. يُخبرنا النَّص أنّ هؤلاء الرِّجال قد عرَفوا أنَّ يسوع موجود في "البيت". إنّ "أل"التَّعريف تشير إلى أنّ هؤلاء الرِّجال لَم يَروا إلّا هذا البيت في كلّ قرية كفرناحوم، وكأنّه البيت الوحيد فيها. إنَّ هذا البيت، هو بَيتُ بطرس، وهو يرمز إلى الكنيسة. على كلِّ ألمٍ نُعاني منه، أن نَضَعَهُ أمام يسوع الحاضر في الكنيسة،كي يتمّ شِفاؤنا منه. إنَّ الربَّ يسوع قادرٌ على كلّ شيء، لذا قام بشفاء المخلَّع عند رؤيته لإيمان الرِّجال الأربعة، وقال للمخلَّع: "لك أقول، قُم". يُظهر هذا النَّص دَور الجماعة. على الجماعة أن تَحمل آلامَ بعضِها البعض، وهذا يتطلّب تعمُّقًا في الإيمان، فإنّ حَمل الجماعة للمريض يتطلَّب روحانيّة معيّنة يجب تعلُمُها، كي لا يشعر المريض بأنَّه حِملٌ ثقيل على الجماعة. إنَّ عبادة "الأنا"، هي إحدى أهمّ المشاكل الّـتي يواجهها عالمنا اليوم. على المؤمِنِين أن يحملوا أثقال بعضهم بصمتٍ، تمامًا كما فعل الرِّجال الأربعة مع المخلَّع: فَهُم قد حَمَلوا المخلَّع إلى يسوع، وتخطَّوا كلّ الحواجز في سبيل ذلك، من دون أن ينطِقوا بكلمةٍ واحدة. يُخبرنا النَّص أنّ الربّ يسوع قد رأى إيمان هؤلاء الرِّجال، فشفى المخلَّع. إنَّ ازدحام النّاس في هذا المكان مَنع المريض من الوصول إلى يسوع إلّا عبر السَّقف. إنّنا نحن المؤمِنِين، نمنع في الكثير من الأحيان، الآخَرين من الوصول إلى يسوع، إذ لا نترك مكانًا للآخَرين للاقتراب منه، والحصول على الشِّفاء. فلنُفسِح المجال إخوتي، أمام الّذين يحتاجون إلى رؤية يسوع واللِّقاء به، على الرُّغم من حاجاتهم المختلفة، وحضاراتهم المتنوِّعة، لأنّ يسوع هو الوحيد القادر على كلّ شيء، فَهو مَصدَرُ رجائنا. إنّ يسوع كان متواجِدًا طوال النَّهار، في هذا البيت في كفرناحوم، بيتِ بُطرُس، وقد كان الربُّ يُصغي إلى النّاس ويُكلِّمهم بكلمة الله. إنَّ الربَّ هو الوَحيد القادر على إعطاء الشُّروحات المناسبة للصُّعوبات الّتي نتعرَّض إليها، ودَفعِنا إلى النَّظر إليها بشكلٍ أفضل. عندما يسمع الربُّ أوجاعنا، يَضعُ كلمَته في قلوبنا، وهذا ما عبَّر عنه تِلميذَا عمّاوس بالقول: "أمَا كان قلبنا متَّقدًا في صَدرنا، حين كان يُحدِّثُنا في الطّريق ويشرحُ لنا الكُتُب؟" (لو 24: 32). لا أحد في العالم كلِّه قادر على إعطاء شُعلة الرّاحة لقلوبنا والسَّعادة لحياتنا، والمعنى لوجودنا، سوى يسوع المسيح. إنَّ اللّافت في يسوع هو أنّه دَفع بالتِّلميذين إلى إخباره بقصّته: قصَّة آلامه الّتي سبَّبت لهما حُزنًا كبيرًا؛ ثمّ عاد وأخبرهما قصَّته بطريقة مختلفة. إذًا، إنّ كلّ إنسانٍ يُخبر عن وَجَعه بطريقة معيّنة، ولكن حتّى حين نسمَع يسوع يُخبرنا عن آلامِنا تتغيّر نظرتنا إليها. إنّ آلامِنا، حسب رؤيتنا لها، هي مَصدَرُ ألَمٍ وكآبةٍ، ولكنْ إنْ نَظرنا إليها، حسب رؤية يسوع لها، فإنّها ستتحوَّل إلى مَصدر لحضور يسوع، وكَلِمَتِه، وتُصبح آلامُنا مكانًا للعبور من الظُلمة إلى النُّور. إنَّ الربّ يسوع قد دَخَل إلى ليلِ هَذين التِّلمِيذَين الـمُظلم، إلى واقِعهما المرير، وحاول مساعدتهما على تَخطيِّه، من خلال كَسر الخبز معهما، وشرح الكُتُب لهما، قبل أن يتوارى عن أنظارِهِما. بعد أن تركَ الربّ حضوره في وَسَطهما، عاد هذان التِّلميذان إلى أورشليم، حيث جماعة الرُّسل. كذلك، نحن أيضًا، علينا العودة إلى الكنيسة بعد تَركِنا لها. عند عودة هذين التِّلميذين إلى أورشليم، شاركا الجماعة اختبارهما مع الربّ يسوع.
على المؤمِن التّيقظ والسَّهر على علامات الأزمنة، الّتي تُظهر غياب الرَّجاء في عالَمِنا. مِن مخاطِر فقدان الرَّجاء في عالَمنا:

أوّلاً: الثِّقة الـمُفرِطة بالّذات. يعتقد الإنسان أنَّه يستطيع وحده الاهتمام بأموره من دون حاجته إلى الله. وهذا اعتقادٌ خاطئٌ تمامًا، ولكنْ هذا لا يعني أنَّ على الإنسان فُقدان الثِّقة بذاته، بل على العكس، ولكنْ علينا أن نتذكَّر على الدَّوام قولَ الربِّ لبولس الرَّسول، والّذي يُوجَّه لنا اليوم: "تكفيكَ نِعمَتي"، فنُدرِك أين نضَع رجاءنا.
ثانيًا: مِن مخاطِر فقدان الرَّجاء اليأس والاستسلام للصُّعوبات الَّتي نواجهها في حياتنا اليوميّة. في عالمنا اليوم، نشعر في الكثير من الأحيان، بعدم قُدرتِنا على تغيير الواقع فنستسلم له، عِوضَ الصّلاة إلى الله، كي ننتَبِه إلى نعَمِه في حياتِنا، الّتي تَدفَعُنا إلى تغيير واقِعنا الدَّاخليّ، فننظر إلى الأمور من حَولِنا بإيجابيّة. لا مكان لليأس في قلب المؤمِن بالربّ. إنَّ الواقع الأليم الّذي نواجِهُه، يدفعنا إلى قَتل كلّ رَغبة في قلوبِنا، للعمل على تحسين الظروف الّتي نعيشها، فيُسيطِر علينا التشاؤم العقيم، فنَجد أنَّ الجميع في هذا العالم مُكتئبون، وحزانى، وأشبَه بـ"أوراق الوَفاة". نحن مدعوُّون إلى تغيير نَظرَتنا إلى الواقع لا إلى تَجاهُلِه. على المؤمِن عدم الهروب من واقعه بل مواجهته؛ ولكنْ للأسف، يسعى البعض إلى السَّفر أو ترك القرية الّتي يعيش فيها، محاولاً بذلك التخلُّص من الأزمات الّتي يعيشها. إخوتي، إنّ الله قد زرَعَنا في هذا الواقع، لأنّه يريد منّا أن نحقِّق رسالته في هذا المكان تحديدًا.

