"أريد رحمة لا ذبيحة" (هو 6:6)
الخوري جوزف سلوم
الرياضة الروحيّة السنويّة لجماعة "أذكرني في ملكوتك"
دير مار يوحنا الحبيب لراهبات القدّيسة تريزا الطفل يسوع - القليعات
26/3/2011
أثناء بحثنا عن معنى كلمة "رحمة" في الشُّروحات والمصطلحات اللاتينية الموجودة، نجدُ أنَّه ليس هناك من تمييزٍ بين الرحمة والرأفة والصُّفح. أما في مصطلحات بني اسرائيل (أي اليهود)، فيلتقي تياران أو فكرتان ببعضهما مكمِّلَين للمعنى. الفكرة الأولى هي "الرأفة"؛ الرَّبُّ رؤوف. والفكرة الثانية هي الأمانة؛ الرَّبُّ يرحمنا وأمينٌ لنا. والإنسان قد لا يكون رؤوفاً أو أميناً أو حتى رحوماً ولكنَّ الرَّبَّ حتماً كذلك. والرَّأفة بالعبريَّة تعني "رحاميم"، وفي الذِّهنيَّة السَّامية – أي في بلاد ما بينَ النَّهرين وعند جماعة بني اسرائيل- نجدها ببعدَين أو ثلاثة أبعاد؛ الرَّأفة – الرَّحمة – والقلب (الأحشاءُ رحيمٌ: ملوك 3/26). أي أنَّ القلب رحيمٌ، وقد تعني الحنانَ الذي يظهرُ في تصرفاتنا. وهذه المعاني لا تتجلى إلا بالعمل، فالصُّفح عن الإهانات يقرِّبُ القلوبَ مجدَّداً. وللرأفة بُعدٌ آخر بالعبرية وهو "حسي"، وتعني التقوى أو العلاقة الروحية التي تربط شخصَين ببعضهما البعض، حتى أنها تتنامى لتحتمل أحيانا معنى الأمانة. والأمانة التزامٌ داخليٌّ تجاه الذَّات أولاً، ورحمةٌ ومحبَّةٌ.
الله يظهرُ اهتمامَه تجاه الشَّقاء البشريِّ، والإنسان أيضاً مدعوٌّ أن يبادل قريبه رحمةً، على مثال تلك التي أُعطيَت له. هناك ثلاثةُ أفكارٍ أساسيَّةٍ ينطوي عليها موضوعنا هذا:
1- هويَّةُ الله: الله هو الرَّحمة والرَّأفة.
2- الله يطالبُ بالرَّحمة.
3- كيف نحيا الرحمة؟ هل نحن في واقع حياتنا وممارساتنا تجاه الآخرين نحيا الرَّحمة؟ هل نحن رحماء ومحبون للبشر؟
وتظهر رحمة الله ورأفته على النَّاس البائسين أولاً، ثم على الخطأة وأخيراً على الناس أجمع، أي أنَّ رحمته شاملة. وإذا قرأنا المزامير، وجدنا أنَّها مفعمةٌ بالرَّحمة؛ "ارحمني يا اللهُ كعظيمِ رحمتِكَ"، "احمدوا الرَّبَّ فإنَّ رحمته إلى الأبد".
ولكن، متى يُظهِر الله رحمته؟ ولمن؟ للنَّاس الذين يصرخون إليه وهم متألمين، لمن هم في الضِّيق ولا يُظهرون ضيقَهم إلَّا أمام اللهِ صارخين إليه كما في المزامير "بالدُّموع أبلُّ فراشي" و "تفكَّكَت عظامي". أي لا يدرك أسرَارنا إلا وسادتنا، ولا يعلم بدواخلنا سوى الله وحده.
يدافعُ الله في الكتاب المقدَّس عن المساكين والأرامل والأيتام، لأنَّه الحافظ لهم. يروي لنا العهد القديم قصَّة عبور الشَّعب في مصر لمدة 40 عاما، وقد تذمَّروا ولاموا وعتبوا عطاشى، فضرب موسى على الصَّخر وأخرج لهم المياه، فكَفُّوا عن التَّذمر، إلا أنهم عادوا وامتَقَعُوا بعد فترةٍ، فأرسل الرَّبُّ لهم المن والسلوى، فكفُّوا مجدَّداً ولكن لفترةٍ وجيزةٍ فقط. فخرجت حيَّاتٌ صغارٌ من أوكارها وراحت تلدغ الشَّعب، فمات كلُّ من آذاهُ سُمُّها، وامتعضَ الشَّعب. ولأنَّ اللهَ أمينٌ، أرسلَ لهم الحيَّة النُّحاسيَّة وقال لهم: "كلُّ من ينظر إلى هذه الحيَّة يشفى". ولم تُذكر في رواية العبور، أو الوصول إلى أرض الميعاد كلمة "رحمة" على الإطلاق، إلَّا أنَّ هذا كلَّهُ فعلُ رحمة. فالرحمة إذا ليست بالقول بل بالفعل "المسوا الرَّبَّ، واقتربوا منه ولا تخافوا" فيقلُّ التَّذمُّر.