ثالثًا: من مخاطر فقدان الرَجاء الاعتياد على الظروف الّتي تواجِهُنا، وعيش الرَّتابة. إنَّ الإنسان قد يعتاد على الأوضاع الّتي يعيشها، كما قَد يعتاد على الصّلاة والخِدمة الرَّسوليّة في الكنيسة. إنّنا اليوم مدعوِّون إلى اتِّخاذ العِبَر الرُّوحيّة من هذه الرِّياضة الّتي نشارك فيها، لا إلى العودة منها، كما أَتينا إليها من دون أيّ تغيير. إنَّ التَّكرار في بعض الأوقات له فائدته، لذا نحن مدعوَّون إلى عيشِه بلا ملل. إذا التقينا بالله ونِلنا منه الرَّجاء، يُصبح كلُّ عملٍ فينا، مَصدَر تَجدُّد، فلا تتسرَّب الرَّتابة من بَعد إلى قلوبِنا. إنَّ الصّوم هو نوعٌ من التَّرتيب لِبَيتِنا الدَّاخلي. في الصّوم، أنا مدعوّ لِعَيش "الـحُبّ التفضيليّ" ليسوع.
رابعًا: من مخاطر فقدان الرَّجاء الأنانيّة أي عَيش الفِردانيّة. إنَّ الفِردانيّة تقتل العيش الجماعيّ، إذ تدفع بالإنسان إلى التَّقوقُّع على ذاته، والاكتفاء بذاته، عِوضَ حثِّه على الخروج من سِجن "الأنا"، ودَفعه إلى لقاء الجماعة. إنَّ الكثير من البشر يعتقدون أنَّ الحياة بدأت بهم وبِهم تنتهي، فلا يحترمون لا الّذين سبَقوهم ولا الّذي سيأتون بَعدَهم، معتقدين أنَّهم مُخلِّصو العالم. إنَّ الحياة تحتاج إلى التَّكامل في العَمل، عِوضَ طَرح في كلّ حبقةٍ طريقة عمل مختلفة مناقضة للعَمل السّابق، وهذا ما نختبره في الشَّركات على سبيل الـمِثال، إذ نرى أنّ المدير الجديد، يُغيِّر مشاريع المدير السّابق من أجل إظهار ذاته وقُدراته، فيُوقِف العمل في المشاريع السّابقة، من دون السَّعي إلى تحقيق الهَدَف المنشود.
خامسًا: من مخاطر فقدان الرَّجاء، فُقدان الصَّبر، والاستعجال في تحقيق الأمور. إنّ عالمنا اليوم يفتقد إلى الصَّبر. إنَّ الرِّجال الأربعة في إنجيل المخلَّع، قد تَحلُّوا بالصَّبر من أجل الوصول إلى هَدَفهم، وهو إيصال الرَّجل المريض إلى يسوع. إنَّ عالمنا اليوم، لا يبحث إلّا عن المؤقَّت، إذ نجد أنَّ عددًا كبيرًا من العلاقاتِ بين البشر قد تتعرَّض للفشل، بسبب عدم احتمال الطرَفَين لصعوبات الحياة الّـتي تواجههم، والسَّعي إلى إيجاد الحلول لها. في عالمنا اليوم، نجد صعوبة في إيجادِ شخصٍ قادرٍ على الإصغاء لآلامِنا، والسَّعي لمساعَدتنا على تَخطِّيها. إنَّ عالمنا يبحث عن تحقيق رغباته بطريقة فوريّة وسريعة. ولم يعد هناك مِن صبر للإنسان لا على أخيه الإنسان ولا حتّى على الطبيعة، إذ نسعى للحصول على ثمار بطريقة أسرع.
فلنسعَ إخوتي، إلى ترتيب الأولويّات في حياتنا، ونركِّز حياتنا على رجائنا وصخرة إيماننا، الّذي هو يسوع المسيح، الأمس واليوم وإلى الأبد. لذلك يقول لنا المزمور:"إنّي ولو سلكتُ في وادي ظلال الموت، لا أخاف سوءًا لأنَّك مَعي" (مز 23). عمانوئيل معنا، فلماذا نفقد رجاءنا؟ إنّنا كجماعة نستطيع على مِثال الرِّجال الأربعة في نصّ المخلَّع، أن نهرع لمساعدة الّذين يُعانون من أوجاع، فنَزرعِ الرَّجاء في قلوب الآخَرين. اِسْعوا إلى زرع الرَّجاء، وإلى النَّظر إلى الحياة بطريقة إيجابيّة، فتتغيّر جميع الأمور من حولكم. اسعوا إلى الابتسامة. إنَّ يسوع يحتاج إلى عُمالٍ في كَرمه، ليزرعوا الرَّجاء، والفرح في النُّفوس، فلنَكُن نحن هؤلاء العُّمال في حقل الربّ في هذا العالم.
نسأل الله أن يُعطينا النِّعمة لقراءة أفضل لعلامات الأزمنة، من خلال الإصغاء إلى أوجاع الآخَرين والسَّعي لمساعدتهم، قائلِين للربّ: ها نحن يا ربّ، قد أتينا لِنعمل مَعك، حامِلين أوجاع النّاس إليك، كي تؤهِّلنا لمساعدتهم وزرع الرَّجاء في قلوبهم. نَعِدُك بعدم التَّراخي وعدم الابتعاد عنك، وعدم تَرك الجماعة الكنسيّة، لأنّك معنا، الأمس واليوم، وإلى الأبد. آمين.
ملاحظة: دُوِّنت العظة مِن قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...
31/3/2019 "خطوات عمليّة لِعيْش الرَّجاء وبَثّه" لأنّ الفرح هو سِمة المؤمِنِين، أمّا الحُزن فهو سِمة الأشرار وغير التّائبين. آمين
https://www.youtube.com/watch?v=oqXKNsH0tkI

"خطوات عمليّة لِعيْش الرَّجاء وبَثّه"
للأب ملحم الحوراني
في الرِّياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير مار جرجس- بحردق

31/3/2019

إنّ حديثنا اليوم، يتمحوَر حول كيفيّة تعزية الحزانى. وما سأعرِضه عليكم نابعٌ مِن خِبرة خمسٍ وعشرين سنةٍ في الكهنوت، مرتكزة على علاقتي بالنّاس. إنّ تعزية الحزانى، تُشبه دِراسة الأطبّاء لاختصاصٍ معيَّن، فَهُم أوّلاً يقومون بدراسة جزءٍ مُحدَّد في جسم الإنسان، هَدف اختصاصهم، على سبيل الـمِثال العِظام، ثمّ يحاولون تطبيق ما تعلَّموه بإقامة عمليّات جراحيّة، وتصحيح أخطائهم في التَّطبيق في كلِّ مرّة؛ هكذا هي أيضًا تعزية الحزانى، إذ على كلّ مؤمِن أن يسعى إلى إيصال الرَّجاء المسيحيّ للآخَرين، بكلّ الطُرق المتاحة له، وتحسِينِها في كلّ مرّة، في سبيل الوصول إلى هدَفِه، ألا وهو تعزية الحزانى.
إنّ الموت هو أمرٌ محتومٌ، لا يستطيع الإنسان التهرُّبَ منه. لذا، على الإنسان أن يتعلَّم كيفيّة تعزية الآخَرين ونَقلِ الرَّجاء المسيحيّ لهم، مِن خلال القراءات الروحيّة والصّلوات اللِّيتورجيّة وسِواها. إنَّ تعزيةَ المؤمِن لإنسان قريبٍ من الله، أسهل من تَقديمه التَّعزية لإنسانٍ غير مُلتَزمٍ بكنيسته، عندما يَقرَعُ الموتُ بابَ هذا الأخير، بانتقال أحد أحبّائه بشكلٍ مفاجئ، كموت شابٍ يَعرِفُه، أم بشكلٍ طبيعيّ كموت أحدِ كِبارِ السِّن.

إنَّ تعزية الحزانى نكتسِبها أوًّلاً، من خلال كلمة الله في الإنجيل. فالإنجيل يُخبرنا عن تعزية الربِّ يسوع لبُطرس في كلامه الوِداعيّ، إذ قال له: "ولكنِّي دَعوتُ لَكَ ألّا تَفقِد إيمانَك. وأنتَ ثَبِّت إخوانك متى رَجِعتَ"(لو 22: 32). وعندما سَمِع بعضُ التّلاميذ قولَ الربّ بأنّه خُبزُ الحياة، لم يَفهموا معنى كلامه هذا، فانقطعوا عن السَّير معه. عندها سأل الربّ مَن تَبقّى مِن تلاميذه إن كانوا يريدون هم أيضًا التَّوقف عن السَّير معه، فكان جواب بطرس للربّ: "يا ربّ، إلى مَن نَذهَب وكلام الحياة الأبديّة عندك؟ ونحن آمَنَّا وعَرفنا أنّك قدُّوس الله" (يو 6: 68). إنَّ بطرس يرمز إلى كلِّ واحدٍ منّا، فكلُّ مؤمِنٍ بالربّ هو ممسوحٌ من الله، وبالتّالي هو مدّعو إلى التشبُّه بالمسيح في تقديم التعزيَة للآخَرين. إنَّ المسيح يسوع قد أتى إلى العالم، ليُخلِّص البشر ويُعزِّيهم، لذا ردَّد كلام أشعيا النبيّ مُوضحًا بذلك للشَّعب أنّه هو مسيح الربّ المنتظر، فقال: "رُوح السَّيِّد عَلَيَّ، لأنَّ الربَّ مَسَحَني، وأَرسلَني لأُبشِّر الفقراء، وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب، وأُنادي بإفراجٍ عن الـمَسبِّيين، وبِتَخليةِ المأسُورين، لأُعلِن سنةَ رِضىً عند الربِّ، ويومَ انتقامٍ لإلَـهِنا، وأُعزِّيَ النَّائحين. لأَمنَحَهُم التَّاجَ بَدَلَ الرَّماد، وزَيتَ الفَرَحِ بَدَلَ النَّوح، وحُلَّةَ التَّسبيحِ بَدَل رُوحِ الإعياءِ، فيُدعَون بُطمَ البِّر، وأغراسًا للربِّ يتمجَّد بها"(إشعيا 61: 1-3). ونقرأ في إنجيل متّى أنّ الربّ يسوع هو "عِمانوئيل" أي "الله مَعنا" (متّى 1: 23). إنّ الله معنا، نحن المؤمِنِين به، وهو لا يتركُنا خاصّة في وقت الشِّدة والضِّيق، فَهو يتألَّم لألَمِنا، ويَنزعِج لانزعاجنا، وهذا ما يؤكِّده لنا إشعيا (63: 9): "في جميع مَضَايقِهم تَضايقَ (الربُّ) وملاكُ وَجهِه خلَّصهم". إنَّ المؤمِنَ، القريبَ مِنَ الربّ، يشعر بوجود الربّ قربَه في وَقت ضيقه؛ أمّا الإنسان البعيد عن الربّ، فلا يشعر بوجوده، بل يشعر بأنّه متروكٌ وحْدَهُ. في سِفر دانيال (3: 24-50)، نقرأ عن مساندة لله للفِتْيَة الثّلاثة الّذين تعرَّضوا للاضطهاد حرقًا في الأتُّون، إذ قد أرسل الله لهم ملاكه، طارِدًا عنهم اللَّهيب، ويقول لنا النَّص: "إنَّ (ملاك الربّ) قد جَعَلَ وَسَطَ الأتُّون ما يُشبِهُ نَسيمَ النَّدى الـمُنعِش، فَلَمْ تَمَسَّهُم النَّارُ البتَّةَ ولَم تُصِبْهم بأذى أو ضرر" (دانيال 3: 50). إنّ النّار تدفع بالـمُضطَهِدِين إلى الاعتقاد أنّ مَصيرَ مُحبِّي الله هو الموت، ولكنَّ الربّ في وقَتِ الضِّيق، لا يترك أحبّاءه، بل يأتي لنُصرَتِهم ونَجدَتِهم. إنّ صاحبَ المزامير، يُعزِّي نفسَه في المزمور 42، إذ يقول:" لماذا تَكتَئبين يا نَفسي، وعليَّ تَنوحين؟ اِرتَجي الله فإنِّي سأَعودُ أَحمَدُه، وهو خلاصُ وَجهي وإلهي". ويُضيف في المزمور 16، فيقول:"اللَّهم احفَظْني فإنِّي بِكَ اعْتَصَمْتُ".

وهنا يُطرَحُ السؤال: مَن هو المحزون؟ يُقدِّم لنا الكتاب المقدَّس مِثالاً على الرَّجل الحزين والمكتئب، ألا وهو أيّوب الّذي احتمل الكثير في المشَّقات في حياته، إذ مات أبناؤه وخسِر كلّ ممتلكاته الأرضيّة، ولكنّه بَقِيَ متمسِّكًا بإيمانه بالربّ، الّذي عَوَّضه عن كلّ تلك الخِسارات. إخوتي، إنْ أردتم أن تُقدِّموا العزاء لإنسانٍ حزينٍ جرّاء فُقدانه لِعَزيزٍ، أَنصَحكم أوّلاً بالصُّعود قبل كلّ شيء مع يسوع إلى جَبل الجِتْسمانيّة، جبل الزّيتون. وهنا نقرأ في إنجيل متّى (متّى 26: 36-41)، ما عاناه الربُّ يسوع في استعدادِه للموت، إذ يقول لنا النَّص: "ثمّ جاء يسوع معهم إلى ضَيعَةٍ يُقال لها جَتسَمانيّة، فقالَ للتّلاميذ:"أُمْكُثوا هنا، ريثما أَمضِي وأُصلِّي هناك." ومَضى ببُطرُس وابْنَي زَبَدى، وجعلَ يَشعُر بالحُزنِ والكآبة. فقال لهم: "نفسي حزينةٌ حتّى الموت. أُمكُثوا هنا واسْهَروا معي." ثمَّ أَبعَدَ قليلاً وسَقَط على وَجهِهِ يُصلِّي فيقول: يا أبتِ، إنْ أَمكَن الأمرُ، فَلتَبتَعِد عنِّي هذه الكأس، ولكنْ لا كما أنا أشاءُ بل كما أنْتَ تشاء!" ولكنْ لوقا الإنجيليّ يُضيف في روايته للحدث نفسِه بعض التّفاصيل، فيقول لنا: "وتراءى له ملاكٌ مِنَ السّماء، يُشدِّد عزيمته. وأخَذَه الجُهدُ فأمعَن في الصّلاة، وصار عَرَقُه كقطراتِ دَمٍ مُتُخُثِّرٍ تتساقط على الأرض. ثمّ قام عن الصّلاة فرَجِعَ إلى تلاميذِه، فَوَجَدَهم نائِمينَ مِنَ الحُزنِ. فقال لهم: ما بالكم نائمين؟ قُوموا فصَلُّوا لئلّا تَقَعوا في التَّجربة"" (لو 22: 43-46). إنّ الإنسان المحزون هو أكثر النّاس حاجةً إلى مرافقةٍ مِن الآخَرين وخاصّةً في اللّيل، إذ تعود إليه الذِّكريات ما إنْ يُصبح وحيدًا في غرفته. إنّ الربّ يسوع قد جاهد في الصّلاة مِن شِدَّة ألَمِه. إنّ الإنسان المحزون، يواجه توتُّره وكآبته بمضاعفة صلاته، فَيَصل إلى مرحلةٍ يعجزُ فيها عن التَّمييز ما إن كان سَبَبُ تُوتُّره هو الصّلاة أم الحُزن. إنّ نصَّ صعودِ يسوع إلى الجَتسمانيّة يشكِّل مَصدَر عزاءٍ أوّلاً للإنسان الّذي يرغب في تقديم العزاء، وثانيًا للإنسان المحزون. على الإنسان الّذي يرغب في تقديم العزاء للإنسان المحزون، أنْ يتسلَّح بالصّلاة قبل الشُّروع في ذلك: فالتَّعزية الخارجيّة وحدها عاجزةٌ عن لَمس القلوب الّتي تعرّضَت لجرح فقدان أحد الأحبّة بالموت. إنَّ الإنسان المحزون يحتاج لِمَن يُعانِقه، ويضمُّه، ولكنّه أيضًا بحاجة لِمَن يُواسيه فيَشفِيه من الدّاخل بكلمة الله. إنّ الربّ يسوع لم يَشفِ الآخَرين بواسطة اللَّمس وحَسب، بل كان يشفيهم أيضًا بواسطة الكَلمة، وهذا ما يؤكِّده لنا الإنجيليّ متّى في الإصحاحَين التّاسع والعاشِر من إنجيله. إذًا، هناك طريقَتَان للشِّفاء: إمّا باللَّمس وإمّا بالكَلمة. في صلواتِنا الأرثوذكسيّة الخاصّة بالموت، نُردِّد العبارة التّالية: "إنّ كُلُومَك أيّها السَّيد، قد شَفَت آلامَنا". إنَّ بعض المؤمِنِين لدى سماعهم عبارة "كُلوم"، يَظنُّون أنّها تعني الكلام الّذي نتفوّه به؛ غير أنَّ عبارة "كُلُوم"، مشتّقة مِن فِعل "كَلَمَ"، وتعني "جَرَح". إنّ الكلمة الّتي نتفوّه بها، قد تشفي الآخَرين كما أنّها قد تجرحهم. وبالتّالي، في عبارة "إنَّ كُلومَك أيّها السَّيد شَفَتَ آلامنا"، الـمَعْنَيان جائزان: لأنّ كلام المسيح يساعدنا على فَهْم عمَلِه الخلاصيّ الّذي حَصَلنا عَلَيه من خلال جروحاته وآلامه.