يقول الرَّبُّ لموسى: "إنِّي نظرتُ إلى مذلَّةِ شعبي". فما يحنِّن قلب الله علينا هو ضعفنا، خطيئتنا، ألمنا و بؤسنا "نظرتُ وسمعتُ صراخه"، إذا فلنصرخ! فالرَّبُّ عاهد شعبه أن يسمعَ صراخَ من هو بائسٌ ومتألم، وما الصُّراخ إلا صلاةٌ حارَّة.
وبهذا نكونُ قد رأينا الوجهَ الأوَّلَ لله؛ إلهَ الرَّحمة للبائسين. أما وجهه الثاني فهو خلاص الخطأة. والخطيئة العظمى هي فساد القلب، ولا خطيئة أعظم من هذه إذ أنها والخيانة توأمان، ثالثهما قساوة القلب. ولكن رحمة الله تغلبُ، فالرَّبُّ يرحم من يشاء لأنَّهُ حنونٌ، والشَّعب الذي أخطأ قديماً كانت خطيئته عظيمةً، واستحقَّ عليها أشدَّ العقاب، إلَّا أنَّ الله أخذتْه الشَّفقة علينا لأنَّنا صرخنا إليه من عُمقِ شقائنا، فتغلغلَت ابتهالاتنا في فؤاده واضطَّرَمَت مراحمه. فأتى يسوع المسيح ورفع عنَّا آثامَنا برفعِهِ على الصَّليب. والله عادلٌ أيضاً، يرى خطايانا ويدركُ نوايانا، إلا أنَّهُ يرحمنا بالرَّغم من ذلك وهنا تكمنُ عظمتَه تعالى.
ورد في العهد القديم من الكتاب المقدس، أنَّه في زمنِ الملك يربعام ( 753 ق.م) اشتُهِرت المملكة الشَّمالية في إسرائيل بالرَّخاء والغنى والفسق والانحدار والضَّياع والخطيئة، ومن المعلومِ أن نشرَ البشارةِ في بيئةٍ مترفةٍ كهذه أمرٌ صعبٌ جدَّاً. فكلَّم الله "هوشَع" ، ومعنى اسمه "خلاصٌ" ليُرسله في مَهمَّة، وطلب منه قبلاً أن يتزوَّجَ بامرأةٍ زانيةٍ تدعى "جوما"، وينجبَ منها ثلاثة أولاد. أنجبوا في البدء صبيَّاً دُعِيَ "يزرعيل" ومعنى اسمه الله يزرع زرعاً جيداً من الروح، إلَّا أنَّ "جوما" عادت إلى الزنى ووضعت فتاةً دُعِيَت "لورحامة" ومعناه لا رحمة، ولم تتبْ أمها، وولدَت صبيَّاً أسمَوهُ "لوعماري" أي ليس من شعبي. و"جوما" هنا تمثِّل الشعب، فالله يعرفُ أنَّ شعبَه سيخونه باستمرار، ومع ذلك دخل معنا في عهد. "تقول المرأة الزَّانية: أسعى وراءَ عشَّاقي، يقدِّمون لي الماء والخبز والكتَّان والصوف.. هي تسعى وراء عشاقها لكنَّها لا تُدرِكهم، تلتمِسُهم ولا تجدهم، إنَّها لا تعرفُ أنَّني أنا الذي أعطَيْتها القمحَ والخبزَ والزيتَ وأغدقتُ عليها الفضَّة والذَّهب التي قدَّموها للبعلِ، لذلك أستردُّ حنطتي في حينها وأنتزعُ صوفي وكتَّاني اللَّذين تسترُ بهما عريها أمام عشاقها. ومع ذلك تسجدُ للبعل، أكشف عريها أمام عشاقها ولا ينقذها أحدٌ من يديَّ وأبطلُ كلَّ أفراحها وأعاقبها على أيام احتفالاتها بالبعل، عندما أحرقت بخورها وتزيَّنت بخواتهما وحليها جاريةً وراء عشاقها ونسيت أنَّني أنا الرب". نحن أيضا نسينا الرَّبَّ وبتنا نتتبَّعُ مصالحنا فقط متناسين الصَّلاة. ومن هنا أرادَ الله أن نمرَّ باختباراتٍ سلبيَّةٍ كي نعودَ إليه، لا كي يُهلكنا. ورد في الفصل الثاني من هوشع "آخذُها إلى البريَّة، إلى الصحراء، أُخاطبها بحنانٍ، فهناكَ أخاطب قلبَها". فالقلبُ إذا هو الأساس والأصل، والرَّبُّ يريد أن يحاكي قلوبنا ويحييها، لذلك عينا أن نُبدِّد قساوتها فيرحمنا الله.
ويقول أيضاً: "لأنِّي أنزعُ أسماء البعل من فمكِ وأبرم في ذلك اليوم عهداً، وأخطبكِ من جديد لنفسي إلى الأبد بالأمانةِ والعدلِ والمراحمِ.." وعندها يُعادُ زرع الأرض فتُعطي خيراتها لـ"يزرعيل"، وتُرحَم "لورحامة" ويقول الرَّبُّ لـ "لوعماري" أنتَ شعبي، أنتَ لي فيُجيبُه وأنتَ إلهي.
فالرَّبُّ إذا يريد أن يُظهرَ لنا رحمتَه ويغفر خطايانا بالرَّغم من عدم استحقاقنا، قائلاً "أريدُ رحمةً لا ذبيحة". فالطَّاعة ومعرفة الله أفضلُ من المحرقات، والأهم حتماً هو عودتنا إلى الرب من جديد خالعين ثوب الكبرياء والغرور وقساوة القلب، مُرتدين قلبا منكسراً متواضعاً رحيماً لا يقدِّم محرقةً، بل يخدم الرَّبَّ مدى الحياة. يقول الله على لسان أشعياء النبي "ليَتُبِ المنافقُ إلى الرَّبِّ فيرحمه" ويقول في مكانٍ آخر "الله لا يُمسِكُ غضبَهُ إلى الأبدِ"، فهو يحبُّ الرحمةَ، يرأف بنا ويدوس آثامنا ويرمي في أعماق البحر خطايانا. "ارحمني يا الله كعظيم رحمتِكَ وكمثل كثرة رأفتِكَ امحُ مآثمي" (مز:50). وفي المسيحيَّةِ يُمنعُ تبرير الخطيَّة كما يُمنع التَّذنيبُ، أي عقدة الذَّنب.
أمَّا الفكرةُ الثَّالثةُ فهي الرَّحمة الشَّاملة. ما الذي يضع حدَّاً لرحمة الله؟ إنَّه في الحقيقة القلب الخاطئ القاسي. يقول يشوع بن سيراخ: "رحمةٌ لقريبكَ"، أما رحمة الله فهي لكل إنسان. "الرب رؤوفٌ رحيمٌ طويل الأناة جزيل الرحمة لا يسخطُ على الدَّوام ولا إلى الأبد يحقدُ، لا على حسب خطايانا عادانا ولا على حسب آثامنا جازانا، كرأفةِ أبٍ على بَنيه رأف الرب بالذين يتَّقونه لأنَّهُ عالم بجبلَتِنا". يقول أشعياء النبي: "طوبى للَّذين ينتظرونَه لأنَّه يترأف بهم"، فرحمةُ الله إذا شاملة.
هناك أمر آخر، وهو أن الله يطالب بالرحمة. فمنطقُ النَّاس اليومَ قائمٌ على أساسٍ وثنيٍّ "إن لم تكن ذئباً، أكلتكَ الذِّئاب"، إلا أنَّ الله قد وبَّخ الوثنيِّين لأنَّهم أفسدوا كلَّ المراحم.
وبالعودة إلى أهميَّة صراخنا إلى الله، نستشهدُ بما وردَ في الكتاب المقدَّس، حيث يُروى أن يسوع التقى بأرملةٍ تسير في موكب جنازة ابنها، فأخذَته الشَّفقة عندما رأى دمعتها، فقال لها كلمة واحدة فقط: "لا تبكي"، ثم أوقفَ الموكب ولمس النعش وقال: "أيها الشَّاب لك أقول قم"، وهذا ما كان. فدموعنا وآلامنا تُحرِّكُ قلبَ الله. ويروي لنا الإنجيل حادثة أخرى عن أعمى أريحا الذي عرفَ يسوع من دعسات موكبِه وأخذَ يصرخُ من صميمِ بؤسه وظلامِ حياتِهِ وذاكرتِهِ المفقودة "يابنَ داود ارحمني"، فأسكتَته الجموع، إلا أنَّه راحَ يصرُخُ بصوتٍ أعلى، بالرَّغم من كلِّ الضَّجيج المحيطِ بيسوعَ، فسمعَهُ وشفاه. يسوع يسمعُ أنينَ كل إنسانٍ ووجعهُ أينما كان.