أمام الموت، يقف الإنسان متعجِّبًا وغيرَ قادرٍ على إدراكِ حِكمةِ الله من انتقال الأحبّة من هذا العالم إلى الحياة الثانية، وخاصّةً إن كانَ أهلُ الفقيد لا يزالون بحاجةٍ لوجوده معهم في هذه الأرض. وهنا يُطرَح السؤال: كيف السّبيل لتقديم التَّعزية لأهل الفَقيد؟ يُقدِّم لنا سِفر الحِكمة، جوابًا عن حِكمة الله في موت أحبّاء لنا، فيقول: "أمّا البَّارُ فإنَّه وإنْ تَعَجَّله الموت، يستقرُّ في الرَّاحة، لأنّ الشَّيخوخةَ الـمُكرَّمةَ، لا تَقومُ على كَثرة الأيّام، ولا تُقاس بِعددِ السِّنين. ولكنَّ شَيْبَ الإنسانِ هو الفِطنة، وَسِنَّ الشَّيخوخةِ هي الحياةُ الـمُنزَّهَةُ عن العَيب. أَصبَحَ مَرْضِيًّا عِنْدَ الله، فكانَ مَحبوبًا، وكان يَعيشُ بَينَ الخاطِئِينَ فَنُقِل. خُطِفَ لِكَي لا يُفسِدَ الشَّرُ بَصيرَتَهُ، ولا يُغوِيَ الغِشُّ نَفسَهُ، لأنَّ سِحرَ الباطِلِ يُغشِّي الـخَير، وَدُوارَ الشَّهوَةِ يُفسِدُ العَقلَ الـمُنَزَّهَ عن الشَّر. بَلَغَ الكَمالَ في أَيّامٍ قَليلة، فاسْتَوفَى سِنِينَ طَويلَة. وكانَت نَفسُهُ مَرْضِيَّةً عند الربّ، ولِذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ سَريعًا مِنَ الشُّرورِ. وَأَبصَرَتِ الشُّعوبُ وَلَم تَفقَهْ وَلَمْ يَخطُر لَها أنَّ النِّعمَةَ والرَّحْمَةَ لـمُختارِيه، وافتِقادَهُ لقِدِّيسِيه"( الحكمة 4: 7-15). يُعطِينا هذا النَّص مفهومًا جديدًا للموت، يساعِدنا على محاولة فَهْم حِكمةِ الله مِن انتقال أحبّائنا، إذ يقول لنا إنّ الشَّيخوخة لا تُقاس بالتَّقدُّم في السِّن، إنَّما تُقاس انطلاقًا مِن نضوج الإنسان فِكريًّا، ونزاهَة حياته عن العَيب. حين تكون حياةُ الإنسان مُنزَّهة عن كلّ عَيبٍ، فهذا يدلّ على استعداده للقاء الربّ يسوع، وبالتّالي غيابُ الإنسان في الجسد لن يكون مَصدرَ حُزنٍ لأحبّائه بل مَصدَر فرحٍ، لأنّ فقيدَهم سيلتقي بالربّ. إنَّ عبارة "الشُّعوب"، تُشير إلى الشُّعوب غير اليهوديّة. إنَّ هذا النَّص يُعطي تعزيةً لأهل الفقيد، لذا على المؤمِن الّذي يَرغب في تقديمِ تعزيَةٍ روحيّة للعائلات المحزونة، أنْ يُحفِّزهم على قراءة هذه الكلمة الإلهيّة والتأمُّل بها، أَو أَقلَّه نَقل فَحواها لهم بكلِّ أمانةٍ. في أوقات الحُزن، يَصعُب على الإنسان المحزون الإصغاء إلى كلمات التَّعزية، لذا على المؤمِن الّذي يرغب في تقديم تعزيةٍ روحيّة للعائلة المحزونة، انتظار الوقت المناسب لذلك. عندما يبدأ المحزون بِطَرح الأسئلة حول حكمة الله من موت فقيده، فهذا يُشير إلى أنَّ الوَقت قد حان، لتقديم التعزية له من خلال كلمة الله. إنَّ الإنسان الّذي يشارِك في رُتبة زواجٍ، أو احتفال معموديّة يجد صعوبةً في التَأمُّل في كلمة الله؛ على عَكسِ الإنسان المحزون، الّذي يتلهَّف لِسَماعها لأنّه يجد فيها تَعزيةً له، وتُساعِدُه على تَقَبُّل واقِعِه الجديد. إنَّ الإنسان المحزون يحتاج إلى مرافقة الآخَرين له أكثر من الـمَريض، فالـمَريض لا بُدَّ له من الشِّفاء عاجلاً أم آجلاً، أمّا إنْ كان مَرَضُه لا أملَ في شِفائه، فإنّ المريض يكون قد اعتاد على تحمُّل الألم. إنّ حصول العائلة المحزونة على تعزية من الربّ تعني حصولها على الشِّفاء مِن أَلمِ الموت الّذي تعرَّضت له، ولكن هذا لا يعني أنّ جُرحَها سيختفي، بل سيُحافِظ على آثاره في حياة هذه العائلة.

إنَّ الموتَ، من حيث الشَّكل الخارجيّ، هو تَوقُّف الجِسِم عن الحَرَكة، وبدايةُ انفصال جَسد المنتقل حِسيًّا عن أنظار الآخَرين. أمّا من حيث المضمون، فالموت هو انفصالٌ قَسريٌّ للنّفس عن ارتباطِها بالجسد. أمّا مِن حيث النتيجة، فالموت هو حَدَثٌ مُوجعٌ إذ يُلغي من دائرة نَظَرِك البشريّ، الحضور الحِسيّ لهذا المنتقل، مُلغيًا كلّ تفاعُلٍ بشريٍّ معه. حين دَخل الموت إلى الطبيعَة البشريّة، جَعل البشر عُرضةً للفساد، غير أنّنا نحن المسيحيّين، قد نِلنا دواءً لعدم الفساد هو الربّ يسوع الّذي قام من بين الأموات. تَهَكَّم أحدُ الشُّعراء على الموت، فوقفَ أَمامه وخاطبه طالبًا منه الاستمرار في العَمل لأنّه يُساهِم من خلال عَمَلِه في لِقاء أحّبائنا بالربّ. إنّ الموت هو راحةٌ، بالنِسبة للمؤمِنِين بالمسيح، وبالتّالي عندما ينتقل أحد الأحبّة من هذا العالم، فَهو يذهب ليرتاح مع الربّ. إنّ الموت هو الأخُ الأكبر للنّوم، والنُّوم هو الأخ الأصغر للموت. إنّ الإنسان الّذي يريد أن يرتاح مِن تَعَبِ النَّهار، يذهب إلى النَّوم، ليتمكَّن من الاستيقاظ في اليوم التّالي بكلّ نشاطٍ وحيويّة. كذلك في الموت، يرتاح الإنسان من أعمال هذه الحياة من خلال نوم الموت، ليستيقظ في الحياة الثانية على نور وجه الربّ. ولكنَّ البعض يستعجلهم الموت، فينتقلون من هذا العالم إلى الحياة الثانية باكرًا، أي في عُمر الطّفولة أو الشّباب، ومنِهم مَن يَستمْهلُهم الموت، فيموتون في سِنِّ الشَّيخوخة. في اليوم الأخير، سيطلُب الربُّ من المنتقِلين من هذا العالم الفاني الاستيقاظ من نوم الموت الجسديّ للقيامة الأبديّة، فتَكون "مَقبرة الموت"، إذ ينتهي الموت مِنَ الوجود. لا يستطيع المؤمِن إيجاد تفسير إيماني لوقت انتقال الأحبّاء من هذا العالم. إنّ المعموديّة ترمز إلى موت المسيح وقيامته الثّلاثيّة الأيّام. في الكنيسة الأرثوذكسيّة، يُغطَّسُ المعمَّدُ ثلاثَ مرّاتٍ في الماء، تعبيرًا عن موت المسيح، وثم يُرفع الـمُعمَّد من الماء تعبيرًا عن قيامته مع المسيح. وبالتّالي، حين ينتقل المعمَّدُ من هذا العالم، فإنّه لا يموت، بل ينتقل من هذا العالم الفاني للقيامة مع الربّ الّتي حصل عليها يوم عِمادِه واقتباله المسيح. إذًا، ينتقل المؤمِن من هذا العالم للقيامة على مِثال الربّ يسوع. في المسيحيّة، تُذكِّر الكنيسةُ المؤمِنَ، في إعلانه الأوّل لقبوله المسيح في حياته ، بالمعموديّة، أنّه سيموت مع المسيح ويقوم معه. وهذا ما يؤكِّده لنا بولس الرَّسول بالقول: "أَوَ تجهلون أنَّنا، وَقَدْ اعتمدْنا جميعًا في يسوع المسيح، إنمّا اعتَمدنا في مَوته فدُفِنّا مَعَه في موته بالمعموديّة لِنَحيا نَحنُ أيضًا حياةً جديدةً كما أُقيمَ الـمَسيح من بين الأموات بمجدِ الآب؟ فإذا اتَّحدنا به فَصِرنا على مِثاله في الموت، فسَنَكون على مِثالِه في القيامة أيضًا" (رومة6: 3-5).