أمَّا الخطأة، فلا أنسب للحديثِ عنهم من مَثَلِ "الفرِّيسيِّ والعشَّار". فالفريسي اقتربَ إلى الأمامِ وراحَ يعدِّدُ فضائلَهُ أمامَ الله شاكراً إيَّاه لأنه ليسَ كبقيَّةِ النَّاس، بل عظيمٌ مهمٌّ يصوم ويصلِّي. أمَّا العشَّار فركعَ أمامَ الرَّبِّ يلتمسُ أمراً واحداً وهو الرحمة، ويصرخ تائباً "ارحمني يا الله أنا الخاطئ". والنتيجَةُ كانت أن قبلَ الرَّبُّ صلاةَ العشار، وسامحَهُ، أمَّا الفريسي فحرمهُ كبرياؤه وقلبهُ القاسي من رأفةِ الرَّبّ.
ويتجلَّى وجهُ الله الرحوم في إنجيل لوقا، الإصحاح الخامس عشر، في ثلاثةِ مواضعَ؛ مَثَلُ "الدِّرهم الضَّائع" و"الخروفِ الضَّال" و"الابن الشَّاطر". ويسوعُ أطلق على الله صفة "أبي المراحم"، أي الآبُ الذي يرحم.وفي موعظة الجبل يقول يسوع عندَ سردِهِ للتطويبات: "طوبى للرُّحماء فإنهم يُرحَمون" وهذه أعظمُ شريعةٍ لملكوتِ السَّماوات. "كونوا رحماءَ كما أنَّ أباكم السَّماويَّ رحيمٌ" (لو: 6/23). أن نكون مسيحيِّين يعني أن نكون رحماء. ويعلِّمُنا البابا يوحنا بولس الثاني ذلك عندما أطلق عليه تركيٌّ النَّار، حينها تساءل في البداية لماذا؟ إلا أنَّه بعد أربعةِ أيَّامٍ زارهُ في السِّجن وغفرَ له، فصار عليٌّ في كلِّ سنة يخرج من السِّجن في ذكرى إطلاق النار، ويقضي يومه برفقةِ البابا.
يُحكى أنَّ فتاةً فرنسيَّةً جميلةً وذكيَّة، تُتقنُ العزفَ على البيانو وتبلغُ من العمر 18 سنة كانت تسكنُ على ضفاف النَّهر الفاصل بين فرنسا وألمانيا، وفي عام 1939 اجتاح الألمان جزءاً كبيراً من فرنسا، وتمركز بعضهم في منزل الفتاة.كانت تتكلَّمُ الألمانيَّة بطلاقةٍ فظنوا أنها ألمانيَّةٌ ولم يخشَوها، بل ائتَمَنوا لها وباتوا أصدقاءَ معها، وفي الحقيقةِ كانت إحدى أهمِّ الجاسوسات اللواتي كنَّ ينقُلنَ معلوماتٍ سريَّةٍ للجنرال ديغول عن الألمان. حتى أنَّها بعدَ فترةٍ أخذت تنقل أفراداً إلى الضِّفة الألمانيَّة في مركبها، وتمكنَّت من سرقةِ وثائق سريَّة للغاية وخرائط الحرب جميعها، واستمرت كذلك لمدَّة تُقاربُ السنواتِ الأربعة. بعدها اكتُشِفَ أمرُها، واعتُقِلت. وبما أنَّ هتلرَ كانَ فنّانٌ في ابتكارِ طُرُق التَّعذيب –إذ كان يأخذُ الأولاد من منازلهم بعمر الثَّمانية سنواتٍ ويُدرِّسهم الطِّبَّ ليتفنَّنوا في إيجادِ طرقِ تعذيبٍ طبيَّةٍ- أمرَ أن تُعذَّبَ الفتاة بأبشعِ أنواعِ العذابات، ولم تشفعْ لها دموعها واسترحاماتها وصرخاتها الحارَّة، فتعطَّلَ جهازها العصبي، ولم تتمكَّن من عزف البيانو بعدها. وبعد فترةٍ تراجعَ الألمان، وأُسعفَت الفتاة بعد أن أوشكت على الموت. مرَّت السنون، وبعد 40 عاماً، أصبح الطبيبُ المشرفُ على تعذيبها رئيسَ بلديَّةٍ في ألمانيا، معتدَّاً بنفسه، إلَّا أنَّه أُصيبَ بمرضٍ، وراح يُراجع ذاكرتَهُ وصمَّمَ على مقابلةِ الفتاةِ. ووجدَها، فساعدتهُ على اكتشافِ خطئِهِ بأسئلةٍ ذكيَّةٍ، ثم أعلنت له أنَّها رحمَتْهُ وغفرَت له من كلِّ قلبها. وعندما عادَ إلى ألمانيا أخبرَ عائلته، واجتمع بمعارفِهِ وأصدقائهِ الجدد والقدامى مخبِّراً إياهم بأنَّ هذه هي المسيحيَّة الحقيقية، وهكذا تستمر، ونما بالنِّعمةِ الإلهيَّةِ.
وإذا عدنا إلى علمِ النَّفسِ نجدُ أنَّ هناكَ فرقاً بينَ الإنسانِ "الأنا" نفسه وبين مايملكه. فهناك ثلاث مراحل في "المــُلكيَّة" ومرحلةٌ واحدةٌ فقط في "الأنا".
المرحلة الأولى في المــُلكيَّة هي على سبيل المثالِ امتلاكُ الأموالِ والسَّيَّارات والجمال، وهي جميعها زائلة. والمرحلةُ الثَّانية هي امتلاكُ ما هو أهم كالذكاء والمواهب، وهي أيضاً إلى زوال، فمرضُ الألزهايمر مثلاً يقضي على الذكاء، والمواهب تشيخ وتفنى. أمَّا المرحلةُ الثَّالثة فهي "الكرامةُ"، والإنسانُ في الغالب غير مستعدًّ لمسامحةِ من يتحدَّث عنه بسلبيَّةٍ أو يؤذي كرامته، فيقيم الحواجزَ والعداوات، وما ذاك إلا لاقترابِهِ من الأمرِ الأهم بالنِّسبة لنا وهو"الأنا"، وللأسف لم نتمكَّن حتى الآن من فهمِ أنَّ من يتحدَّثُ علينا بسوءٍ لا يؤذينا، كما أنَّ من يتحدَّثُ عنا بكلامٍ جميل لا يمنحنا شيئاً. من حقِّنا أن نحزن ونفكِّرَ بما قيل، ولكن علينا أن نسامحَ لأنَّهُ في الحقيقةِ لم يؤذنا من الدَّاخل، وفي علم النَّفسِ لا أحدَ يصلُ إلى "الأنا".
يسوع على الصليب علَّمَنا كيف نرحمُ الآخرين، وهناك بُعدَين لهذا الأمر. الأوَّل مع الله، ويتمثَّل في لصِّ اليمينِ "اذكرني يا ربُّ متى أتيتَ في ملكوتِك" وقد غفرَ له يسوع. علينا إذاً أن نطلبَ الرَّحمة في كل دقيقةٍ وحتى نهايةِ حياتِنا صارخين "اذكرني في ملكوتك". أمَّا البعد الثاني فهو مع الإنسان، ونراهُ جليَّاً في مثَل "السَّامري الصَّالح". يقول يسوع في متى 25: "كنت جائعاً فأطعمتموني، كنت عطشاناً فسقيتموني، وكنت مسجوناً فزرتموني... الحقَّ الحقَّ أقول لكم: في كل مرة تفعلون هذا لأخوتي الصِّغار هؤلاء فلي فعلتموه". وهناك أيضاً مثَلُ الدَّائن الذي رحمهُ صاحب الدَّيْنِ، في حين لم يرحمْ هو صديقه.
وفي النِّهاية، علينا أن نفكِّرَ بأبعادٍ ثلاثةٍ:
الأول: علاقتي بالربِّ علاقةُ توبةٍ واعترافٍ صادقٍ وكامل. الثَّاني: ألا نُغلقَ أيدينا، بل نعطيَ الآخرين ونسامحَ بعضنا البعض بالرَّحمة والمساعدة. الثَّالث: الصُّفح، ولو كان من العدل ألا نسامحَهم، ولكن من العدلِ أيضا أن نرحَمَ.
لا تُقسوا قلوبكم، اليوم إن سمعتم صوتَهُ لا تُقسوا قلوبكم..
ملاحظة: الرياضة الروحيّة السنويّة 2011- دير دير مار يوحنا الحبيب لراهبات القدّيسة تريزا الطفل يسوع – القليعات، دُوِّنت المحاضرة من قبلنا بتصرُّف.
تتمة...