في الليّتورجيّة الأرثوذكسيّة، لا يُسمّى الموت موتًا بل رُقادًا. فكلمة "موت" في اليونانيّة، مشتَّقة من فِعل "كيماتي"، أي "نام". في القديم، كان يتمّ إضاءة المقابر في يوم سبت النُّور، وزيارة مقابر الآباء القدِّيسين الرّاقِدين، النِّيام على الإيمان المستقيم، كما تُقام الصّلوات الطقسيّة. إنّ الـمَقبَرة، كانت تُسمّى عند الأقدَمين، "كِيمِيتِير"، أي غُرفة النَّوم، وفي تسميَتها كذلك، كان المؤمِنون يُعبِّرون عن إيمانهم بالربّ يسوع الّذي أفقد بموته الموتَ كلّ سُلطانٍ له على البشر. إنّ الإنجيليّ يوحنّا يُخبرنا عن مكان دَفن الربّ يسوع، فيقول:"وكان في الـمَوضِع الّذي صُلِبَ فيه بُستان، وفي البُستانِ قَبرٌ جَديد لَم يَكُن قد وُضِع فيه أحدٌ" (يو 19: 41). إذًا، وُضِع يسوع في قبرٍ داخل بُستانٍ، وبالتّالي الـمَقبرةُ هي مكانٌ يشير إلى الحياة، لا إلى الموت، كما هي حال بعض المقابر في كنائسِنا، مُظلمةً تُدخِل الكآبة إلى نفوس زائريها. إنّ الربّ يسوع قد رَقَد في القبر ثلاثة أيّام، ونحن أيضًا نرَقدُ ثلاثيّة معيّنة، قد تكون ثلاثة أيّام، كما قد تكون مُدَّة زمنيّة أطول، لا نستطيع تحديدها في هذه الحياة. إنّنا نَرقُد رقدة الموت ولا نستيقظُ منها إلّا في يوم القيامة العامّة، أي عند مجيء الرّاعي، الربّ يسوع. إنَّ الكنيسة تُعيِّد للقدِّيس في يومِ رُقادِه، أي يوم انتقاله، من هذا العالم إلى الحياة الثانية. في يوم "رُقاد السَّيدة"، نحتفل بهذا العيد بإقامة الصّلوات، ونهلِّل فَرِحين لِذِكرى انتقال أمِّنا العذراء من الموت الأرضيّ إلى الحياة الأبديّة.
لقد تغيَّر مفهوم الموت، بالنسبة للمؤمِنِين، إذ قد أصبح مُناسبةً للفرَح لا للبُكاء والنُّواح. وهنا يُطرَح السؤال، حول كيفيّة تعزيَة الحزانى، عند انتقال أحد الأحبّاء من هذا العالم، في رَقدة الموت. يستطيع المؤمِن أن يُعزِّي المحزون بطُرقٍ مختلفة: أوّلاً من خلال زيارته وتقديم كتابٍ له قادِرٍ على تعزيَته. إنّ المحزون يجد تعزيةً له في قراءته للكتاب المقدَّس وكذلك في قراءته للكُتب الرّوحيّة. وعلى سبيل المِثال لا الحصر، يمكن للمحزون الاستعانة، بكتاب للمطران جورج خُضُر، وهو بعنوانِ "وُجوهٌ غابت"، كما يمكنه أن يقرأ عِظة القدِّيس يوحنّا الذَّهبيّ الفَم الآخَرين، بعنوان:"لا تبكوا". كما يُمكن اللُّجوء إلى تقديم أيقونة للمحزون، والصّلاة معه أمامها، فنُساعِده بتلك الطريقة على إقامة حِوارٍ مع الله، فينالُ منه التَّعزية. في الجنّاز المارونيّ، يتمّ إنشاد هذه الترنيمة: "ليلُ الموتِ يَطويني، نُوري في اللَّيل الصّليب. في الأهوالِ يَهديني، وَجهَ المرجُوِّ الحبيب". في الموت، يفنى جسد الإنسان، فيُصبح غير مرئيٍّ للعيون البشريّة. في رَقدة الموت، يُصبح الصّليب نُورَ الإنسان الـمُنتَقِل من بَيننا. في الجنّاز الأرثوذكسيّ، يرتِّل الحاضِرون ترتيلة: "فليَكُن ذِكرُهم مُؤبَّدًا". وهذا لا يعني أن يُخلَّد اسم المنتقل في الأمور الأرضيّة، بل تعني أنَّ الله قد ذَكَر المنتقل مِن بيننا في ملكوته، على مِثال لِصّ اليمين. إنّ الكنيسة تُصلِّي للموتى، طالبةً من الربّ أن يَذكُرهم في ملكوته، فالصّلاة وَحدها القادرة على مساعدتهم للوصول إلى الملكوت. حين يُدرِك المؤمِن معنى الموت المسيحيّ، يفقد الموت قُدرَته على إخافته من جديد. إنّ الإنسان يخافُ من الموت، لأنّه يجهل الـمَصير الّذي سَيَلقاه بعد انتقالِه من هذا العالم، ولهذا السّبب يُسيطر عليه الخوف من الموت. إنَّ تعزية الحزانى بعبارة "المسيح قام حقًّا قام"، تُعبِّر عن رغبة الـمُعزِّي في مشاركة المحزون بشارة قيامة المسيح من الموت، الّتي وَصَلت إليه من خلال مشاركته في الفِصح، فيتفاعل المحزون مع عبارة "المسيح قام"، قائلاً "حقًّا قام"، ليؤكِّد للآخر أنّه يتشارك معه في الإيمان نفسه بالقيامة. إذًا، إنّ عبارة "المسيح قام، حقًّا قام"، تختصر إيماننا بالربّ يسوع، ونُعلِن من خلال تردادها أنّنا عِشنا القيامة، ونعيشها اليوم، ومتأكِّدون من عَيشِها في الـمُستَقبل، فنَحضر رُتبة الدَّفن بإيمانٍ قويّ بقيامة الموتى على مِثال قيامة المسيح من بين الأموات.
في رُتبة دَفن الموتى في الطَّقس الماروني، توجد نصوص كتابيّة متعدِّدة، وجميعها تُساعِد على عيش رجاء القيامة، ولكنْ في الكنيسة الأرثوذكسيّة لا يُوجَد إلّا نصٌ إنجيليّ واحدٌ ونصٌّ رسائلي واحد. إنّ الرِّسالة الّتـي تُتُلى في رُتبة الدَّفن الأرثوذكسيّة هي مِن رسالة بولس الأولى إلى التسالونيقيِّين (1تس5: 1-11)، وفيها يدعونا الرَّسول إلى عدَم الحزن على أمواتنا كمَن لا رجاء لهم. أمَّا النّص الإنجيليّ، فيقول لنا فيه الربّ يسوع: "الحقَّ الحقَّ أقول لكم، تأتي ساعةٌ - وقد حَضَرتِ الآن - وفيها يَسمَعُ الأمواتُ صَوتَ ابنِ الله، والّذين يسمَعون يحيَون"، ثمّ يُضيف قائِلاً: "لا تعجبوا من هذا: فتأتي ساعةٌ فيها يَسمَعُ صوتَهُ جميعُ الّذين في القبور فيَخرُجون منها، أمّا الّذين عَمِلوا الصّالحات، فيقومون للحياة، وأمّا الّذين عَمِلوا السَّيئات فيقومون للقضاء" (يوحنّا 5: 24-29). إنَّ الربّ يسوع في هذا النَّص يتكلَّم عن ساعَتين مُختَلِفَتين: السّاعة الأولى، "الّتي حَضَرت الآن"، هي ساعة الدَّفن، وهذه السّاعة لا تعني الـمنتقل مِن بيننا، فهو غيرُ قادِرٍ على سماع صوت ابن الله، لذا فإنّ الأموات الّذين يتكلَّم عنهم النَّص هُم نحن الّذين لا نزال أحياء في هذه الحياة. فهذا الإنجيل قد اختارته الكنيسة كي يُتلى في ظَرفِ الموت، من أجل فائدة الحاضِرين، لا من أجل الـميِّت الّذي انتقل من هذا العالم للرّاحة الأبديّة. أمّا السّاعة الثانية الّتي يتكلَّم عنها الربُّ يسوع، فَهي ساعة الدَّينونة، يوم القيامة العامّة، الّتي يسمع فيها الأموات في الجسد صوت الربّ، وينال كلُّ واحدٍ منهم مكافأته على أعماله في هذه الحياة. إنّ الحاضِرين في رُتبة الدَّفن، مدعّوون عند سَماعِهم صَوتَ ابن الله، في الإنجيل والرِّسالة، إلى إعلان قرارهم باتِّباع يسوع من خلال التّوبة والعودة إليه، أو رَفضِه. في دَعوة يسوع للتّلاميذ، يُخبرنا الإنجيل أنَّ أحد الّذين دَعاهم يسوع، طَلب الإذن لَدفن أمواته، قَبل اتِّباعه، فكان جواب يسوع له: "دَعِ الموتى يَدفُنون موتاهم، وأمّا أنتَ فاذهَب ونادِ بملكوت الله" (لو9: 60). إنّ الإنسان الّذي لا يتبَع المسيح في هذه الحياة، يكون مِيِّتًا على الرُّغم من أنّه لا يزال في هذه الحياة. في رُتبة الدّفن الأرثوذكسيّة، يُردِّد الحاضِرون، خمسَ مرّات العبارة التّالية: "مُبارَكٌ أنتَ يا ربّ، علِّمني حقوقك". فالمؤمِن المحزون، خاصةً، يتساءل حول حِكمة الله، من موت هذا الإنسان، شابًّا كان أم عجوزًا، وقد لا يَصِل إلى جوابٍ لسؤاله في الوقت نفسه، فالله يختارُ الوَقت المناسِب ليكشِف حِكمته للبشر. وفي انتظار ذلك الوَقت، لا يَسَع الإنسان إلّا أن يُسبِّح الله، وأن يَطلُبَ منه أن يكشِف له حِكمَتَه، من خلال إنشاد المزامير والتّرانيم، على مِثال: "يا ربَّ القوّات، كُن معنا"، أو "إلهي إلهي، لماذا ترَكتني". وفي هذا الإطار نفسه، يقول لنا الله بلِسان إشعيا النبيّ ، نقرأ: "فإنّ أفكاري ليسَت أفكارَكُم، ولا طُرُقُكم طُرُقي، يقول الربّ. كما تَعلو السّماوات عن الأرض، كذلك طُرُقي تَعلو عن طُرُقِكم وأفكاري عن أفكارِكم، لأنّه كما ينزِلُ الـمَطَرُ والثَّلجُ من السّماء، ولا يَرجِعُ إلى هُناكَ، دُونَ أن يَروي الأرض، ويجعلها تُنتِجُ وتُنبِتُ، لتؤتي الزّارِعَ زَرعًا والآكِلُ طَعامًا، فكَذَلِكَ تكون كَلِمَتي، الّتي تخرُجُ من فَمي: لا تَرجِعُ إليَّ فارِغَةً، بل تُتِّمُ ما شِئْتُ وتَنجَحُ فيما أرسَلْتُها له"(55: 8-11).
يُخبرون عن القدِّيس إيرونيموس، أنّه ذهب في أحد الأيّام، إلى دَيرٍ فقَرَعه، ففتَح له الأخ المسؤول وطلب منه الانتظار في قاعة الاستقبال. وفي أثناء انتظاره، جال القدِّيس إيرونيموس نَظَره في المكان، فرأى إخوةً عامِلين والبَسمة تَعلو وجوههم، فاستوقف أحدهم ليسأله عن سبب هذا الفَرَح الـلّافِت، وإنْ كان هناك عيد يحتفِلون به اليوم، يدعوهم إلى هذا الفَرح. فكان جواب الأخ له: إنّ الفرَح هو أحد قوانين هذا الدَّير، لأنّ ملكوت الله موجود في داخل كلّ مسيحيّ وهو مدعاةٌ للفرح. إذًا، على كلِّ مؤمِنٍ، ولو اعترضه الحزن والصّعوبات في هذه الحياة، أن يَسعَ إلى المحافظة على فَرَحه الحقيقيّ وسلامه الدّاخليّ، لأنّ الفرح هو سِمة المؤمِنِين، أمّا الحُزن فهو سِمة الأشرار وغير التّائبين. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت المحاضرة مِنْ قِبَلِنا بتصرّف. تتمة...
31/3/2019 عظة الأب نايف سمعان البولسي في الرياضة السنوية إنّ الصّلاة هي الوسيلة الأقرب إلى قلب الله
https://youtu.be/dKHI6mx8qj8

عظة الأب نايف سمعان البولسي
في القدّاس الإلهيّ من أجل الراقدين على رجاء القيامة
الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير مار جرجس- بحردق، المتن

31/3/2019

باسم الآب والابن والرُّوح القدس، الإله الواحد، آمين.

في هذا النَّهار المبارك، أتمنّى لكم رياضةً مباركةً، فتُثمر حياتكم بالبركات الإلهيّة، والنِّعم الروحيّة.
إنّ العِلمانيّين أمثالَكم، يُشكِّلون أمثولةً لرِجال الدِّين في حبِّهم للربّ وفي انقطاعهم عن العالم وفي الاختلاء مع الذّات في سبيل تقدُّمهم الروحيّ في مسيرتهم الإيمانيّة، والارتقاء نحو الله. إنّ الرِّياضة الروحيّة تتطلّب وجود كاهن من أجل إلقاء كلمة روحيّة على المؤمِنِين وتأمين الاعترافات.
إنَّ أُسس الرِّياضة الروحيّة، هي: الانقطاع عن العالم من أجل التّفكير في الله وفي الذّات وفي الآخَر. وهذه الثّلاثة تعكس أُسس الحياة المسيحيّة الّتي يَكثر عنها الكلام في زمن هذا الزّمن المبارك، وهي: الصّلاة والصّوم والصّدقة. إنَّ الصّلاة هي علاقة الإنسان بربِّه، والصوّم هو علاقة الإنسان بذاتِه، والصدّقة هي علاقة الإنسان بالإنسان الآخَر. على المؤمِن أن يلتزم بهذه الأسُس الثّلاثة للحياة المسيحيّة كي يعكس صورة الله في حياته. إنّ الربّ يسوع قد عاش هذه الأسُس الثّلاثة في حياته: إذ كان ينعزل للصّلاة، فيُفكِّر في الأعمال الّتي ينوي القيام بها، فكانت علاقته الطيّبة مع جميع المحيطين به تعكس علاقته بالله أبيه.
إنّ بعض المؤمِنِين ينظرون إلى الصّلاة على أنّها مَلجأ لهم، فينعزلون عن العالم، إذ يُمضون وقتًا طويلاً في الصّلاة وإضاءة الشّموع، وتقديم النُّذورات لله، من دون أن تتمكّن صلواتهم هذه من التأثير على حياتهم اليوميّة وتغييرها. إخوتي، إنَّ الصّلاة ضروريّة ولكنّها وحدها غير كافية. وهذا ما يؤكِّده لنا الربُّ يسوع إذ قال لنا في إحدى شفاءاته: "إنَّ هذا الجِنسَ لا يَخرج إلّا بالصّوم والصّلاة". وفي الإطار نفسه، تقول لنا الأمّ تريزيا دو كالكوتا، إنَّ صلاتنا إلى الله قد لا تُغيِّر بالضّرورة ظروفَنا الحياتيّة اليوميّة، ولكنّ الله قادرٌ مِن خلال صلاتنا له أن يُغيِّرنا مِنَ الدّاخل. وبالتّالي، مهما صَلَّيت إلى الله، فإنَّك ستبقى مُشرَّدًا وفقيرًا ومتألِّمًا وموجوعًا، ولكنّ نظرتَك إلى ذاتِك ستتغيّر، إذ إنَّ الله سيُساعِدك على اكتشاف أنّكَ أنتَ أهمّ من صِحتّك وأموالك وممتلكاتِك الأرضيّة. على المؤمِن السَّعي إلى التأقلُم مع ظروفِه الحياتيّة مهما كانت صَعبة، لأنّ هَدَفه الأساسيّ هو الوصول إلى الله. قد يملك الإنسان أموالاً طائلةً، وممتلكاتٍ أرضيّة لا تُحصى، ومراكز سُلطويّة مهمّة، من دون أن يتمكَّن من الوصول إلى الله. إذًا، ليست الممتلكات شرطًا أساسيًّا لوصول الإنسان إلى الله. ولكنْ إذا تغيَّر الإنسان من الدّاخل بفضل صلاته، فإنَّه سيتمكّن من الوصول إلى الله والحصول على خلاص الربّ والعيش بقُربه. لهذا السّبب يلجأ المؤمِن إلى الرِّياضات الروحيّة لأنّها تُشكِّل حافزًا له للاختلاء والصّلاة.

إنّكم اليوم تُشارِكون بالرِّياضة الروحيّة كأعضاء في جماعة "أذكرني في ملكوتك". إنَّ بعض المؤمِنِين في رعيّتي يُثابرون بنوعٍ خاصّ على المشاركة في قدّاس جماعة "أذكرني في ملكوتك"، الّذي يُقام مرّة في الشَّهر، لِما لِذِكر أمواتهم من أهميّة في حياتهم، إذ إنّهم يؤمِنون أنّ الصّلاة لأمواتهم ضروريّة ونافعةٌ لهم.
إنَّ الصّلاة وحدها لا تكفي لخلاص الإنسان: فالإنسان الّذي يريد الحصول على الخلاص في الحياة الثّانية، عليه أن يبدأ بناء خلاصِه مِن هذه الحياة. لا يستطيع الإنسان بِعَقله البشريّ أن يُدرِك ما هو مصير أمواته، ولكنّه يستطيع أن يُدرِك ذلك من خلال إيمانه بالربّ يسوع: فالإنسان بعد انتقاله من هذا العالم، يذهب إلى المسكن السّماويّ الّذي أنشأه في حياته الأرضيّة. فالإنسان الصّالح في هذه الحياة، هو إنسانٌ قد بنى بيتًا بالقُرب من الله، فتتحقَّق فيه الصّلاة: "أراحك الله في بلدة الأحياء وفتَح لك باب الفردَوس". إنَّ المسكن السّماويّ لا يَبنِيه المؤمِن بعد انتقاله مِن هذه الحياة، بل يَبْنيه مِنَ اليوم، في حياته الأرضيّة. لذا، على كلّ مؤمِنٍ أن ينظر إلى ذاته، فيرى إنْ كان قد بدأ بإنشاء ذلك المسكن، وإن لم يكنْ قد فَعَل بعد، فليَبدأ منذ اليوم بِبِناء مسكنه السماويّ، قبل أن يحين موعد انتقاله من هذا العالم، فنذكُره في صلواتنا، قائلِين لله: "أُذكُره يا ربّ في ملكوتك". إنَّ ذِكر الموتى مع جماعة "أذكرني في ملكوتك"، لا يتمّ مرّة واحدة في الشَّهر، بل هو يتمّ بشكلٍ يوميّ، فجماعة "أذكرني في ملكوتك"، قد انتشرت في كافّة أقطار العالم، وهي تقوم بذِكر الموتى كلّ يومٍ في رعيّة معيّنة من العالم، استنادًا إلى لائحة القدَّاسات الموجودة في الرِّسالة الشَّهريّة الّتي توزَّع في الكنائس. يُخبرون عن مدير في إحدى الشَّركات قد قام بطرح السؤال على موظّفيه في إحدى الاجتماعات، قائلاً: ما هي أغنى أرض في كلّ العالم؟ فأجابه البعض، بأنّ دُول الخَليج هي الأغنى في العالم بسبب وَفرة النِّفط فيها، وآخرون قالوا له إنَّ بعض الدُّوَل الأفريقيّة الغنيّة بالألماس هي الأغنى في العالم. عندها تدخَّل المدير وقال لهم: إنَّ أغنى أرض في العالم هي "المقبرة"، لأنّها تضمّ ملايين من البشر الّذي ماتوا من دون أن يتمكّنوا من تحقيق أفكارهم وطموحاتهم بسبب عدم مشاركتهم الآخَرين بها. عند سماع الكاتب "تود هنري" هذا الكلام، -الّذي كان حاضِرًا في هذا الاجتماع-، قرّر إصدار كتابٍ له، بعنوان: "مُتْ فارغًا"، دافعًا قُرّاءه إلى تفريغ كلّ أفكارهم ومشاركتها مع الآخَرين، ليتمكّنوا من إفادة الآخَرين بها وتحقيقها، قبل موتهم الجسديّ. وهنا أَستغرب تصرُّف بعض المتفوِّقين في أعمالهم الّذين لا يقبلون مشاركة الآخَرين في سِرِّ نجاحهم، قائلِين: إنَّ هذا الأمر هو "سرّ الـمِهنة".
إنّ جسد الإنسان سيذهب بعد انتقاله من هذا العالم إلى الفناء، وسيتآكَلُه دود الأرض، لذا عليه أن يُشارِك أفكاره مع الآخَرين كي لا تنال المصير نفسه الّذي سيناله جسده، فيتآكَلُها دود الأرض، عِوَض أن تتمّ مشاركتها مع الآخَرين للاستفادة منها. على الإنسان ألّا يتمسّك بالأرضيّات لأنّها زائلة، فَما ينتقل مع الإنسان بعد موته، هو غير المنظور، أي النَّفس، أمّا الجسد المنظور فسيكون طعامًا شهيًّا لِدُود الأرض. لذا على المؤمِن أن يسعى إلى إفراغ كلّ ما في قلبه من حُبٍّ وعطاء للآخَرين قبل أن تحين ساعةُ مغادرته لهذا العالم.

إخوتي، إنّ الإنسان العظيم ليس مَن يملك الكثير من الممتلكات الأرضيّة، بل مَن يعمل على مُشاركة الآخَرين بأفكاره الإبداعيّة ويعمل على تحقيقها، أو يدفع الآخَرين إلى إنجازها بعد موته. فأيّها الإنسان، ما نَفعُ أفكارك بعد موتك، إنْ كُنتَ منغلقًا على ذاتك؟ فحين تموت ستُدفَن في قبرٍ لا يتعدَّى طُوله مِترَين، وستُوضَع إمّا تحت ألأرض، أو في بناءٍ حجريّ جميل! إنَّ أغنى ما في الإنسان هو فِكره الموجود في داخله، لذا فليسعَ كلُّ واحدٍ منّا إلى مشاركة هذا الغنى مع الآخَرين فيذهب إلى القبر فارغًا، وهذا ما نحن مدّعوون إليه كمسيحيِّين. فالربّ الّذي يملأنا من نِعمٍ ومواهب، يدفعنا إلى إفراغ ذواتنا بمشاركة الآخَرين، أفكارنا، فيتمكّن الربُّ مِن مَلئنا من جديد بمواهِبه ونِعمه. فكلُّ إنسانٍ يملك فِكرةً جديدةً، فليُسلِّمها للآخَرين كي تكون حياته مثمرةً بالحبّ والعطاء وتحقيق الطُّموحات. إنَّ الإنسان ليس نَبعًا لا يَنضُب مِنَ الأفكار، بل هو يغتني مِن خلال استقباله لأفكار الآخَرين، ودَمجِها بأفكاره، فتَتَبَلْور وتتمكّن من تحريك المجتمع والمساعدة على تقدُّمه. إذًا، نحن مدعوِّون اليوم إلى إفراغ ذواتنا والذّهاب غلى القبر فارغين كي لا تكون أفكارُنا طعامًا لذيذًا لِدُود الأرض.

في هذه الجماعة، نُصلِّي من أجل أمواتنا، إذ نشعر أنّ الصّلاة تربُطنا بأمواتنا، ولكنّ الصّلاة في الحقيقة لا تربُطنا فقط بأمواتنا، إنّما تربِطُنا أيضًا بالأحياء وبالله خالِقنا أيضًا. إنّ الصّلاة هي وسيلة قديمة حديثة تمّ اختراعها، من أجل مساعدتنا على التّواصل مع الآخرين، وهذا ما لم تنجح وسائل التّواصل الإجتماعيّ في الوصول إليه: فعلى الرُّغم من تَطوُّر العلم، فإنّه لم يتمكَّن من جَعلنا قادِرين على التّواصل بشكلٍ فعّال مع الأحداث الّتي تَحدُث خارج نطاق محيطنا: فآلات التَّصوير، على سبيل المثِال، قد تنقل لنا حَدَثًا مُعيّنًا يحدث في العالم، ولكنّها عاجزة عن السّماح لنا بالمشاركة فيه شخصيًّا والشُّعور به، كما أنّ أيّ عِطلٍ تقنيّ قد يطرأ يمنعنا مِن مُتابعة الحدث. أمّا الصّلاة فهي الوسيلة الوحيدة القادرة على السّماح لنا بالتّفاعل مع الآخَرين، فهي تجعلنا نشعر بحضورهم في الصّلاة، ولا يستطيع أيّ عطلٍ تِقنيّ إيقافنا عن التوّاصل معهم، على الرُّغم من بُعد المسافات. فالصّلاة هي الوسيلة الأقدم والأحدث، كي نتمكّن من التّواصل مع الإنسان الحيّ الّذي نُحبُّه، ومع الميِّت الّذي فَقَدناه، ومع الله الّذي خَلَقنا. لذا علينا أن نُكثر من الصّلاة. إنَّ الصّلاة هي الوسيلة الأقرب إلى قلب الله، إذ نستطيع من خلالها ان ننشر حُبّ الله لنا للآخَرين.

في هذا القُدّاس المبارك، الّذي نُقدِّمه من أجل هذه الجماعة، الّتي نَذكر من خلالها أمواتَنا بشكلٍ يوميّ لا شهريّ، نشكر الربّ على حضوركم وعلى التزاماتكم، وعلى هذه الرِّسالة، عسى أن تنطلق في كلّ الرَّعايا، وأتمنّى أن تنتشر أكثر في رعيّتي الأساسيّة. ونتمنّى لكم أن تكون هذه الرِّياضة سببًا لِتَنوير حياتكم وقلوبكم، فتكونوا على صِلة أفضل بالربّ أوّلاً، ثمّ بِذَواتِكم، وتنعكس علاقتكم بالربّ وبِذَواتكم علاقةً طيّبة مع الآخَرين. آمين.

ملاحظة: دُوِّنت العظة من قِبَلِنا بتصرُّف. تتمة...